هل كنت تسافر في قطارٍ مزدحمٍ أو تتمشى ليلاً في حديقة هادئة، ثم انتابك شعور مفاجئ جعلك تلتفت فجأة وتنظر إلى الخلف لتشعر بأن هناك من يراقبك؟ في هذا الوقت، يبدو كأن الأمر يتعلق بالحدس، وبعيداً كل البعد عن الحواس المادية. ومع ذلك، فقد ثبُت بالفعل أن بعض هذه الحواس المادية قد تعمل بصورة غامضة، وخاصة حاسة الرؤية، بحسب BBC النسخة الإسبانية. يتخيل الكثيرون بصورة حدسية أنه عندما نرى شيئاً، تذهب إشارات إلى القشرة الخلفية في المخ، ولهذا تمتلك لاحقاً تجربة واعية للرؤية، لكن الواقع أكثر غرابة من هذا. ما إن تعبر المعلومات من العين، حتى تبدأ في رحلة تمر ب10 مناطق مختلفة على الأقل في المخ، وكل من هذه المناطق لها وظيفة متخصصة ومحددة. تعمل القشرة البصرية لدينا على دعم الرؤية الواعية ومعالجة الألوان والتفاصيل الدقيقة؛ لمساعدتنا على إنتاج انطباعٍ حي عن العالم الذي نعيش فيه. وهناك أجزاء أخرى من المخ تعالج أنواعاً مختلفة من المعلومات وتستطيع أن تفعل هذا على الرغم من أننا لا ندرك هذا بصورة واعية. انحياز الإدراك المتأخر الناجون من الأمراض العصبية ساعدوا في إلقاء الضوء على هذه الآليات التي يعمل بها المخ. عندما تتضرر القشرة البصرية لشخص بسبب حادث ما، تتأثر الرؤية كثيراً. وإذا فُقدت القشرة البصرية بالكامل، يفقد الشخص القدرة على الرؤية الواعية تماماً، وهذا ما يطلق عليه أطباء الأعصاب "العمى القشري". ولكن في هذه الحالة، وبعكس ما يحدث عند فقد العين نفسها، تستمر المناطق البصرية غير القشرية في العمل. وفي هذه الحالة، يستطيع الشخص الاستجابة لهذه الأشياء التي تلتقطها العين بعد أن تتم معالجتها في المناطق الأخرى بالمخ. ظهر مصطلح "الإدراك المتأخر" أو "الرؤية العمياء" في عام 1974 على يد الطبيب الإنكليزي لاري فيسكرانتز، وذلك بعد أن رصد ظاهرة تتمثل في قدرة المرضى على الاستجابة للمؤثرات البصرية على الرغم من عدم قدرتهم على الرؤية الواعية بعد تدمير القشرة البصرية. لم يستطع هؤلاء المرضى القراءة أو مشاهدة الأفلام أو غيرها من الأنشطة التي تتطلب معالجةً للتفاصيل، لكن عندما طُلب منهم تخمين مصدر الضوء المواجه لهم، تمكنوا من تحديده بشكل لا يدع مجالاً للمصادفة. على الرغم من عدم شعورهم برؤية أي شيء، فإنهم استطاعوا التخمين بدقةٍ مثيرة للدهشة. وهذا يعني أن المناطق البصرية الأخرى في الدماغ استطاعت الكشف عن الضوء وتقديم المعلومات عن موقعه بالتحديد، على الرغم من عدم وجود القشرة البصرية. اللوزة الدماغية وتشير دراسات أخرى إلى قدرة هؤلاء المرضى على معرفة التعبيرات المرتسمة على وجوه الناس وكذلك معرفة الحركات الوشيكة. وفي وقت قريب، تمكنت دراسة على حالة "الإدراك المتأخر أو الرؤية العمياء" لشخص فقد القشرة البصرية، من إثبات قدرتنا على الشعور بمن ينظر إلينا دون أن يكون علينا رؤية وجه المراقب. عمل آلان ج. بيغنا، الطبيب في مستشفى جامعة جنيف بسويسرا، وفريقه على دراسة حالة رجلٍ يدعى ت.د. (استخدم الطبيب وفريقه الحروف الأولى من أسماء الحالات حفاظاً على الخصوصية). "ت.د." هو طبيب أصيب بجلطة دمرت القشرة البصرية وتركته مصاباً بالعمى القشري. هذا النوع من الحالات غير شائع؛ لذلك شارك "ت.د." في سلسلة من الدراسات لمعرفة ماذا يمكن للشخص أن يفعل بقشرة بصرية أو من دونها. تناولت الدراسة صوراً لوجوهٍ تنظر أعينها مباشرة إلى الناظر وأخرى تنظر بعيداً في اتجاه غير مباشر. قام "ت.د." بهذه التجربة على جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي FMRI والذي رصد نشاط المخ في أثناء ممارسة الرياضة، وكذلك حاول الرجل تخمين نوع الوجه الذي ينظر إليه. بالطبع، سيكون هذا أمراً تافهاً بالنسبة لأي شخص، لكن تذكر أن "ت.د." ليست لديه القدرة على الرؤية الواعية.. إنه يشعر بالعمى. وأظهرت نتائج المسح الضوئي أن المخ قادر على أن يكون حساساً تجاه أشياء ليست لدينا القدرة على تقديرها بالإدراك الواعي الكامل. توجد منطقة تسمى اللوزة الدماغية، وهي المسؤولة عن إدراك المشاعر والمعلومات المتعلقة بوجوه الآخرين، وكانت هذه المنطقة هي الأكثر نشاطاً حينما كان "ت.د." يلاحظ الوجوه التي تنظر بشكل مباشر. وهذا يعني أنه عندما كان "ت.د." مُراقَباً استجابت منطقة اللوزة الدماغية دون أن يعلم. مثل هذه الدراسة تُثبت أن بعض الوظائف أكثر بساطة وربما أكثر أهمية للقدرة على البقاء؛ لأنها موجودة بشكل منفصل عن إدراكنا البصري الواعي. هذه الدراسة تحديداً، تشير إلى قدرتنا اللاواعية على كشف مراقبة بعض الناس لنا في مجالنا البصري حتى ولو كانوا ينظرون بطرف أعينهم. لذلك، حينما تتوقف فجأة في أثناء السير بشارع مُظلم وتنظر في اتجاه محدد لتجد أحدهم ينظر إليك، أو حينما ترفع عينيك فجأة في القطار لتضبط أحدهم محدقاً بوجهك، حينها قد يكون السبب هو نظام الرؤية غير الواعية الذي يراقب محيطك في الوقت الذي تنشغل فيه رؤيتك الواعية بأمر آخر. ربما تعلم الآن أن الأمر لا يتعلق بشيء خارق للطبيعة، لكنه يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المخ يعمل بصورة غامضة حقاً.