كنت أهُمُّ بالنوم عندما حدثتني نفسي الأمارة بالسوء أن ألقي نظرة على آخر الأخبار في الشبكة الدولية، و كان الخبر "المفاجئ" هو إعلان جماعة "العدل و الإحسان" الانسحاب من حركة العشرين من فبراير، كتبتُ مرارا عن هذه الحركة و عن كونها أمل هذا البلد و إرهاص ثورته القادمة و العقبة الكؤود أمام عودة أصحاب المشاريع المجتمعية الذين لا يفَرِّقون بين الوطن و الكعكة، ويريدون عجننا و إعادة تشكيلنا في قوالب أوهام تعشش في أدمغتهم المريضة. وهاهي اليوم جماعة "العدل و الإحسان" قوة هذه الحركة و ضمان امتدادها تعلن انسحابها من حركة العشرين، و في نفس الآن تجعل هذا العبد الضعيف يؤجل النوم إلى حين تسطير كلمات تُمكِّنه هو أولا من فهم هذا القرار التاريخي حقيقة لا مجازا ، أي بما هو قرار سيؤثر شاء من شاء و أبى من أبى على مستقبل الحركة الاحتجاجية و سيكون له الأثر الأكبر على شكل الاحتجاج في البلد في غياب الجماعة الأكثر تنظيما و انضباطا فيه. للجماعة أسبابها التي تجعلها تقرر الانسحاب من حركة العشرين و سأحاول مقاربة بعضها مما كنت أستشف قدومه من بعيد، وقبل ذلك أقول إن مكان الجماعة كان دائما و لا إخاله إلا سيبقى مع المستضعفين شرعا و طبعا كما علمني أستاذي الفاضل عبد السلام ياسين، واستكناهي لأسباب انسحاب الإخوة من حركة العشرين ينبني بالأساس على معرفة بهذه الجماعة كان خلفها صحبة طويلة من داخلها وخارجها، لأن ما يجمع الإنسان بتنظيم ليس فقط ولاءا غير مشروط ولكن إحساسا عميقا بالانتماء لنفس الفكرة و اقتساما مزمنا لنفس الحلم. وما أوصلتني إليه تقديراتي في تفسير سبب انسحاب الجماعة من حركة العشرين من فبراير يتلخص في أربعة أسباب أوجزها فيما يلي: 1- التكلفة السياسية : انضمام جماعة العدل و الإحسان لحركة العشرين جعلها عرضة لحملات تشويه لا داعي للتذكير بحجم قذارتها كما كان أعضاؤها موضوع متابعات قضائية مفبركة لا تنتهي، و لم يجد كل ذلك في المقابل مساندة حقيقية من طرف ما يسمى بالمجتمع المدني بل كان جزاء الجماعة على كل ذلك أن تُتَّهم بمحاولة "الركوب" على حركة العشرين حتى من "حلفائها" في الحركة. 2- السبب الآخر و الذي لاحظه الكثيرون و كتبوا عنه هو هذا التعالي و الأستاذية التي يتعامل بها بعض فلول اليسار مع الجماعة، والمصيبة أن مبلغهم من العلم يُثير الشفقة عندما تسمع لقولهم. و في الوقت الذي يلمزون فيه الإسلاميين بأوصاف الظلام و الرجعية و الأصولية يريدون بعث الروح في رمادهم بنفخة من الجماعة التي يرمونها بكل تلك الأوصاف، وهذا حزب من هذا اليسار بدأ ،قبيل الانسحاب ، يصرف من رصيد حركة العشرين مُصْدرا وعيدا بمعارضة ساخنة ليس له الوزن الكافي لإنجازهِ إلا بتملقه لحركة العشرين و "قوتها الضاربة": "العدل و الاحسان". 3- السبب الثالث في تقديري هو قيادة حزب العدالة و التنمية للحكومة، ليس بمعنى مساندة الجماعة للحزب الإسلامي و لكن للحرج الواقع في بنية الصراع السياسي المغربي لما بعد انتخابات 25 نونبر، فقيادة حزب إسلامي للحكومة هو نجاح للمخزن و لاشك و التفافة ذكية له لاجتناب مصير الأنظمة الاستبدادية في البلاد العربية، و لكن انتصار المخزن يمتد أبعد من ذلك لأن الذين سيعارضون الحكومة المقبلة سيفعلون ذلك لأسباب يشوبها بدورها تعارض يستلزم وقفة من الجماعة لتقدير الموقف حق قدره، فمن المعارضين من سيحاول بكل الوسائل "شيطنة" حزب العدالة و التنمية ليس لفشله في الاستجابة لانتظارات الناخبين و لكن لإسلاميته، و من ثم سيكون الإسلام هو هدف المعارضة و ليس الحزب الإسلامي. فهل تقف الجماعة على نفس الأرض التي يقف عليها دعاة اللائكية و أعداء كل مظاهر التدين في المجتمع؟ ذلك موقف لا يريد أي إسلامي أن يقفه. و تفكير الجماعة في مخرج للمأزق الذي وضعها فيه المخزن و "العدالة و التنمية" يلزَمه رجوع إلى الخلف من أجل امتلاك رؤية في مستوى تعقد الواقع السياسي و الاجتماعي الحالي، و الانسحاب من هذا المنظور قرار حكيم وفي حينه، و لا إخال حزب الاتحاد الاشتراكي ،الذي أَيِسَ قادته الأبديون من الاستوزار في حكومة "العدالة و التنمية" فاخترعوا أكذوبة الحفاظ على الهوية، إلا يقولون: "لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا لقبلنا أي شيء يجود به السيد بنكيران على معارضة بلا بعبع "العدل والإحسان" في الشارع". وربما كان قرار "العدل و الإحسان" بالانسحاب إعلان بالضجر من توظيف الإسلاميين فزاعة يرفعها المفسدون جميعهم، مخزنا و دكاكين حزبية، لتأبيد قبضتهم على البلاد، وحتى لو كان مآل حكومة السيد بنكيران هو الفشل في نهاية المطاف، وتلك قناعتي لتمَكُّن الفساد في البلاد بِقَدْرٍ لا تكفي السلطات "الممنوحة" للحكومة لاسئصاله، فإنها تستطيع و لاشك أن تُقدِّم أكثر مما قدمته حكومات التناوب، إن قدَّمتْ هذه شيئا من الأساس. وما سطرته ليس دفاعا على حكومة الحزب الإسلامي و لكنه إقرار بأن هذه الحكومة هي كل ما استطعنا الخروج به من هذا الربيع العربي، و إن كنا نستحق أكثر من ذلك لولا أن هذا الحزب استعجل أمره و قبِل بالفُتات من السلطة لحل مشاكل تكاد تلزمها سلطة مطلقة. 4- السبب الرابع في نظري و هو في جوهره لا ينفصل عن باقي الأسباب و قد أشرتُ إليه في الكثير مما كتبتُه قبل ذلك، وهو إصرار البعض في حركة العشرين على خلط الأوراق بالدعوة للائكية و توظيف الحركة لتلك الدعوة و هو أمر لا يستقيم مع وجود أكبر تنظيم إسلامي مغربي داخل الحركة، و قد كتبتُ مرارا عند حديثي عن حركة العشرين عن هذه المسألة لأنها في اعتقادي هي ما سيحسم في النهاية في مصير الحركة، و قد كان من نتائج هذا الخلط و الاستغلال أن انسحبت الجماعة من صفوفها. كتبتُ قبل ذلك و أعيد هنا للذكرى: "والذي يبدوا لي أن الكثير من شرفاء هذا البلد لم يجدوا من سبيل إلا السير قُدُما نحو تكوين ما أسماه "الرفيق" غرامشي "بالكتلة التاريخية"، والتي يجتمع فيها المظلومون ليقولوا لاقتصاد الريع وللمحسوبية وشطط السلطة وفساد القضاء...كفى من نكد هذا البلد "المخزني" واقفين جنبا إلى جنب من أجل مستقبل أفضل لهذا البلد ولأبنائنا، و إن كان لسان حال بعضهم يقول مع شاعر العربية الكبير، المتني: ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى عدوا له ما مِن صداقته بُدُّ غير أن الرؤية داخل هذه "التجمعات" الاحتجاجية لم تكتمل ولم تتضح بعد حتى "تستحق" وصف "كتلة تاريخية"، ويلزمها نظرٌ تمشي على هديه، و إلا فإن مآلها الفشل وذهاب الريح، بالمنازعات التي لا تخدم إلا بقاء الوضع على ما هو عليه. ولا سبيل إلى رؤية واضحة تخدم سياسة جديدة و جدّية في هذا البلد وتكون في مستوى مستقبل كريم، بغير تحديد الأولويات والمطالبِ المُلحة والوقوف عندها حتى تُقضى، وما تُلمِّح أو تُصرح به بعض الأطراف من تقسيم ل"مجالي" المقدس والدنيوي يبدوا دعوة للائكية ("العلمانية") وهو تخليط يستند إلى وهم، فقد قلت وأُعيد أن هذا المفهوم لا مكان له في بلاد المسلمين لأنه كمفهوم "الحداثة" نِتاج تاريخ مخصوص، هو التاريخ الغربي، وحتى لو فرضنا جدلا إمكان مفهوم كهذا في مجتمعنا، فعن أي اللائكيات تتحدثون؟، عن لائكية منغرسة في الدين كتلك القائمة في الولاياتالمتحدة أم لائكية سويسرا التي تمنع بناء المآذن أم لائكية فرنسا التي تفرض على المسلمين نزع "الحجاب" في المدارس وغيرها بل وتُناقش اليوم مسألة الصلاة في الأماكن العامة هل تتوافق مع اللائكية أم لا؟ أم لائكية غربية الملامح ترى الدم الغربي أقدس من دماء باقي خلق الله، بل و ترى النفط أغلى من دمائنا. من يريد الحديث عن قداسة شخص الملك أو إمارة المؤمنين فليُصرح بذلك، أما الاختباء وراء انتقاد بنود معينة في الدستور لاستهداف الإسلام فسباحة في غير ماء، وتهديد لفرصة تاريخية للخلاص من أخطبوط المخزنية، الذي طال أمده." (نكد الدنيا و معالم الطريق) نعم إن حركة العشرين فرصة تاريخية للخلاص و لكن إصرار البعض على البحث عن ضربة جزاء في ملعب لا يوجد فيه مرمى من الأساس، بدل البحث عن سبيل لبناء هذا "الملعب" أولا، قد يجعلنا ننتظر فرصة أخرى قد تأتي و قد لا تأتي. يبدو أننا سنهرم من أجل ذلك اليوم! ذ. محمد الهداج