يقول الرسول : كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون . الخطأ الثاني: المتتبع لكتابات الأستاذ عبد السلام ياسين بشغف وروية، يدري أن الشيخ ابن تيمية رحمه الله شكل عُقدة مفصلية في فكره وأدبه، حتى ما من مرة يطلع علينا مؤلف جديد من مؤلفات الأستاذ الشرعية إلا وفيه من ذكر الشيخ نصيب، إما مدحا مُبَطنا بمؤاخذات ولمز خفي، أو انتقادات لا ذعة تغفرها إشارات إلى محامده أو ثناء عليه، فعادت تلك قاعدة مُطّردة لا تخرقها إلا نشازات هنا أو هناك. فالشيخ ابن تيمية كان مغوارا في الجهر بالحق، جسورا في مجابهة الخصوم، لا يخشى في الله لومة لائم، في زمن كثرت فيه البدع والإنحرافات والطرق الفاسدة والمذاهب الضالة، وبيد أنه لم يكن يضع كل الصوفية في سلة واحدة، بل فصّل في كل حالة من الحالات، وأبدى موقفا من كل طريقة من الطرق، وأعطى حكما على كل مذهب من المذاهب، إلا أن الأستاذ عبد السلام ياسين لا يشاطره فكره وأحكامه ومواقفه، فالصوفية ليست درجات ومراتب بعضها أفضل من بعض، بل هي مجرد ألوان وأذواق حسب الأستاذ ياسين. ومن ثم، فإن ما استشفه الأستاذ عبد السلام ياسين من خلال رسالة بعثها الشيخ ابن تيمية إلى أصحابه من السجن الذي توفي فيه، حسب رأي الأستاذ ياسين، كان في غاية النبوغ والألمعية، حيث جعلته هذه الرسالة الفريدة يجزم أن الله تعالى قد فتح للشيخ ابن تيمية، بين يدي موته، فتح العارفين به، وأنه قد رقّاه حتى بلغ مرتبة الشيوخ الكبار، فعرف ما كان ينكره، وأقر بما كان يسخر منه، فتاب إلى الله توبة نصوحا عن معارضة الشيوخ، وأوصى أصحابه بالوجد والعرفان بعدما كان أشد الناس على خصومه الصوفية. جاء في كتاب الإحسان المجلد 2 الصفحة 180 الطبعة الأولى: " هذا الرجل المظلوم حيا وميتا (يقصد ابن تيمية) منحه الله عز وجل في آخر عمره، بين يدي موته، فقد مات في السجن، فتحا مبينا ومعارف كملت له مطلبَه من ربه عز وجل، مطلباً فوق كرامة القراءة في اللوح المحفوظ التي كان يُنكرها قبل أن يُدرك مرتبتها".انتهى هذه توطئة عن توبة ابن تيمية، في أواخر أيامه، والتي سيحاول الأستاذ ياسين الإنتصار لها بكشف ملابساتها، من خلال عرض لرسالة أرسلها الشيخ إلى أصحابه من سجنه. يقول الأستاذ ياسين: ( قال رحمه الله يقصد ابن تيمية في رسالة لأصحابه من السجن: "وأما بنعمة ربك فحدث. والذي أعرِّفُ به الجماعة أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة وأتم عليهم نعمته الظاهرة والباطنة: فإني، والله العظيم الذي لا إله إلا هو، في نعم من الله ما رأيت مثلها في عُمْري كله. وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال، ولا يدور في الخيال، وما يصل الطَّرْف إليها. ييسرها الله تعالى حتى صارت مقاعدَ (قلت الصوفية يقولون: مقامات). وهذا يعرف بعضها بالذوق من له نصيب من معرفة الله وتوحيده وحقائق الإيمان وما هو مطلوب الأولين والآخرين مع العلم والإيمان. فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبيرُ عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيدِه والإيمان به، وانفتاح المعارف الإيمانية والحقائق القرآنية. كما قال بعض الشيوخ (الصوفية): لقد كنت في حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب! وقال آخر: تمر على القلب أوقات يرقُص فيها طرباً، وليس في الدنيا نعيم يُشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة..") انتهى كلام رسالة ابن تيمية. فيستمر الأستاذ ياسين في تعليقاته، ويؤكد أن مضمون الرسالة يدل على توبة الشيخ في أواخر أيامه: ( قلت ويحك! الرجل تغمَّده الله برضوانه، وفتح له في رحمته في آخر أيام حياته حتى أدرك بفضله سبحانه ما تدركه الشيوخ، وحتى ذاق ما لا تفهمه ولا تطلبه كما يطلبه الأولون والآخرون، وأنت قاعد مع فتوى جدلية تتهجاها! ما اسمك يا صاحِ في الملكوت! وكتب من السجن أيضا يوصي جماعته بطلب معرفة الله عز وجل، معناه بلغة تفهمها يا صاحِ! أنه يوصيهم بأن يتصوَّفوا أي أن يتحابّوا في الله وأن يذكروا الله، وأن يقفوا بالإرادة والهمة والخضوع بباب الله. قال: "وفي الجملة، ما يُبين نعم الله عليَّ وأنا في هذا المكان أعظمُ قدرا وأكثر عددا، ما لا يمكن حصرُه وأكثر ما ينقُص الجماعة. فأنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقِرُّ به أعينُهم، وأن يُفتَح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات. وأعرِّف أكثر الناس قدر ذلك: فإنه لا يعرف إلا بالذوق والوجد. لكن ما من مومن إلا له نصيب من ذلك، ويستدل منه بالقليل على الكثير وإن كان لا يقدُرُ قدْرَه الكبيرَ. وأنا أعرف أحوال الناس والأجناس واللذات، وأين الدُّرُّ من البَعْر! وأين الفالوذَجْ من الدِّبْس! وأين الملائكة من البهيمة أو البهائم!" الله أكبر! الذوق والوجد والمعرفة ولغة التبكيت والاستنهاض التي نقرأها عند الشيخ عبد القادر. لَطالما وَسَمَكَ عبد القادر بأنك "قفص بلا طائر"، وهذا ابن تيمية يشبه إيمانك بجنب أهل المعرفة والكمال ببَعْرَةٍ إزاء دُرَّة، وبهائمَ إزاء ملائكة. وأنت لا تتحرك! ولا تغضب! ولا تنبعث! وتُمضي العمر في مضغ الكلام وطلب النصوص الخطإ لتزداد تردِّيا في حَمْأَتِكَ! ويلك! قال رحمه الله في رسالة أخرى: "المقصود إخبار الجماعة بأن نعم الله علينا فوق ما كانت بكثير. ونحن بحمد الله في زيادة" ما أدخلتَ يا صاح في حسابك أن الصادقين من العلماء العاملين، وابن تيمية رحمه الله منهم، يترقون "بكثير كثير" وترفعهم العناية الإلهية في آخر عمرهم إلى "تعسيلة" يزدادون فيها علما "بكثير كثير". وأنت قاعد مع مَرْحَلَة من اجتهادهم وخطإهم تحرِّفُه لا تشرِّفه! ) انتهى كلام الأستاذ ياسين. أقول: إذا كانت استنتاجات الأستاذ ياسين صحيحة، فهذا يعني أنه حتى وإن كان الأخيرَ زمانه، فقد أتى بما لم تستطعه الأوائل، لأنه تمكن من أن يُلغي كل ما قاله الشيخ ابن تيمية في ذم بعض الصوفية وانتقادهم، وأحيانا، تكفير بعض طرقهم وعقائدهم، بموجب أنه اكتشف توبته في آخر عمره، وأنه قد فتح الله تعالى عليه كنوز معرفته، ورأى ما لم يكن في الحسبان، ولا خطر على بال إنسان. والصواب أجمله في ثلاث نقط مفصلية: I. إن الأمر لا يتعلق برسائل متفرقة، ولستُ أدري من أين دب الوهم إلى الأستاذ ياسين حتى قال بأنه قد جاء في رسالة أخرى: "المقصود إخبار الجماعة بأن نعم الله علينا فوق ما كانت بكثير. ونحن بحمد الله في زيادة"؟ لأن الصواب هو أنها نفس الرسالة، وما على القارئ الكريم إلا أن يرجع إلى المجلد 28 من مجموع الفتاوى لابن تيمية، ليجد هذه الرسالة قد ابتدأت من الصفحة 30 وانتهت في الصفحة 46. II. إن الشغوف بقراءة كتب حجة الإسلام ابن تيمية، يعلم يقينا أن جميع رسائله كانت تدون بنفس النفس، وتخط بنفس الروح، سواء كانت من السجن الذي توفي به أم غيره، فقد كان دائم الحديث عن معرفة الله وعن الوجد وعن حب الله والرسول، ومنه، فإن هذه الرسالة لم تكن نشازا عما كتبه من قبل، ليُفهم من ذلك فتحه الكبير وتوبته العظيمة. بل أكثر من ذلك، فقد توقف الأستاذ ياسين عند "ويل للمصلين"، حينما استنتج أن الشيخ ابن تيمية أمر أصحابه بالوجد ومعرفة الله (بالمفهوم الصوفي) و..، وكان عليه فقط أن يتتم آخر الرسالة، ليقف على ما أراده ابن تيمية من جماعته صراحة، دونما الحاجة إلى ذكر فقرات فيها نظر، وتأويلها قد يصيب وقد يخطئ، فقد جاء في آخر الرسالة صفحة 44: ( والذي آمر به كل شخص منهم أن يتقي الله ويعمل لله، مستعينا بالله، مجاهدا في سبيل الله، ويقصد بذلك أن تكون كلمة الله العليا، وأن يكون الدين كله لله، ويكون دعاؤه وغيره بحسب ذلك، كما أمر الله به ورسوله ). III. الغريب غاية في الغرابة، أن هذه الرسالة لم يكتبها الشيخ ابن تيمية أصلا من السجن الذي توفي به، ولم يكتبها بين يدي موته، ولا في آخر عمره، فقد كتبها من حبس الإسكندرية سنة 709 ه، بينما قد توفي بحبس القلعة بدمشق سنة 728 ه، أي 19 سنة بعد كتابته رسالة "التوبة"، وقد تواترت هذه الأخبار في كتب التاريخ والمصنفات، حتى لم يعد يقوى على المجادلة في صحتها أحد، ونورد بعض الشواهد منها للإستئناس: 1. لم يذكر الأستاذ ياسين من أي سجن كتب الشيخ ابن تيمية رسالته، رغم أنها مذكورة في نفس المصدر الذي استقاها منها، حيث جاء في المجلد 28 ص 30 من مجموع الفتاوى: (رسالة من شيخ الإسلام قدس الله سره إلى أصحابه وهو في حبس الإسكندرية) 2. جاء في العقود الدرية من مناقب شيخ لإسلام ابن تيمية المجلد 1، ص 286، للإمام محمد بن أحمد المقدسي: ( ما ذكره البرزالي في حبس الشيخ بالإسكندرية: وفي الليلة الأخرة من شهر صفر سنة تسع وسبعمائة (709) وهي ليلة الجمعة توجه الشيخ تقي الدين بن تيمية من القاهرة إلى الإسكندرية مع أمير مقدم ولم يُمكن أحد من جماعته من السفر معه، فحصل التألم لأصحابه ومحبيه، وضاقت الصدور وتضاعف الدعاء له، وبلغنا أن دخوله الإسكندرية كان يوم الأحد، دخل من باب الخوخة إلى دار السلطان، ونُقل ليلا إلى برج في شرقي البلد). وهو ما يسمى بسجن البرج بالإسكندرية. 3. وجاء في الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية المجلد 1، ص 64، للشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي: وقال الحافظ البرزالي في تاريخه: (وفي ليلة الإثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (728) توفي الشيخ ابن تيمية بقلعة دمشق في القاعة التي كان محبوسا فيها). خلاصة: الشيخ اين تيمية لم "يتب" في آخر عمره، ولم يتراجع بين يدي موته، عن مقارعة بعض انحرافات الصوفية، وبعض ضلالاتهم، لأن الرسالة التي استدل بها الأستاذ ياسين لم يكتبها الشيخ في آخر عمره، بل كتبها 19 سنة قبل موته، وجميع المؤرخين والمصنفين لترجمات حجة الإسلام مجمعون على ما فصلنا فيه. ورغم ذلك فقد ظل، وللآن، الأستاذ ياسين كل هذه السنوات الطويلة وهو يكرر توبة الشيخ قبل موته، وكتاباته طافحة في هذا المجال، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد جاء في الإحسان ج2، ص 238: (وكان رحمه الله ممن لا يعلمون كثيرا من أسرار الله في أوليائه قبل فتحه الأخير في السجن و"تعسيلته"..). وجاء في فقرة أخرى من نفس الصفحة: (والذي نريده من التذكير المتكرر بحادثة فتح ابن تيمية آخر عمره أن يخرق المقلدون المحجوبون إن استطاعوا حجاب الغفلة..) انتهى وصلى الله على النبي محمد. خبير في الحركات الإسلامية. هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.