دعا الملك من خلال خطابه الأخير، إلى إنجاز مشاريع لفائدة الجماعات التي تعاني من الهشاشة، وذلك عبر وضع مخطط عمل مندمج، يقوم على الشراكة بين مختلف القطاعات الوزارية والمؤسسات المعنية، حيث تناسلت العديد من التساؤلات والشكوك حول مدى قدرة وإمكانية الحكومة المغربية على تفعيل الإرادة الملكية، من خلال توفير الأموال اللازمة، لتنفيذ المشروع، والتي ثم تقديرها في مبلغ 50 مليار درهم، وما إذا كان المخطط يتطلب تنفيذا على مراحل، تمتد لحوالي العقد من الزمن، ونحو ذلك من التخوفات والشكوك. وفي إطار إبداء الرأي، على ضوء اطلاعنا على جملة من النماذج في النهضة التنموية، لبعض الدول، عبر التاريخ الحديث، وعلى وقع الهشاشة، التي نعاينها ميدانيا، في صفوف فئة عريضة من أبناء الشعب المغربي، وبالنظر إلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية، التي تميز واقع المجتمع المغربي، يجدر بنا الاعتراف بداية بأننا بحاجة إلى إرساء قواعد التنمية الديمقراطية. وهكذا، يجب التذكير بأن البوادي والأرياف هي الأكثر تعرضا للهشاشة، ومصدرا رئيسيا لصناعة الهوامش في المدن والحواضر، وبالتالي لا يمكن أن تتحقق قواعد التنمية الديمقراطية إلا بالتصدي لثلاث تحديات كبرى، تواجه القرى بالأساس، أذكرها على النحو التالي : 1. التوزيع الجغرافي والسكاني للأرياف والبوادي، ووعورة الأراضي والمسالك : عوامل تشكل عائقا حقيقيا أمام التنمية المندمجة، حيث كل البرامج التنموية التي تم تنفيذها ظلت ضعيفة وربما عديمة الأثر على وضع سكان البوادي في المغرب، لسبب بسيط، ألا وهو إبقاء الوضع الجغرافي والسكاني على حاله، وبالتالي، كل المحاولات التنموية باءت بالفشل، حيث أن الربط الكهربائي وحتى الطرقي على سبيل المثال، استنفذ أموالا طائلة بسبب هذه العوائق، وكثير منها استعصى تحقيقه بسبب هذا المعطى، الذي تعاطت معه المبادرات التنموية الحكومية باعتباره وضعا مسلما به، والحال أنه بحاجة إلى تغيير جذري. 2. الوضع القانوني للأراضي الفلاحية الجماعية، خاصة تلك التي تدخل في نطاق الأراضي السلالية، حيث أن تدبيرها مركزيا من خلال جهاز مجلس الوصاية، جعلها مصدر أزمة حقيقية في حياة الفلاحين البسطاء، فكثير من الأراضي الخصبة ثم تسليم حق التصرف بها أو حتى تفويتها لفائدة الأعيان وكبار "الفلاحين"، والذين غالبيتهم ليسوا سوى كبار ناهبي أراضي البسطاء، ربما لتحقيق أهداف سياسية غير ديمقراطية، فما يمارسه مجلس الوصاية على الأراضي السلالية، لا يعدو أن يكون، للأسف الشديد، امتدادا لذات الفلسفة وذات السياسة التفقيرية في حق الفلاحين البسطاء، والتي ورثناها عن الاستعمار، الذي كان يسلب الأراضي من هؤلاء الفلاحين، ويسلمها لضباطه ومستوطنيه، لكن الوضع يكاد لا يتغير، إلا بدرجة متواضعة جدا. 3. النموذج الاقتصادي المتبع، سواء في شقه التدبيري أو الإنتاجي أو التسويقي، حيث أن الفلاح المغربي البسيط ظل منذ أكثر من خمسين سنة عرضة للتأثيرات السلبية للاندماج الاقتصادي الدولي للمغرب من جهة، وللسياسات الاقتصادية غير المنسجمة وغير المجدية من جهة أخرى، دون أن يحظى بحماية فعالة، أو توجيه يقيه تداعيات هذين العاملين، كما أن مشروع السدود لم يحقق الفوائد المرجوة منه، بل منها ما أضحى عبئا حقيقيا على الفلاحين، بسبب غياب الصيانة اللازمة، مما عرض ملايين الفلاحين الصغار إلى التهميش وإضعاف مردودية إنتاجهم الفلاحي، في مقابل إثراء الفلاحين الكبار، الذين تمكنوا من الاستحواذ على معظم إعانات ودعم الدولة، المادي منها والفني، مما جعلهم في موقع المفترس مقابل بسطاء الفلاحين، بمنزلة الفرائس. لذلك، من أجل تحقيق عناصر النجاح لمشروع النهضة التنموية المنشودة، أقدم مقترحات-حلول، ذات طبيعة استراتيجية كبرى، من شأنها أن تعبد الطريق نحو تحقيق هذه الإرادة العظيمة، لكونها تشكل قوة دفع (force motrice) لتنشيط الدورة الاقتصادية الوطنية تنشيطا سليما، يفضي إلى توزيع عادل للثروة، وبالتالي إلى تنمية عادلة وديمقراطية : 1. يجب العمل على إعادة توطين الدواوير في تكتلات جديدة، يمكن أن نسميها قرى نموذجية، بعد إيجاد وتهييئ مناطق سفحية ومنبسطة، تتوفر فيها الشروط الأساسية للبنى التحتية وللحياة المجتمعية، فالتجمعات المتناثرة لن تساعد إطلاقا على التنمية، مهما رصد لها من أموال ومن إمكانيات، كما يجب تعبيد الطرق وربط هذه القرى النموذجية بعضها ببعض وإيصال الربط الطرقي بمراكزها الحضرية، وهذا الوضع، سيمكن من تسهيل وتيسير التدفقات بين الأفراد والمؤسسات، مما سيساهم في خلق الديناميكية اللازمة للتنمية، اقتصاديا واجتماعيا، كما يجب إحياء أراضي شاسعة ، من خلال عملية استصلاح واسعة، وتشجيع سكانها على تأهيلها واستغلالها. ويمكن تحقيق هذه المبادرة بأقل تكلفة ممكنة، كما يمكن دعم المبادرات الخيرية للمقاولين الكبار في هذا الاتجاه، و تشجيع الجمعيات المحلية كذلك، من اجل تبني مشاريع إنتاجية رائدة، وخلق روح التضامن الوطني بين المواطنين لتأهيل مناطقهم ومسقط رأسهم وأصولهم، في إطار شراكة فعالة بين الدولة وأصحاب الإمكانيات والفلاحين البسطاء على حد سواء. 1. يجب إعادة النظر في وضع الأراضي الجماعية (السلالية)، بحيث تكون في خدمة المصلحة العامة لفائدة الفلاحين البسطاء، وليس كما هو الحال اليوم، فما لم يتم تفويته أو الاستحواذ عليه من أشخاص غرباء على ذوي الحقوق، يعيش على وقع المنازعات والصراعات الدائمة، ولذلك وجب وضع مخطط جديد يجعل الأراضي السلالية في خدمة نهضة وتنمية سكان المناطق الفلاحية البسطاء، ويمكن أن نفرد للموضوع تحليلا خاصا، نقدم من خلاله حلولا ممكنة لمعضلة الأراضي السلالية، خاصة في ظل التعقيدات الموجودة حاليا، والتي تولدت خصوصا بسبب السياسات المتبعة سابقا، وبسبب النمو الديمغرافي للسكان، وتزايد النزاعات فيما بينهم. 2. يجب خلق تعاونيات تضامنية مندمجة، مبنية على التوزيع التضامني للأرباح والعوائد، بين الاستثمار والتدبير والعمل، تشرف على مراقبتها مؤسسات عمومية، وتوظف فيها إمكانيات التدبير الحديث، من خلال تشجيع الأطر الخريجين من معاهد التدبير والهندسة للإشراف عليها، بشفافية واستحقاق، بما يحقق عوامل التحفيز والمثابرة والإبداع، خلافا لمنظومة التعاونيات الحالية، التي تنطوي على تدبير عشوائي مستتر، يقوده أشخاص عديمي الكفاءة والمسؤولية، مما أدى إلى بروز اختلالات جعلت من التعاونيات مرتعا للنهب والفساد، على حساب البسطاء من الفلاحين والتجار، ولا ينبغي، في هذا الإطار، تقليد النماذج الأجنبية، بل ينبغي أن ينبعث النموذج المغربي من خصوصيات وإمكانيات المجتمع المغربي. كما يجب العمل على توجيه الإنتاج الفلاحي توجيها إنتاجيا وتسويقيا سليمين، لأنه من العيب والعبث أن تترك الدولة آلاف بل ملايين الفلاحين، ينتجون القمع الطري مثلا أو غيره، ثم تلجأ إلى الدول الكبرى لاستيراده بأثمنة زهيدة، مما يسقط الفلاح في خسائر تلو خسائر، وهذا الوضع، يعكس للأسف اللامبالات العميقة بمصالح الفلاح البسيط، وغيابه في حسابات سياسة الانفتاح الاقتصادي التي يتبناها المغرب، خاصة وأن إمكانية تحقيق عائدات مهمة من منتوجات فلاحية نوعية متاحة جدا، لو وضعت الحكومة مخططا محكما لفعيل المبادرة. وهكذا يمكن إحداث وحدات تعاونية، تتجمع فيها مساهمات الفلاحين الصغار، بتسيير شفاف ومؤسساتي، وبدعم وتوجيه عمومي، ولما لا ضم الأراضي في عملية الإنتاج، كي تتحقق دورة (l'économie d'échelle)، مما يساعد في إنتاج منتوجات قابلة للتسويق خارجيا، وبأثمنة مرتفعة، كالمنتوجات الفلاحية الطبية (plantes (médicinales، او العطرية (aromatique)، أو المخصصة للصناعات البيوكيماوية، خاصة مع تنامي حاجيات السوق العالمية لبدائل وحلول نباتية من أجل مواجهة التلوث الصناعي وحاجيات التحولات الصناعية الحديثة، التي باتت تعتمد على المنتوجات النباتية النوعية، والتي يمكن إنتاجها بسهولة هنا بالمغرب، وبكميات كبيرة لو توفرت الإرادة السياسية وحسن الظن بالمواطن البسيط، والاستعداد لدعمه وتنمية وضعه، فإذا تحققت مثل هذه المشاريع في الأراضي الشاسعة، التي كثير منها غير مستغل، سيعود بالنفع المادي المباشر على الفلاح البسيط، دون السقوط في منطق الإقطاع كما هو الحال اليوم، كما يجب إحداث تعاونيات خاصة بالتسويق، حتى تكتمل الدورة الاقتصادية بين الإنتاج والتسويق، وكل ما يستتبع ذلك من مقومات التطوير والجودة والابتكار. كل هذه المبادرات بسيطة ولا تحتاج إلى جهد مالي كبير، لكن يجب التحذير من السقوط في المزايدات السياسوية، التي أرهقت المواطنين وافقدتهم الثقة في عناصر اللعبة السياسية الحاليين، بل يستلزم الأمر الانتقال من إرادة ملكية سامية، جديرة بالتقدير والثناء، إلى إرادة سياسية حكومية، إلى مخطط سياسي عملي، إلى تنفيذ على أرض الواقع، مع تقييم وتصويب مستمرين لمشروع تنموي كبير، يمكن اعتباره امتدادا للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، في نسختها الثانية. وخلاصة القول، فإنه يتحتم علينا التفكير بجدية في تغيير منهجنا الاقتصادي الليبرالي، على غرار ما بات يتداوله الكثير من الخبراء الاقتصاديين في العالم، بعدما اقتنعوا بهول ما تسببت فيه تداعيات النموذج الرأسمالي على الشعوب، بسبب مساهمته في توسيع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وصناعته للفقر والتهميش، مما ولد شتى صنوف النزاعات والحروب وانتشار للجريمة، حيث أصبح لزاما على قياداتنا، العمل على بلورة مبادرات من وحي النموذج الاقتصادي التضامني، الذي يبدو السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق الرهيب، الذي تعيشه الشعوب المقهورة، فحين يفقد المواطن حق العيش في ظروف كريمة وآمنة، يصبح الوطن مرتع للفوضى والمآسي. (*) باحث في الاقتصاد والقانون الاقتصادي بجامعة محمد الخامس السويسي، قسم التجارة الدولية رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان