الفصل الثالث عشر الفصل الرابع عشر من رواية "ناتاليا" ليوسف خليل السباعي الفصل الثالث عشر الليلة الثالثة عشر: مروان يبوح وصلنا إلى الفندق بسرعة البرق. كان طقس شهر نوفمبر باردا. غادرنا السيارة قبل ولوجنا إلى الفندق. أدفأت يدي في داخل جيبي بنطلوني. كان الفندق غارقا في الظلام، ولا يوجد سوى ضوء خافت منبثق من ردهة الاستقبال وكأن لا حركة كانت في المطعم أو في صالة البار والمقهى، أوفي المصعد الكهربائي، أو في الغرف. قلت ليوسف: اتبعني. كان يوسف مطاوعا، علمته الصنعة أن يكون صبورا، ومستسلما في آن. سأل: إلى أين؟ كنت أعرف أنه لم يحجز غرفة في هذا الفندق، لكنني أخبرت رجل الاستقبال أنه جاء لزيارة صديقه في الغرفة 710، وأنه سيغادر بعدها ولن يبيت في الفندق. هز رأسه بالموافقة، ولم يبدي أي رفض أو اعتراض. بعد برهة، كنا واقفين إزاء باب الغرفة. فتح مروان الباب.لا يزال ساهرا. كان يتابع متعجبا شريطا سينمائيا " الحب في زمن الكوليرا" عن رواية لغابرييل غارسيا ماركيز بنفس العنوان. كنت أعجبت كثيرا بشخصية فرمينا داثا في الرواية. سألت مروان عن دواعي عدم حضوره للنادي الليلة، وأخبرته بما وقع لراياناه مع الذئب بيدرو، لكنه لم يبالي. كان يفكر في العاهرة الأوكرانية التي لحست عقله. كان مصباح الغرفة غبيا وأثاثها السني غير مرتبا. لم أساله عن اسمها، عرفت فيما بعد أن مروان لم يسأل عاهرته الساحرة ذات العينين اللوزيتين والنهدين الصلبين، المؤتزرة ثيابا بيضاء، عن إسمها، لم يكن يعنيه إسمها في شيء، كل ماكان يهواه فيها جسدها البض وشيئها البديع. استغربت عندما باح لي مروان بوجود يوسف الصانع الذي التزم الصمت كما لو أنه يرغب في سماع حكاية مروان من البداية إلى النهاية، استغربت لأن مروان لا يتحدث عن نفسه إلا في أوقات تكون الخمر لحست عقله، أما الليلة فقد أخرج ما في كنانته: قال مروان: – " ياسادة ياكرام…… تدخلت حالا وقلت له: – مهلا يامروان…عد إلى رشدك، واحكي بالتي هي أحسن. – هل ترى أنني أخرف. – لا. – إذن لترهف السمع إلى ما سأقوله وبعد ذلك فلتحكم.. – لست بحاكم. – سأبدأ والحالة هذه. ظل يوسف مشدوها كما لو وقف على رأسه الطير. قلت لنفسي: لقد أصبح وجوده كعدمه. اسمعوا وعوا، قال مروان، وهو يقلد مواء القطط ونباح الكلاب قلت: لابد أنه شرب كثيرا الليلة أو به مس من الجنون الأوكراني. خشيت أن يوقظ بعض الإسبان المجاورين لغرفته. اسمعوا، قال : – " في ليلة قمرية داخل ملهى صادفت نجمة. كانت شقراء رقيقة كالريشة أو كالفراشة. قلت يا إلهي: لن تكون هذه الحسناء الفارعة الطول ذات الشفاه الحمراء الفاتنة الفتية والعينان اللوزيتان والشعر المديد المنسدل على كتفيها كشعر حصان عربي إلا من نصيبي. حسبت أن السماء أرسلت لي حورية تنير حياتي وتبعد عني أحمال الهم والكدر. فدخلت بها بعدما سلمتها الفلس الأبيض الذي ينفع في اليوم الأسود، وتنزهت في حقولها النضرة وبساتينها الجميلة، فأعادت لروحي الطمأنينة وأبعدت عني أوجاع السقم، لكنني لم أكن أعرف أن هذه الساحرة الأوكرانية المتدربة تدريبا محكما في فنون الدعارة ستسيطر على عقلي، وتذهب عن جفوني لذة النوم. وها أنتما كما تريان حالي لا يبتعد عني السهر والسحر قيد أنملة". قلت له: – أعرف بعض ما قلته، لكنني أحس بمشاعرك يا صديقي، فالحب قاتل، وحب العاهرة أصعب، خصوصا إذا كانت أوكرانية. وفي رأيي المتواضع أن الحل الأنسب لواحد في مثل حالتك هو الرحيل والنسيان. وليكن الله في عونك. – دعنا من هذا. لقد قررت أن أرحل غدا إلى تطوان. – كنت أرغب في سؤالك عن ناتاليا. – حالها يصعب على الكافر، وهي حزينة، وقافلة عليها باب غرفتها. لا تتمنى سوى…. – ماذا؟ – صعب. – الموت. – كل من عليها… لكن بيدرو الذئب هو السبب – سينال جزاءه – المفردة التي لا تروق يحيى. – متى ستنتهي هذه الحكاية؟ – لا أدري. لتسأل السارد. – دعنا من هذا. هل علمت أنباء عن تطوان. – لا. لا جديد. – أنا أعرف. – ماذا يجري هناك؟ – صديقنا إبراهيم سافر إلى أمريكا ليشارك في لقاء حول " القيادات المحلية". – هل سيصبح قائدا؟ – وغيروا محافظ تطوان وقبض منصبه محافظ المضيق. – وسيشارك فاعلون من المدينة في مسيرة شعبية حاشدة بالدارالبيضاء – تضامنا مع المغاربة ضحايا أحداث العيون. – وضد الحزب الشعبي الإسباني المعادي لقضايا المغرب. – أعرف هذا الحزب البهلوان. أعرف يامروان. وأتمنى لك ليلة سعيدة – هل تود أن أوصل لك رسالة إلى أهلك في تطوان، سأغادر إشبيلية غدا صباحا. وسأشارك في مسيرة الدارالبيضاء. – لا. شكرا. أرجو أن يكون كل شيء على ما يرام. ودعنا أنا ويوسف مروان. كانت الغرفة دافئة. في الخارج كان الصمت يلتف على الفندق. الجميع نيام. ودعني يوسف، قال إنه سيغادر غدا إشبيلية للتحضير لمعرض الصناعة التقليدية في العرائش. دخل إلى المصعد الكهربائي، فيما دلفت أنا إلى غرفتي رقم 701، أحسست بإرهاق شديد، والتحفت ببطانيتي النقية، النظيفة. تذكرت ناتاليا. وحزنت لحزنها. وفكرت في طريقة لإنقاذها من براثن الذئب بيدرو. كيف ذلك؟ كانت الليلة طويلة. فكرت فيما قاله مروان عن العيون. رأيتني في المنام حبة رمل، وتذكرت ما فاه به عبد الكريم الطبال ذات مساء: و إنني حبة رمل …في مدينة العيون كنت جهرت بالذي في السر وكنت قلت للجهات كلها : أنا حبة رمل في مدينة الرباط في مدينة تطوان وتحت كل ماء في سبو وفي لكوس وفي بقية الأنهار …………… نعم أنا حبة رمل في مدينة العيون الفصل الرابع عشر الليلة الرابعة عشر: مسدس بيدرو شيء كان يدبره الذئب بيدرو. كنت أعرف أن أريج تلج كل يوم مكتبه الفخم بالنادي لتخبره بما يقع داخل النادي. ذاك ما كشفته لي إيليا. فرغم رعونتها، وحيوانيتها، وعلاقتها الجنسية المتواترة مع عبد القادر الذي كان يصرف عليها بدون حساب، إلا أنها لم تسقط في فخ بيدرو الذي أغواها وهددها مرارا بمسدسه الذي يخبأه في درج مكتبه الأنيق لتكون جاسوسته. أسرت لي إيليا أن أريج " عين بيدرو"، الذي يغيب لفترات عن النادي ، بيد أنه يعرف ما يدور فيه. عاشت أريج في حي" أربات" قلب عاصمة الثلوج "موسكو" النابض الذي يحمل بمعماريته نكهة القرون الماضية، اشتغلت صغيرة في مطعم، ثم طردت منه من طرف مسيره لعدم إتقان عملها، ومن هناك بقيت تائهة في الشوارع، ضاقت مرارة التشرد والفاقة والاغتصاب، إلى أن صادفت ذات صباح خريفي عجوزا في طريقها. عطف عليها فعاشت معه أحلى الأيام، إلا أنها طمعت في نقوده التي كان يخبأها في خزانة الملابس بغرفة النوم، عرفت بؤرتها وسرقته، هربت، وهاجرت إلى رومانيا وهناك تعرفت على ترايان الذي ساقها إلى الركوع أمام قدمي الذئب بيدرو الذي أضاقها أصناف العذاب وجعلها عينه على زميلاتها البغيات. أحسست أن أريج لم تكن راضية بما تقوم به في قرار نفسها، لكنها لم تكن قادرة على مافيا القواد بيدرو، وجسدها لم يعد يحتمل المزيد من آثار التعذيب. دلفت إلى النادي الليلي الإشبيلي، لم أهتم بالحارس الإفريقي الأسود ولا بالجثة الهوائية التي رنت إلي بغلظة بناظريها. كان لهذه الليلة طعم خاص، كانت مختلفة نوعا ما عن الليالي الأخرى، كنت أدرك بعمق أن هنا سيتحدد مصيرنا أنا وناتاليا، إما أن ننجو بجلدنا من شدق الذئب بيدرو، أو يفترسنا في طرفة عين، ويرمي لحمنا للكلاب، نصرعه أو يصرعنا، لكن كنت آمل ألا يعترض طريقنا، كنت أحمل في جيب بنطلوني الرمادي مدية. قلت لنفسي: – " لو اقترب مني بيدرو سأخرج أحشاءه أمام عينيه، ولن أخشاه". كنت أعرف أنني لم أضرب أحدا طوال عمري ولو بحجرة. وإن فعلت ذلك، فلم يكن الأمر مقصودا. كنت مسالما. لا خوفا من الآخر، ولكن الحياة علمتني أن أكون هادئا، كانت أمي تأمرني، وهي تمسح عرق جبينها بكفها اليمنى، هكذا: اجلس أنت وأختك بالباب، ولاتتحرك، فأجلس هادئا إلى أن تعود، وتأمرني بالدخول، كانت أمي قاسية بعض الشيء، هكذا كنت أتصورها في أول الأمر، لكنني غيرت هذه الفكرة فيما بعد، فهي تملك قلب عصفور، وجناح حمامة، وكنت أحبها كثيرا، تضربني، إذا فعلت أمرا غير صائب، وكنت أسال نفسي: ماهو الشيء الصائب أوغير الصائب، ولا أجد في سني ذاك أي واحد يشفي غليلي، فالكبار يعرفون أكثر من الصغار، هكذا قيل لي. خلافا لأمي كان أبي رجلا طيبا، ومثقفا، كانت خزانة كتبه ملاذي، أقضي فيها معظم وقتي، ومن هذه المكتبة الضخمة، التي سرقوا منها كتبا حينما تركنا جزءا منها في دارنا القديمة، تعلمت… أذكر ذات مساء كنت ألعب مع خالي رضوان الأصغر مني وجلال في حديقة ألعاب، نزل حجر من السماء ، جعلني أصرخ وأجري وجزء من جبهتي مضرج بالدماء إلى أن وصلت إلى دارنا القديمة، وتعالجت. لكنني مع توالي الأيام لم أبق كالحجر، وصرت شجاعا، حيث كنت أتأثر كثيرا بالأفلام الهندية وأفلام الكراطي بسينما المنصور، وأطبق ذلك في الشارع متوهما أن ما يجري على الشاشة الكبيرة واقع، وحقيقي. ذات مساء، تعاركت على ركام من الرمال مع أحد الفتوات الذي كان يعتدي على أطفال الحي، فصرعته وجعلته يأكل الرمل بالقوة حتى تراخت قواه وبدأ يستعطفني لأطلق سراحه. ولا أدري من أين كنت أستمد تلك القوة، أو أنني كنت أريد أن امسح تلك الصورة الهادئة التي ارتسمت في مخيلتي، صورة المخلوق الحجرة. فكرت في مافيا القواد بيدرو، وغلظة الذئب بيدرو، الذي قالت عنه أريج إنه يخفي مسدسا داخل درج مكتبه بالنادي الليلي، وأنه لا يتردد في التهديد به أحيانا أو استعماله في عمليات مشبوهة. وهكذا تحسست بأصابعي جيب بنطلوني الأيمن لأطمئن على المدية إن كانت مازالت في موقعها، لقد تملكني في لحظات إحساس غريب أن بيدرو سيقتلني بمسدسه، وتخيلته يطلق رصاصة من مسدسه بعدما سحب الزناد، فأسقط صريعا والدماء تنز من ناحية صدري وتملأ النادي كيم. لا أدري، لماذا تحديدا فكرت في هذا الأمر، أو لعله الوسواس الشيطاني، الذي يدفعني لأستعمل كل قواي لأصرع الذئب بيدرو بطعنة مدية غائرة، وأخلص العالم من شره. في هذه الأثناء، جاءت أريج، همست: – ناتاليا علمت أنك هنا وتريد أن تصعد عندها لغرفتها. سألتها: – هل وقع لها مكروه؟ – لا. – سأصعد حالا. راحت أريج ناحية الكونطوار، طلبت قدح ويسكي، فيما أنا صعدت إلى غرفة ناتاليا دون أن يشعر بي أحد. كنت على يقين أن أريج ستتبع خطاي، وأنها ستتصنت من فتحة باب الغرفة على الحديث الذي سيدور بيني وبين ناتاليا. دخلت، كانت ناتاليا واقفة كفراشة حزينة، لكن وجهها كان شاحبا ومتشحا بالسواد كأنها في حداد. لابسة فستانا أسودا. حزنت لحزنها، لم تقو ناتاليا على نسيان راياناه، كانت توأمتها، كاتمة أسرارها، هي الوحيدة التي كانت تذكرها ببوخارست وأيام صباها، كانت وردة حياتها، التي سحقها القواد بيدرو. كنت أعرف أن ناتاليا عازمة على الانتقام منه، لهذا تعاطفت معها، فهو مثله مثل زبيدة الفاسية طليقته التي "خنزت…". اللعنة…. في هذا الوقت على وجه التحديد تذكرت صديقي ريكاردو، ولا أدري لماذا حضر طيفه في فضاء الغرفة كسحابة عابرة. كان ريكاردو نبيلا كإيمان حبيبتي. وتذكرت كل رفاقي الذي غادروا إشبيلية وتركوني وحيدا، مروان، يحيى، يوسف، ونوفل العابر، كلنا عابرون. ولم أعرف أين اختفى عبد القادر. لم أسال عنه إيليا. قلت لناتاليا وأنا أذرف الدمع: – قررت أن أساعدك على الرحيل. – لا داعي. ستعرض نفسك للهلاك. أفضل أن أموت وأرتاح من أصفاد العبودية هذه… – لن أتركك تخاطرين بحياتك.. – كفى.. دعني أرحل.. – أنا جئت من أجلك ناتاليا. – يجب أن تعود إلى مسقط رأسك. – لا فائدة ياناتاليا… – دعني أتحمل أرزاء الدهر. – لا. – وداعا. – ……. لم أتمالك أحاسيسي المرتبكة. تحسست المدية القابعة في جيب بنطلوني الأيمن مازالت في مكانها، هبطت ناتاليا الدرج، تبعتها، لمحت أريج تهبط على عجل الدرج خائفة أن ألمحها. كانت ناتاليا قد حزمت حقيبتها عازمة على مغادرة النادي الليلي الإشبيلي الذي كدر صفاء حياتها، ويذكرها بمقتل راياناه. خرج بيدرو من مكتبه صارخا كثور هائج: – "توقفي ناتاليا لن تغادري النادي بهذه السهولة… توقفي يا بنت الكلب". لم تنبس ببنت شفة، اقترب ناحيتها لصفعها، حاولت التدخل لأحول بينه وبين ناتاليا، لكنه لكمني في وجهي بقبضة من كفه، ومنعني من التدخل. أخرجت مدية فضية لمعت في النور الذي أضاء النادي وحاولت طعنه بها، إلا أن الحارس الأسود الإفريقي أمسك يدي وبقوة تغلب علي وأزال المدية. لم يلتفت إلي بيدرو ورنا إلي بقسوة بناظريه وكأنه يقول لي الحساب معك سيكون عسيرا أيها الماروكي. حاول أن يجعل ناتاليا ترضخ لرغبته بالبقاء، إلا أن ناتاليا اندفعت مسرعة وحقيبتها تتطاير في الهواء، فاستل المسدس من جيبه الداخلي وأرداها برصاصة واحدة، انطلقت في اتجاه قلبها. لم يتركني الحارس الأسود الإفريقي أنظر إلى جسد ناتاليا المسجى في دمه الذي كساه ضياء قمري، فصرخت ملء فمي: – " حبيتي ناتاليا". ساعتها تيقنت أنني أحببتها فعلا. لكنها اختفت الآن، ولن أراها أبدا. غادرت الفندق صباحا. كان النور قويا، كروي الشكل، جعلني لا أبصر ما حولي جيدا، فأنا- كما تعرفون- كائن ليلي، وأعشق الليل حد الوله. لقد اشتقت إلى تطوان. كان النور يتبع خطاي. تذكرت الليلة التي سمعت فيها صوتا قادما من الشارع الآخر، كانت فتاة تسير وحيدة بين أشجار النخيل في الظلام مثل السلحفاة، لكنني لم أميز وجهها. ثم فجأة اختفت، لا أعرف لماذا تظهر لي هذه الفتاة للمرة الثالثة؟… ربما… ستكون المرة الأخيرة. انتهت ليلة 28 نوفمبر 2010