لأننا لا نملك حقيقة أسباب انحراف قطار عن سكته بمنطقة بولقنادل صباح الثلاثاء 16 أكتوبر 2018، مخلفا 8 قتلى و125 مصابا بجروح وكسور متفاوتة الخطورة. ولأن الدرك الملكي والقضاء باشرا عمليات التحقيق حول ملابسات الحادث، وأنهما وحدهما الكفيلان بالكشف عن حقيقة ما حدث. وليس علينا سوى انتظار الخلاصات وتحديد المسؤوليات بشفافية وعدم الإفلات من العقاب، تفاديا لاستمرار الفاسدين في الاستهتار بحياة المواطنين، وألا ينحرف التحقيق بدوره عن مساره الطبيعي، كما وقع في أحداث أخرى ومنها "فاجعة طنجة"، إثر اصطدام حافلة نقل المستخدمين بقطار نقل البضائع في فبراير 2018، التي أودت بحياة 7 أشخاص وإصابة 13آخرين. ولأننا لسنا معنيين باستقالة وزير النقل من عدمها، ولا بالعبث السياسي القائم وانقسام الأغلبية الحكومية حول انتخاب رئيس مجلس المستشارين، ولا بالحديث عن تلك الشرذمة من منعدمي الضمائر التي يجذبها الاصطياد في الماء العكر والاستغلال البشع للمآسي البشرية، سواء بترويج الإشاعات المغرضة وبث الرعب في النفوس، بالنفخ في أعداد الموتى والمصابين ونشر صور الأشلاء والجثث دون مراعاة مشاعر أصحابها وأسرهم وصون كرامتهم، أو نهب أموال وأغراض الضحايا بلا وازع أخلاقي، أو رفع سومة الرحلات من قبل بعض الجشعين. ولأن الكلام لم يعد مجديا عن تردي خدمات المكتب الوطني للسكك الحديدية بسبب سوء التسيير وغياب الحكامة والتقصير في القيام بالواجب أو عدم احترام مواقيت السفر وانعدام الصيانة ووسائل الراحة والسلامة وتعدد حوادث "قطارات الموت"... فإننا سنكتفي هنا والآن بمحاولة ملامسة الجانب الآخر من الحادث، والمتمثل في تلك السمفونية الرائعة التي صنعها المغاربة وبرعوا في تأليفها من أجل إنقاذ حياة الجرحى ومواساة الأسر المفجوعة، معبرين من خلالها عن نبلهم وصدق مشاعرهم، والأهم من ذلك كله ما أقدموا عليه من مبادرات رفيعة، تعكس بجلاء روح التضامن الساكنة في وجدانهم، والمميزة لهم في مثل هذه الأحداث الأليمة. ذلك أنه بقدرما كانت الصدمة قوية والمصاب جللا، بقدرما كانت الهبة الشعبية أرقى وأنقى من لدن بنات وأبناء الوطن الأحرار، حيث كشفت الفاجعة عن أصالة معدنهم وعمقهم الإنساني، ليس عبر مظاهر الحزن والتعاطف، وإنما برد الفعل السريع والانخراط العفوي في حملة التضامن والتآزر اللامشروطين، بكل ما توفر لديهم من إمكانات. إذ هناك من ساهموا بسياراتهم الخاصة في تأمين نقل الركاب العالقين إلى مدن سلا والرباط والقنيطرة والدار البيضاء. وهناك من فتحوا بيوتهم لاستقبال العائلات المفجوعة، وهناك من تهافتوا على مراكز تحاقن الدم لإسعاف المصابين، الذين نقلوا إلى مستشفى السويسي والمستشفى العسكري بالرباط، لتلقي الإسعافات الأولية والعلاجات الضرورية. هكذا وكما عودنا شبابنا، أنهم رغم ما يعانون من تهميش وإقصاء في ظل السياسات الحكومية الفاشلة، لم يفقدوا الأمل في المستقبل ويصرون على الحضور المستمر في الملمات والأحزان وكلما دعت الضرورة إلى التواجد والتعاضد، بخلاف ما يدعيه البعض ممن لا يرون فيهم سوى جماعات من الفاشلين والمتواكلين والحاقدين على الوطن ومجرد مجرمين ومنحرفين ومرشحين للهجرة السرية... فالمغاربة، ووفق تعاليم ديننا الحنيف وقيمنا الإنسانية الراسخة جذورها في عمق التاريخ، ما انفكوا يبرهنون على استعدادهم الدائم لمؤازرة بعضهم البعض سواء في جمع التبرعات وتقديم واجب العزاء عند الوفاة أو المواساة خلال حوادث السير وغيرها، والتكفل أحيانا بمصاريف الجنازة أو علاج المرضى أو في رمضان المعظم وعيد الأضحى مثلا. فقد توارثوا هذه القيم النبيلة والخصال الحميدة عن آبائهم وأسلافهم، وإلا ما كان ملك البلاد محمد السادس، ليشدد في خطاب حفل افتتاح الدورة التشريعية الخريفية أمام أعضاء مجلسي البرلمان، المنعقد يوم الجمعة 12 أكتوبر 2018 على: "أن المغرب كان وسيظل، إن شاء الله، أرض التضامن والتماسك الاجتماعي، داخل الأسرة الواحدة، والحي الواحد، بل في المجتمع بصفة عامة" ويضيف قائلا: "... ذلك أن روابط الوحدة والتماسك بين المغاربة لا تقتصر فقط على المظاهر، وإنما تنبع من قيم الأخوة والوئام، المتجذرة في القلوب، والتضامن في الأحزان والمسرات" وعلى هذا الأساس جعل شبابنا من الفضاء الأزرق منطلقا ليس فقط لحشد الجماهير وتعبئتها للتنديد بتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفشي الفساد والغلاء وارتفاع معدلات الفقر والأمية والبطالة والمطالبة بالعيش الكريم والعدالة الاجتماعية، ودعوتها إلى التظاهر السلمي والمسيرات الاحتجاجية ومقاطعة بعض المواد الاستهلاكية وغيرها من أشكال النضال الحر، بعد أن تخلت الأحزاب السياسية عن وظائفها الدستورية وانشغل السياسيون بمصالحهم الذاتية، وأفلست المنظمات النقابية بفعل تشرذمها واستبداد القادة بمناصبهم. وإنما كذلك لتكريس قيم التعاون والتضامن والدعم الاجتماعي والنفسي اللازمين، عبر إطلاق مبادرات إنسانية وقوافل اجتماعية، ترمي إلى مقاومة الجوع وقساوة أحوال الطقس خلال فصل الشتاء، وزرع بذور الحياة في القلوب الذابلة. مبادرات تسلط الأضواء على الواقع المزري لعديد الفقراء والمستضعفين والمهمشين والمقصيين والمرضى بالسرطان والقلب والسكري وأمراض أخرى مزمنة، والتخفيف من معاناتهم وتبديد الشعور بالحزن والألم لديهم. إن قطار الموت ببولقنادل أماط اللثام عن الوجه المشرق لشرفاء الوطن، وأعطى درسا بليغا لمن يشكك في روح المواطنة الصادقة لدى غالبية شبابنا، ولأولئك البرلمانيين والوزراء الذين لا يحسنون سوى البكاء الكاذب والتسابق الجنوني على المناصب والحقائب والمكاسب والحلويات بشتى أصنافها. فهل يذهب التحقيق إلى مداه وتقديم المتورطين إلى العدالة لتقول كلمتها، أم ستواصل قطارات "الخليع" رعبها والتمادي في حصد أرواح الأبرياء؟