أذكر أنني كنت قد حضرت اجتماعا سياسيا، و كنت حديثة العهد بالسياسة، و كنت مثالية جدا و أخلاقية جدا و الأهم من ذلك كنت أعتقد دائما أنني على حق و صواب و أن كل من لا يشاطرني مثاليتي فهو انتهازي و لا يستحق احترامي . و في ذلك الاجتماع تطرق بعض الإخوة كيف أن الحزب يدعم الفاسدين و الخونة، و كيف أنه يموقع من باعوا الحزب و خانوه. فكان جواب المسؤول الحزبي أن الحزب بكله و ليس ببعضه و أن الحزب هو لجميع المغاربة و لا يميز بين الصالح و الطالح. هذا الجواب بدا لي استفزازيا و أشعل الدماء في عروقي و لكنني التزمت الصمت حينها خاصة أنني كنت قد خرجت لتوي من تجربة قاسية مع النقابات رأيت من خلالها كيف يمكن للشر و الظلم أن ينتصرا و كيف يمكن للنزيه و الكفء أن يذل في بيئة يغلب عليها الفساد. عدت إلى منزلي محبطة؟ ربما.. حزينة؟ لا أدري.. تائهة؟ جدا... المهم عدت و أنا أفكر بجدية أن أنسحب من العمل السياسي و الحزبي. بدت لي في تلك اللحظة النقابات و الأحزاب غطاء لشرعنة و حماية الفساد و أصبحت تبدو لي بعض الهياكل أشبه بمافيا ينقصها العراب. و لكن و بالمقابل العمل السياسي كان يستهويني كما أنني مقتنعة بحزبي و فخورة بانتمائي له و هو بالفعل لم يهمشني و لم يقصيني رغم اختلافي الدائم مع بعض الأشخاص فيه، كما أنني بفضله تأطرت و تعلمت أشياء كثيرة لم أدرسها في المعاهد العليا و لا توجد في الكتب أيضا. تعلمت فن تصفح الجرائد و لغة الرسائل المشفرة بين الخصوم السياسيين كما أصبحت أكثر وعيا بمختلف الآفات الاجتماعية و أكثر استشعارا للمناخ العام السائد، كما أن الحزب سمح لي بنسج علاقات إنسانية عميقة مع مختلف أصناف و شرائح المجتمع و علمني أن أكون أكثر انفتاحا. و لكن إحساسي باستفحال الفساد و الظلم في المجتمع كان يرهقني في أعماقي و بعد أن كنت مشرقة و مقبلة بنهم على الحياة أصبحت مثقلة بجراح و هموم فوق طاقتي و خاصة أنني كنت وقتها مقتنعة و متيقنة بعد ما كنت أرى و أسمع أن السياسيين هم بؤرة الفساد في البلاد و أن دور الأحزاب في حقيقته يجب أن يكون هو محاربة الفساد و المفسدين و ليس حمايتهم و طلب ودهم و مغازلتهم و حماية مصالحهم. في خضم صراعي الداخلي الذي أرهقني نفسيا و فكريا، جاءت الثورات العربية و عرف المغرب حراكه السياسي مع حركة عشرين فبراير التي كانت تدعو إلى سقوط الفساد و المفسدين. أصدقاء كثيرون أعرفهم و أكن لهم الاحترام و التقدير لنزاهتهم و حسن خلقهم خرجوا مع حركة عشرين فبراير و لكن لم يكونوا مؤطرين سياسيا و لهذا خرجوا بعفوية و تلقائية. و كان من المفترض علي و أنا التي كنت أومن بمحاربة الفساد حتى النخاع أن أدعمهم و لكنني كنت من أشد المعارضين لحركة عشرين فبراير لأنني تعلمت من السياسيين تكتيك المزايدات بالقضايا العادلة و تعلمت أيضا أنك إذا أردت أن تفهم رجل السياسة فلا تهتم كثيرا بكلامه و بشعاراته و لكن تأمل و ركز على وسائله و سلوكه و قنوات تواصله. و من هذا المنطلق، فحركة عشرين فبراير لم تبدو لي حركة وطنية تريد فعلا الخير للمغاربة و لكن بدت لي أنها تريد فقط أن تركب على أحزانهم و مشاكلهم لغرض في نفسها لا يعلمه إلا الله ، فهي كانت تبحث دائما على تغطية أنشطتها من طرف القنوات الأجنبية وخاصة الجزيرة و فرانس 24 كما أن تضخيمها للأحداث كان واضحا، كما أنني كنت ألاحظ أن تغطيتهم لمظاهرات 20 فبراير عبر شرائط اليوتوب التي ينشرونها كانوا يستخدمون فيها مؤثرات الصوت و الصورة ليبالغوا و يحرفوا الوقائع كما كانوا يستفزون الأمن و ينبطحون أرضا ليتباكوا و يصرخوا و ليتمسكنوا أمام العالم ليظهروا المخزن المغربي كأداة للقمع فقط. لهذا بدل ذلك، انخرطت بعفوية و بحماسة لأدعم الدستور. لا أعرف إن كنت مقتنعة بالدستور و قتها أم لا و لكن في أعماقي كنت أدرك أن فحوى الدستور في هذه المرحلة ليس مهما. فغالبية المغاربة و بتركيبتهم الاجتماعية المعقدة و بارتفاع نسبة الأمية فيهم لا يفقهون و لا يحترمون القوانين فما بالك بالدساتير. فالأهم من الدستور كان بالنسبة إلي هو فن التعايش مع بعضنا و تقبل اختلافاتنا و احترام ذواتنا و ذوات الآخرين و الابتعاد عن جلد النفس و جلد الأخرين أيضا و تبني مبدأ التفاؤل و العمل الجماعي و التشاركي كوسيلة لبناء مغرب قوي و منسجم يسعد مواطنيه و يوقظ حواسهم ليمنحهم البهجة و اللذة و الرغبة في الإبداع و الحياة و العطاء. فالدستور كان يبدو لي تمرينا لجميع المغاربة الهدف منه ترسيخ ثقافة الحوار و التأكيد على أن ثمة أشياء ستتغير و بأن التغيير أصبح ضرورة و واجب . فالحياة الكريمة لا يضمنها الدستور و لكن يضمنها التدريب المستمر على تقبل الأخر و احترامه و الممارسة اليومية لفن تدبير الاختلاف. فمشاكلنا هي شأن داخلي و لا يمكن حله أو فهمه إلا عن طريق مشروع مغربي مغربي و من هذا المنطلق الدستور كان يبدو لي حلا مبدعا و منطقيا. الطريف أنه في خضم انغماسي في حملات التوعية التي نظمها حزبي في الإقليم و التي كنت أحرص على الحضور فيها و الذي أطر في مستهلها عددا من الشباب القاطنين بالجماعات القروية و لأن الحوار بين الشباب حول الدستور في غالبه كان مفتوحا و حميميا و لأنني لأول مرة أشارك في مثل هذه الحملات عن قرب فإنها كانت فرصة رائعة لي لأفهم جزءا من المغرب العميق، و كانت أيضا فرصة مناسبة لي لأغير نظرتي على كثير من المسلمات التي كنت مقتنعة بها و أعيد مراجعة أفكاري و مواقفي. و اكتشفت أنني كنت متحاملة دائما في نقاشي كلما تعلق الأمر باحترام و تطبيق القانون و محاربة الفساد و بدأت أفهم و أنا أتأمل الأوضاع و الأشخاص من حولي أنني كنت مثالية جدا و أستشهد انطلاقا من عالم افتراضي و نظري لا يوجد إلا في الكتب و لكن الواقع شيء أخر و فهمت في نهاية المطاف أنه ليس مهما أن تكون على حق و لكن المهم هو أن تكون فعالا و من أجل ذلك لا بد أن تقدم بعضا من التنازلات. فالخير و الشر غالبا ما يتلاقيان في محطات عدة و أوليس صحيحا أن اللون الأبيض ليس إلا مزيجا لكل الألوان؟. لهذا لما ترأس حزب العدالة و التنمية الحكومة فرحت في أول الأمر و إن لم أكن أنتمي إليه و لكنني رجوت خيرا فيه و اعتقدت أنه سيرسخ الشفافية أكثر و سيعيد الأمل في نفوس النزهاء و الشرفاء المطحونين في هذا البلد. و لكن مراقبة و تحليل الثلاثة الشهور الأولى من أدائهم الحكومي جعلتني متأكدة أنهم لن ينجحوا لأنهم كانوا يتصرفون كما كنت أتصرف في الماضي مع فارق بسيط أنني وقتها كنت مبتدأة جدا و حماسية جدا و انفعالية جدا و ذاتية جدا و أعتقد أن العالم يدور في فلكي و أنني وحدي من يملك الحقيقة. فكانوا يهاجمون كل مسؤول خالفهم أو شموا فيه رائحة الفساد فخلقوا عداوات مجانية مع مختلف الأطراف و إن كان ربما في العمق معهم حق و لكن طريقتهم جعلت الجميع يتحد ضدهم، كما كانوا يقفون على كل ملفات الفساد تعلق الأمر بأحزاب الحكومة أو أحزاب المعارضة، تعلق الأمر بتغيب البرلمانيين و الوزراء أو باستعمال سيارات الحكومة خارج أوقات العمل مما فتحوا عليهم جبهات متعددة فضيعوا وقتا كبيرا في جدل عقيم و في نقاشات بيزنطية و في تبرير سبب الإخفاقات المتتالية. خطأهم كان استراتيجيا بالأساس لأنهم كانوا يحاولون أن يثبتوا للمغاربة أنهم على حق و ربما هذا هو الفرق بينهم و بين حكومة الاستقلال سابقا برآسة السيد عباس الفاسي الذي كان يحاول فقط أن يكون فعالا و مؤثرا انطلاقا من واقع يعيه جيدا دون أن يسقط في فخ المثالية الدونكيشوطية. فهكذا أصبحت تبدو لي حكومة بنكيران و بدل أن تزرع الأمل في نفوس المغاربة فإنها أحبطتهم أكثر و مارست عليهم القمع النفسي. فالمغاربة اليوم متشائمون أكثر لأنهم و بعد أن فشل اليوسفي و فشل بنكيران أصبح لديهم شبه اليقين بأن لا شيئ سيتغير في بلدهم و الخطورة تكمن هنا لأن بنكيران إذا فشل سيشرعن الفساد أكثر و سيقويه أكثر و سيتقبل المغاربة واقعهم بمرارة و كأنه قدر محتوم لا مناص منه و لا يمكن التغلب عليه. بينما التجربة كان بإمكانها أن تنجح و أن تحقق بعضا من النتائج الإيجابية لو تصرف السيد بنكيران كرجل دولة و كسياسي و تجنب الفرقعات الإعلامية و قضى حوائجه بالكتمان و لو لم يسقط في فخ الجدل العقيم و محاولة الإثبات المستمر للجميع أنه على حق و خاصة أن السيد بنكيران نجح فيما عجز الكثيرون عن فعله حيث حبب للمغاربة عالم السياسة و جعلها أكثر شعبية من كرة القدم. فليس مهما أن تكون على حق يا رئيس حكومتنا، المهم هو أن تكون فعالا.