بدا النادل مضطربا وهو يقف أمامها، وانزلقت الكلمات بنبرة حزينة :" آنسة سلمى كلنا نأسف لما حدث". ابتسمت وهي تسحب النظارة السوداء من جيبها: " لاداعي لكل هذه الجلبة..شكرا". واستدار الرجل منصرفا. كان كل شيء في حياتها هادئا وكأن القدر لم يجلس فوق عرشه ساخرا. رفعت رأسها ناحية البحر وغرقت عيناها في الدموع .. (..أمين..عاش بسيطا في حياته، تقاذفته الأيدي وهو صغير كما يتقاذف البؤساء الرغيف، باحثا عن شظايا صدر واهن بين المقاهي والدروب..كان يؤمن بالبعث، بينبوع الفضيلة، وصلاة البجع عند الغروب..وترقص شفتاه بذبذبات متقطعة. يغني قصائد الحب للجميع، لجارة الحي ورفيقة الدرس ومومس الحانات..كان طفلا تسبح عيناه في غابة النخيل ويغطيهما الشفق.. كالعيد كان، يحب الخمر والصلاة..أحبته سلمى في أول لقاء جمعهما في نفس المقهى الذي تعودت الجلوس فيه، وبعد أيام باغتها أمين بالزواج..) قطع النادل حبل أفكارها وهو يتنحنح، رمى بوردة حمراء فوق المائدة وتمتم بصوت دافئ :" سيدي أمين أوصاني بأن أعطيك وردة كلما رأيتك جالسة هنا". رفعت عينيها إليه والدموع تنهمر فوق خدودها ثم انتقل بصرها إلى الوردة. وسأل القهوجي بقلق: "هل صحيح أن الشاعر قد اختفى ولم يعد؟" كانت الموسيقى تنبعث هادئة والموج الأزرق يرغي ويزبد ثائرا،وعادت سلمى تسبح في فضاء خواطرها.. (..علٌمها كيف تصنع من المطر شعرا، وحكى لها عن مأساة فلسطين وعن ثعالب المحيطات..بكى طويلا لأجل السلام واختفى فجأة في ليلة الزفاف..) مدت أناملها المرتعشة إلى جريدة الصباح.. لم يذكروا اختفاءه في الجرائد سوى أنهم نشروا قصيدة من ديوانه، رمت بالجريدة وانطلقت خطواتها تنهب الأرض.. عادت في مساء الغد إلى نفس المكان واستقبلها النادل بابتسامة منفعلة وهو يمسك بالوردة. (..عندما سألت أمين ذات مرة عن معنى الورد في أشعاره أجاب: الورد هو الأرض هو الحب هو التضحية..) وغابت أفكارها حيث كان الموج يتكسر فوق الصخور .. " آ نسة، هذه المائدة حجزتها قبل قليل.. أرجو أن تعلمي ذلك " التفتت وكأنها تستفيق من كابوس ، مسحت بأناملها فوق خصلات شعرها الفاحم وانثنت خارجة . ( ..أمين كان يخجل من أن يطالب بحقه، كان يبيع السجائر وهو صغير،ينتقل من حي لحي ومن مقهى إلى مقهى، ويعود في المساء والدموع تغطي مقلتيه لأن نصف الزبائن لم يدفعوا ثمن السيجارة..) عاد الوجه الأسمر الذي باغتها في المقهى يعترض سبيلها وهو يغمغم بأسف: " لم أكن أعرف أنك زوجة السيد..." صمت وكأنه يسترد أنفاسه وعاد يقول:" هل صحيح أنه قد..." وقاطعته بنبرة قاسية: " الأرض لاتقتل." تسلقت الأعين تراقبهما وهما يدخلان المقهى جنبا لجنب. ابتسم وهو يجلس، وانطلق يتحدث بصوت كالحشرجة: "حدثيني عن السيد أمين.." التفتت نحوه وانتبهت للباسه الأخضر الرسمي :" أنت جندي؟ " وهز رأسه بالإيجاب وهو يبتلع ريقه. مرت الأيام بطيئة وكأن القدر يحتسب الوقت الضائع في كل موعد يجمع بين سلمى والجندي كريم، وأتت اللحظة الحاسمة.. كانت الشمس تميل إلى الغروب وكانت أصابع سلمى تلهو بالوردة ،تسربت الكلمات دافئة إلى مسامعها: " لقد قررت أن أتقدم لخطبتك غدا..هل توافقين؟" . اكتشفت سلمى الفرق بين الشاعر والجندي،إذ كان الأول يفكر والثاني يقرر ومع ذلك فكلاهما النبض المتجدد للأرض.. كان الصباح مشرقا على غير عادته، استقبلها النادل العجوز بالوردة والجريدة، بدا وجهه مكفهرا وتحدث وهو يطوح بيده: " لقد أغاروا علينا ،سيدتي..فجأة ،انصرف كل الجنود إلى الموقع..يا الله ..النار التهمت كل القلوب ". وضرب كفا بكف: "كل شيء ضاع.." انتقلت بنظراتها بين أرجاء المقهى دون وعي وابتسمت بأسى: " لم يضع شيء يا عماه، العزيمة تنير النفوس، وبالإرادة القوية تتجدد الآمال.." انثنى يجر قدميه وهو يقذف بكلمات مبهمة. يتكسر الموج الأزرق العالي فوق الصخور فيأتي صوته كتنهدات بطيئة، مسحت بكفها قطرات العرق الساخنة المتصببة فوق جبينها، واستدارت من جديد ترقب الشاطئ ..كان صدر الأرض يعلو ويهبط وكأنه يتنفس بصعوبة.. توقف العجوز أمامها وهو يلهث: " الراديو..." وقفت بقامتها الطويلة ، تضطرب العاصفة برأسها: " ماذا هناك؟" " السيد كريم ..اس..ت..ش..هد.." تحسست سلمى وريقات الوردة بين أصابعها وهي تقف مشدوهة.. فتحت فمها لتقول شيئا وانهارت على الأرض.. قبل أن تغمض عينيها رمت ببصرها بعيدا حيث يرتفع الموج..كان صدر الأرض مايزال يعلو ويهبط.. دة. جوهرة أشبان