هذا العالم الفرنسي الرهيب، ظل لسنوات أصغر أعضاء الأكاديمية الفرنسية للعلوم، التي ولجها سنة 2006 في سن 40 عاما وهي ذات السنة التي عين فيها للتدريس بالكوليج دوفرانس. وحصل يوم 2 دجنبر 2013 على الجائزة الكبرى للمعهد الوطني للصحة والبحث الطبي. وكل عمل «ستانيسلاز ديهايين» ينحصر في تتبع وتوصيف دماغ الإنسان وهو يعمل. فكيف يتعلم دماغ الطفل القراءة والحساب؟. من أين يملك الدماغ البشري تلك الخاصيات والملكات المميزة له؟. بعض من المواضيع المثيرة والمغرية التي تقاربها معه هنا يومية «لوموند» الفرنسية في مكتبه بالمختبر العصبي للصور الدماغية بباريس. وهو حوار جد ممتع معرفيا، عميق ومدوخ علميا، يظهر المدى الذي بلغته الأبحاث العلمية الدقيقة، في تمثل أشكال عمل الدماغ وأشكال صناعتنا للمعرفة والوعي، وصناعتها لنا لا إراديا. من هنا فالحوار مع هذا الباحث العالمي الرهيب، سفر في أسئلة مدوخة تعيدنا إلى عمق المعرفة الإنسانية، تلك التي يهبها البحث العلمي والتي تخيف أحيانا بنتائجها. لكن متعة المعرفة تتفوق على كل قلق للسؤال. وإذ نقدم هذه الترجمة التي حاولنا فيها الوفاء قدر الإمكان للقيمة العلمية للأجوبة (خاصة على مستوى المصطلحات العلمية الدقيقة)، فإننا نتقصد دعوة القارئ العام والمتخصص إلى السفر مع أسئلة علمية متقدمة حول الجهاز العصبي والدماغ وشبكة التعلم والتلقي التي من خلالها نتشرب العالم ونتواصل مع الحياة. من هنا الغنى الهائل للتحليل المتضمن في أجوبة ستانيسلاز ديهايين.. قراءة ممتعة مفيدة. حاورته: فلورانس روزيي قبل أن تلتحق بمجال علم الأعصاب كنت تشتغل في مجال الرياضيات، هل هذا المبحث إلزامي في دراسة الدماغ؟ تعطي مباحث علم الأعصاب أهمية متزايدة للرياضيات. وهو انتقال عميق أشبه بما حدث للفيزياء سنوات 1900 و 1940. تمة مثال يمكن الاستشهاد به هنا، يتعلق باللدونة الدماغية التي تعني قدرة الدماغ على التحول للتعلم. لأن دماغنا يقوم بعمليات زمكانية حول محيطنا. لنتأمل معرفتنا بالحرف والكتابة، فحين نسمع كلمة جديدة نحكم على بعضها أنها مقبولة وبعضها مرفوضة. فهذه العملية قد تمت على مستوى الدماغ بسرعة بعد عرضها على ملايين الكلمات المخزنة فيه. من هنا هذا الإحتمال: كل جزء من القشرة الدماغية يدرس ما هو ممكن وما هو غير ممكن ويقوم بعملية تنبؤ. فكيف تتم عمليات الحساب في خلايا الدماغ؟ ذلك سؤال لا يزال مفتوحا. هل أصبح علم الأعصاب علم لا نهائيا؟ إنه يتأسس، أكثر فأكثر، على أدوات هائلة بمقدورها قياس عشرات الآلاف من الأعصاب عند الحيوان بل وحتى كل الدماغ البشري. و»النوروسبين» هو واحد من أجهزة المراقبة للفكر. إنه يضم عشرات آليات الرصد الدقيقة للخلايا بدرجة عالية من الدقة. وسنملك في سنة 2014 آلة رصد بدقة 11.7 تيسلاس غير مسبوقة في العالم لأخذ صور مقطعية لجسم الإنسان مصحوبة بتصوير مغناطيسي للدماغ، تسمح بدراسة حركية النشاط الدماغي. هل تدرسون الصيرورة الذهنية للقراءة. ما هي النتائج المتوصل إليها؟ لقد حددنا ما يمكن تسميته ب «صندوق الحروف بالدماغ»، الذي يتفاعل مع الشكل المشهدي للكلمات في كل لغات العالم. لقد حصلنا على نتائج مبهرة حولها عند العميان. فبالتنسيق مع فريق إسرائيلي بقيادة عامر أميدي، تمكنا من البرهنة على أن العميان حين يقرؤون على طريقة برايل فإنهم يستنهضون نفس «صندوق الحروف بالدماغ» الذي عند المبصرين. بل حتى عندما يتعلمون بالسماع حيث صورة النص المطلوب قراءته، المصور بكاميرا يتحول إلى أصوات بتموجات متحولة، تبعا لشكل الحروف. فبعد أسابيع من التدريب حول تلك الأصوات، تمكن عميان من القراءة. هذا يعني أن الدماغ مهيأ بشكل رائع للقراءة سواء كان ذلك باللسان أو بالسماع. لماذا يخطئ الأطفال أثناء التعلم إذن على مستوى التماثل، ويكتبون اسمهم بالمقلوب؟ لقد أعدت موضعة فرضية «إعادة تقويم عصبية»، لأنه كي نقرأ نموضع أعصابا تتفاعل عند الأميين مع الصور ومع أشياء الحياة المادية. والحال أن أعصاب هذه الجهة (من الدماغ) تتفاعل بشكل متطابق مع ملمح للوجوه ينظر إليه من اليسار أو من اليمين، حسب الفضاء الذي تنمو فيه، حيث تلك البروفيلات المنتظمة تمثل ذات الشئ. ومع توالي عملية تعلم القراءة، فإن صندوق كلماتنا الدماغي يتجاوز ويعدل ذلك القلب. بذلك نتمكن من التمييز بين «p» و «q»، بينما شخص أمي يخلط بينهما. وهذا أمر لا علاقة له مع «عسر القراءة»، فالأمر متعلق بخاصية كونية للدماغ حين يتعلق الأمر بتعلم القراءة. أكد تقرير للتفتيش حول المدرسة الابتدائية، مواجهة الأطفال صعوبات في القراءة والحساب. هل يمكن أن تساعد أبحاثكم في تحسين هذه المعضلة؟ يسجل ذلك التقرير أساسا فشل التكوين في علوم المعرفة عند الأساتذة. وتكوين موسع أكثر، سيساعدهم على استيعاب ما يسبب تلك المشاكل عند الطفل. ففي أحد البرمجيات المساعدة على القراءة، إحدى أولى الكلمات المقدمة هي كلمة «بصل» (بالفرنسية)، وهذا خطأ لأنها واحدة من الكلمات غير المنتظمة. في كتابنا الجماعي «تعلم القراءة» (أوديل جاكوب، 2011) موجه للأساتذة، تمة تحديد مدقق للأخطاء التي يجب تجنبها والتراكم الأفضل اتباعه واحترامه. يبقى فقط ابتكار الأدوات البيداغوجية المحترمة لطرق تعليم الطفل: تقابل الكلمات، الأوراق الكرتونية المقطعة، البرمجيات.... ماهي المسارب إلى الذاكرة؟ واحدة من تجاربنا، تتحدد في تقديم صور سريعة جدا لمتطوعين، لا يتلقونها بشكل واع. مثلا، حين نطلق رقما بسرعة ضوئية متبوعا بسلسلة من الكلمات بشكل أقل سرعة فإن الشخص لا يلتقط سوى الكلمات. رغم ذلك، نستطيع تتبع الصور المخزنة في دماغه للمعلومة غير الواعية أو «تحت واعية». والرقم غير المنتبه له يعبر القشرة البصرية (المخزنة للدماغ). بل إنه يقدم على المستوى الدلالي كحجم. ويستطيع التأثير على الاستجابة الحركية، حيث يستطيع الشخص عبر الضغط على زر إن كان الرقم «تحت واعي» أكبر من خمسة. بل إنه يجيب بشكل سليم ضدا على الصدفة. لكن الوعي يطلق متوالية من الشبكات الموازية ضمن قشرة الفص الجبهي (جبهة الرأس). إن ذلك هو الاشتعال (وليس الاشتغال) الواعي. بالشكل الذي يجعل الشخص قادرا على اكتشاف أغلاطه، بفضل يقظة حافزه (الذهني). لأنه حين يكون ذلك الحافز «تحت واعي» فإنه لا يستطيع ذلك. ماذا عن «الدماغ الاجتماعي»؟ . أي، تلك القدرة الخاصة بالإنسان أن يتمثل فكر الآخر؟ إنه مجال جد مغر. فالعديد من الزملاء قد اكتشفوا أن سلسلة كاملة من المناطق الدماغية تهتم بفكر الآخر وهي تتأمل فكرنا الفردي الخاص. ويوجد أثر لهذا النظام عند قرود المكاك. لكن واضح أن الكائن البشري هو الوحيد الذي له قدرة تمثل معتقدات الآخر حين تختلف عن معتقداته هو: «أن ترى أمرا، وأنا أرى نقيضه». فالإنسان وحده الممتلك لشبكة فريدة لرسم الفروق بين فكرنا وفكر الآخر. تهتمون أيضا بأمراض الجهاز العصبي مع فرق من معهد الدماغ والنخاع الشوكي بمستشفى «لابيتيي سازبيتريير». لقد برهنا على أن التلقي الواعي يرتكز على شبكة من مناطق الدماغ متباعدة. فمع جون بيير شونجو، نلح على أهمية هذه الارتباطات المتباعدة، المساعدة على خلق «فضاء عمل شمولي» للدماغ. وحديثا جدا مع فريق ليونيل نقاش برهنا على أنه بإمكاننا تمييز وضعيات مختلفة للوعي عند الأشخاص في غيبوبة. وذلك بفضل نظام حسابي يقيس التواصل عن بعد بين المناطق الدماغية، اعتمادا على معطيات دراسة المخ. وفي حالة بعض المرضى الذين لا يستجيبون لأي محاولة تنبيه طبية، فإن حساباتنا تجعلنا نكتشف أن بعض المصابين لهم علامات تواصل دماغي عالية، ويعودون بسرعة إلى مستوى من «الوعي البكر»، ويتجاوبون مؤقتا مع رغبة للعودة (إلى الوعي). وماذا عن أبحاثكم حول السكيزوفرينيا والتصلب المتعدد؟ في هذين المرضين، برهنا أن للمصابين منفذا واعدا لتلقي الصور «تحت واعية». والتواصل عند بعد، بين مناطقهم الدماغية يتغير ويتبدل. هذه الفرضية تفسر الشكوى التواصلية المبثوثة من قبل المرضى المصابين بالتصلب المتعدد: «لا أستطيع التركيز». فمنذ بروكا (بول بروكا الذي هو عالم وطبيب فرنسي توفي سنة 1880)، فإن علم الأعصاب قد اهتم أساسا بالعلاقات بين الآفات المحددة للدماغ وخساراته. وإذا كانت فرضيتنا حول فضاء العمل الشامل صحيحة، فإنها تساعد على فهم الاضطرابات الصادرة عن الجهاز العصبي.