يستوقفنا الرفض الشعبي والرسمي لما شكلته أنامل الفنان العالمي بول سيزان Paul CEZANNE، ومن هذا الرفض الجماعي لضميره الحي انبثقت أحلام التأسيس والتغيير، وانبثقت من لمسات فرشاته الساحرة المدارس التشكيلية الحديثة الانطباعية والتكعيبية والتجريدية، فهل يكون الإقصاء واللامبالاة والازدراء والدونية سببا في بزوغ عبقرية الانسان؟ وهل كان لهذا الرفض والإهمال لأعمال بول دور في اعتلائه رأس الهرم الحداثي؟ نعود إلى البدايات لنجد أنه جاء إلى الوجود سنة 1839 م في مقاطعة إيكس أون بروفونس Aix en Provence الفرنسية من أب غني وشرس في نفس الآن، فاستغل غنى أبيه في مواصلة هوايته وتطويرها وكان لشراسته دور في إقباله على العزلة - عالمه الهادئ والحافز الأكبر على الإنتاج. يقول بول في هذا الصدد: "إن العزلة هي الشيء الوحيد الذي أصلح له". ومع ذلك فقد صاحب الروائي الشهير- في الجامعة- إميل زولا فتركت هذه الصداقة آثارا متبادلة بين الفن التشكيلي والأدب الروائي شغلت النقاد زمنا طويلا ... هكذا نجده رفض الاختلاط وعارض الفوضى وركز على الإنجاز وإحكام المنجز مما تخطه يمناه، فارتبط اسمه بالمناظر الطبيعية الأنيقة لمسقط رأسه خاصة جبل "سانت جونوفيف" المطل على ايكس جنوبفرنسا، وقد تكرر في لوحاته الزيتية 44 مرة وفِي لوحاته الأكواريل مائية 43 مرة وظل وفيا للأرض التي وهبت له الحياة في جنباتها رغم هجرته إلى الديار الباريسية، إذ رسم فيها ما يفوق 60 لوحة جبل "مون سانت فيكتوار" ومن هذه " الطبيعة الساكنة" صنع بول لنفسه تاريخا حافلا ومختلفا وفريدا يقول: "هناك دقيقة معينة تعبر عالمنا هذا، أريد أن أرسمها على حقيقتها كما هي وأن أنسى خلال ذلك أي شيء في الوجود". تلك كانت فلسفته وذاك كان سر نجاحه الأشبه بنظرية الحلول العيني عند المتصوفة... وأنت تقف أمام لوحاته تجدك مقتنعا بأن الرجل لا يخاطب بصرك، بل يتحدث إلى بصيرتك مترجما ظلال الحدائق وارتعاشاتها بكيفية تجريدية تجعل اللوحة ناطقة وبصوت مسموع... أنتج الرجل فكرا وأخرج فنا رفيعا حاسما لقضية الانتماء والوجود والمرجعية، ألوان متناسبة ومتواليات خضراء موزونة إلى جانب طبيعة ميتة نسجت في أغلب الأحيان فوق طاولة قديمة منحت الحياة الأبدية وختمت بطابع متميز يذكر بروائع قرون خلت... عبقرية سيزان وخلوته إذن قادتاه لإيجاد حل لتحقيق البعد الثالث على نحو يُبقي على السطح طبعةَ التصوير، محولا سطوح الأشياء إلى مربعات دقيقة يملأها بخطوط قصيرة مستقيمة متوازية بألوان الشيء نفسه الذي تظهر عليه ولكن بدرجات واتجاهات متفاوتة وهذه التقنية الفراغية في الرسم ألهمت جيلا كاملا كان أشهر من مثله براك وبيكاسو... سيزان الذي رفضته الصالونات والمعارض وجرحه بعمق الإعراض الشعبي والرسمي لأعماله الرائدة، سيزان الذي كتب له أن يكون إبنا لأب متسلط استحق وبجدارة لقب "أب التشكيل الحديث" وهو بشهادة أهل هذا الفن ومستقبليه رائد الحداثة الأولى في فنون القرن الميت وواحدا من الذين أسهموا في الرد على ظهور التصوير الفوتوغرافي. ولد الرجل بعد موته وردمت كل الهوّات التي كانت بينه وبين منجزاته، ولا يتوقف الاحتفاء بفنه كنوع من التجسيد لعبقرية يمناه الحالمة بالقبض على الجوهر، نال سيزان هذه المكانة لاجتهاده في تطوير مداركه وتكوين ذاته وإقباله على المعارف وإخلاصه لاختياره، فكم تمنى أن يموت وفرشاته بين أنامله، لم يأبه لرفض أقرب الناس إليه لأعماله، ولَم يلتفت لازدراء الجميع ولامبالاتهم وركز على توازنه الداخلي واستقراره النفسي وتربية حواسه وبقي متصالحا مع أناه، فوضع بذلك "قاعدة في الخلود".