يقول الرسول: كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون . لقد زعم الأستاذ عبد السلام ياسين أن الشيخ ابن تيمية كان ينكر في البداية القراءة في اللوح المحفوظ، وأنه كان يدعي أن هذا باطل ومخالف لدين المسلمين، لكن الله تعالى رقاه فيما بعد، وفتح له فتح العارفين به، فقرأ هو نفسه في اللوح المحفوظ.
قال الأستاذ عبد السلام ياسين في الإحسان ج2 ص61:
] ويجيء ابن تيمية فينكر إنكارا شديدا ببيانه الصارم وحكمه القاطع أن اللوح المحفوظ لا يمكن أن يقرأ فيه قارئ. قال رحمه الله : "يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء، إما عن معرفة بأن هذا قولهم، وإما عن متابعة منهم لمن قال هذا من شيوخهم الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة، كما يوجد في كلام ابن عربي وابن سبعين والشاذلي وغيرهم. يقولون إن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ، وأنه يعلم أسماء مريديه من اللوح المحفوظ، ونحو هذه الدعاوي التي مضمونها أنهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ. وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرِهم من أتباع الرسل"[. انتهى كلام الأستاذ ياسين.
إن ما ذكره الأستاذ عبد السلام ياسين من كلام ابن تيمية اقتطعه من كتابه "الرد على المنطقيين" ص 475، والتي ينفي فيها الشيخ إمكانية القراءة في اللوح المحفوظ، إلا أن الأستاذ ياسين زعم أن ابن تيمية تراجع عن هذه الفكرة فيما بعد، وأنه لم يقر بالقراءة في اللوح المحفوظ فقط، بل هو نفسه قرأ فيه في وقت لاحق من حياته.
لقد اعتمد الأستاذ ياسين في إثبات نظريته، على فقرة اقتطعها من كتاب مدارج السالكين للشيخ ابن القيم الجوزية وهو يتحدث عن شيخه ابن تيمية، في المجلد 2 ص 489، حيث يدعي من خلالها الأستاذ ياسين أن ابن تيمية قرأ في اللوح المحفوظ بأن المسلمين سينتصرون في معركة 702 ه.
يقول الأستاذ ياسين في الإحسان ج2 ص61:
] غفر الله لنا ولابن تيمية ولمن يأخذ كلام أحد ما دون رسول الله صلى الله عليه وسلم مأخَذَ المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لو قال: هذا لا أعرفه لكان أقرب إلى الحكمة بَدَل أن يعمم زاعما أن القول بعلم ما في اللوح المحفوظ ليس من دين المسلمين. يا لطيف!
كان الرجل صادقا، فرقاه الله عز وجل وفتح بصيرته كما فتح للعارفين حتى رأى هو نفسه اللوح المحفوظ في فترة لاحقة من حياته، وحتى قرأ فيه. قال تلميذه ابن القيم: "ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية أمورا عجيبة. وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سِفْرا ضَخما(...). أخبر الناس والأمراءَ سنة اثنتين وسبعمائة لمّا تحرَّك التتار وقصدوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين. وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا. فيقال له: قل إن شاء الله! فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا! وسمعته يَقول ذلك. قال: فلما أكثروا عليَّ قلت: لا تُكثروا! كتب الله في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطعمتُ بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو [.
ويستمر الأستاذ ياسين في تأكيده على تراجع ابن تيمية، وتأنيب مقلديه من حيث يتوب هو ويرجع عن أخطائه، ويظلون هم في الغي والضلال، فيقول في ص 62:
] استَغْفِرِ الله يا صاح من متابعتك للعلماء في أخطائهم، يرجعون عنها وتبقى أنت في الظلام. استغفِرْه من متابعتك ابن تيمية وأمثاله في تكفير المسلمين والجزم بأن "هذا ليس من دين المسلمين"، يتوبون هم ويشفع لهم صدقُهم من حيث لا يشفع لك جهلُك وتقليدُك. هو ذاك شيخ الإسلام في خيمته، في عادته، في بشريته، في نسبيته لا يخرجه عنها فراسته وعلمه، يطعم الأمراء والعساكر طعام الفرح بما قرأه في اللوح المحفوظ، تلك القراءة التي كان ينفيها وينسب القائلين بها للزندقة ويرميهم خارج الملة. وأنت، أنت المقلد للرجال بعقل مرموس وقلب مطموس ما حظك من الله! قل لي [.
إن ما ذهب إليه الأستاذ ياسين من أن ابن تيمية تراجع عن إنكاره القراءة في اللوح المحفوظ خطأ، والدليل على ذلك ما يلي:
1- لقد قال ابن تيمية في النص الذي اقتطعه الأستاذ ياسين من كتاب "مدارج السالكين": (إن الله كتب في اللوح المحفوظ)، ولم يقل: (قرأتُ في اللوح المحفوظ)، والفرق بينهما شاسع، فجميع المؤمنين يعلمون أن الله كتب في اللوح المحفوظ (لأغلبنّ أنا ورسلي)، رغم أنهم لم يقرؤوا ذلك فيه، مثل ابن تيمية، فهو يعلم أن الله كتب في اللوح المحفوظ (إن تنصروا الله ينصركم)، وبقدر ما هو متيقن من أن المسلمين في معركة 702ه قد نصروا الله وأخذوا بأسبابه، فهو متيقن من أن الله سينصرهم، ولا يحصل عن هذا أن ابن تيمية قرأ في اللوح المحفوظ. 2- إن ابن القيم الجوزية، وهو التلميذ اللصيق بشيخه ابن تيمية، هو أولى بتأويل كلام شيخه من الأستاذ ياسين، حيث إنه أورد كلام شيخه في باب "الفراسة"، عكس الأستاذ ياسين الذي أغلق باب الفراسة في كتاب الإحسان، وبعدها مباشرة أورد كلام ابن تيمية في باب "علوم الأولياء". إن الأستاذ ياسين يرى أن كلام الشيخ يندرج في إطار علوم الأولياء، أما ابن القيم فيراه يأتي في سياق الفراسة، حيث يقول ابن القيم في نفس الفصل من كتاب "مدارج السالكين" ج 2 ص 489:
] وللفراسة سببان: أحدهما جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته، والثاني ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه، فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطئ للعبد فراسة. [
3- إن الأستاذ ياسين يقول بأن ابن تيمية كان ينكر القراءة في اللوح المحفوظ، من خلال ما استشفه من كتاب "الرد على المنطقيين"، وأنه في وقت لاحق من حياته تراجع عن ذلك، ويقصد في معركة 702ه مع التتار، وهذا يلزم عنه أن يكون ابن تيمية قد كتب كتاب "الرد على المنطقيين" قبل 702ه، لكن الملفت للدهشة والغرابة أن يكون ابن تيمية قد كتب هذا الكتاب بعد أكثر من عشر سنوات على حادثة المعركة، ومن هنا يستحل عقلا ومنطقا أن يكون ما ذهب إليه الأستاذ ياسين صحيحا، اللهم إذا كان الشيخ ابن تيمية يقر بالقراءة في اللوح المحفوظ بادئ ذي بدء، وبعدها بعشر سنوات أو أكثر تراجع وأنكر القراءة في اللوح المحفوظ، وهاك الدليل:
أ. في نسخة "الرد على المنطقيين" التي نشرتها "دار ترجمان السنة" بباكستان تجد ابن تيمية يقول في ص3:
]ثم لما كنتُ بالإسكندرية، اجتمع بي من رأيتُه يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرتُ له ما يستحقونه من التجهيل والتضليل.[
وقد اتفق المحققون على أن تاريخ وجوده في الإسكندرية كان في سنة 709ه محبوسا بسجن الإسكندرية، أنظر "العقود الدرية في مناقب ابن تيمية" للشيخ مرعي ص181، وهذا يعني أن هذا المصنف كان بعد حادثة معركة التتار وليس قبلها.
ب. بل وأكثر من ذلك، فقد جاء في ص11 من كتاب "الرد على المنطقيين" نفس النسخة:
] وكذلك بينا طرق الناس في إثبات العلم بالنبوات في "شرح الأصبهانية" و"كتاب الرد على النصارى" وغيرهما [.
ويقصد ابن تيمية ب"شرح الأصبهانية" كتاب "شرح العقيدة الأصبهانية" وهو المجلد الخامس من "مجموع فتاوى ابن تيمية"، ويقول في أوله:
"سُئل شيخ الإسلام وهو مقيم بالديار المصرية في شهور سنة 712ه أن يشرح "العقيدة" التي ألفها الشيخ شمس الدين.."
ويستنتج من هذا أن كتاب "الرد على المنطقيين" كان متأخرا عن مصنف "شرح العقيدة الأصبهانية" الذي كتبه الشيخ سنة 712ه.
خلاصة:
كتاب "الرد على المنطقيين" صنفه الشيخ ابن تيمية ما بعد 712ه، أي بعد أكثر من عشر سنوات على تاريخ معركة المسلمين مع التتار، ومنه، فإن إنكار القراءة في اللوح المحفوظ عند الشيخ ابن تيمية، كان بعد "قراءته في اللوح المحفوظ"، إن كان قد قرأ فيه أصلا.