قام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأول خطوة، بعد تنصيبه، تفيد بأنه ملتزم بما وعد به في حملته الانتخابية وحريص على تنفيذه بحذافيره. ذلك أنه قام في بداية أسبوعه الأول رئيسا بالتوقيع على ثلاثة مراسيم تبرز اختياره الإيديولوجي كمحافظ، وبالأخص المرسوم المتعلق بوقف تمويل الجمعيات التي تقوم بدورها بتمويل الإجهاض، لكن التوقيع على قرار خروج الولاياتالمتحدة من اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادي يعتبر بالنسبة لبقية العالم دالا على أن ترامب لا يتجه فقط إلى القطع مع مخلفات سلفه باراك أوباما، بل وأيضا مع العولمة، التي كان بيل كلنتون وراء الدفع بها عقب نهاية المعسكر الشيوعي، ومع مخلفات النظام الدولي الذي بني بعد الحرب العالمية الثانية بإرادة الولاياتالمتحدة، التي فرضت نفسها زعيمة للغرب بعد تلك الحرب وزعيمة للعالم منذ تسعينات القرن الماضي. وهو ما يمثل ثورة محافظة من نوع جدري. وهي ثورة ظلت تعتمل في الولاياتالمتحدة منذ أمد بعيد وسط البيض من أصل أوروبي، الذين تتراجع نسبتهم بمجموع الساكنة بسرعة، ووجدت فارسها المنقذ اليوم. ورغم أن اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادي لم تدخل حيز التنفيذ وواجهت معارضة قوية في الكونغريس الأمريكي قبل ظهور ترامب على الساحة السياسية مرشحا للرئاسة، فإن إنهاءها بجرة قلم وفي بداية الولاية الرئاسية يعني أن الرئيس الأمريكي الجديد يعلن أن زمن العولمة انتهى وأن الولاياتالمتحدة تتنصل منها، بل ستحاربها بإجراءات تتمحور حول المصلحة الوطنية الأمريكية أولا وإعمال الحمائية، التي تقوم على ترسانة جبائية تعطي الامتياز للمنتوج الأمريكي في سوقه وتحاصر المنتجات الصينية والأسيوية على الخصوص، وربط التدخل الخارجي والدولي للولايات المتحدة بمقابله أو بمحدودية نفقاته.
وعدا هذه الاتفاقية، فمن المتوقع أن يتجه ترامب لوقف المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي الهادفة إلى إقامة شراكة عابرة للمحيط الأطلسي وحتى أن ينهي الاتفاقية المؤسسة لاتحاد اقتصادي في شمال القارة الأمريكية وغيرها، بحيث ينهي منطق التبادل الحر الذي عرف الأوج منذ انطلاق موجات العولمة في تسعينات القرن الماضي.
وبإنهائه لهذا المنطق يوجه ترامب معاوله لرأس المال المالي الذي استأسد منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما استعملت المضاربة على عهد الرئيس رونالد ريغان ومارغريت تاتشر وفرانسوا متيران حلا لأزمة الركود والتضخم التي برزت في السبعينات، وازداد غلوا مند تسعينات القرن الماضي وصار مصدر أخطار على الاقتصاد الرأسمالي العالمي وعلى الليبرالية الاقتصادية بتوالي الأزمات الكبرى التي انفجرت بقوة في سنتي 2000 و2008. فرأس المال المالي وتكنولوجيا الاتصال والإعلام هما العمودين الأساسيين للعولمة.
وإذا كان المحافظون فيما سبق، مند قرارا نيكسون فصل الدولار عن الذهب في بداية سبعينات القرن الماضي، قد عملوا ما في وسعهم، وتراجعوا أحيانا تحت ضغط الضرورة والواقع الداخلي والدولي، على القطع مع السياسات الاقتصادية الكنزية، فإن ترامب لن يكون بمقدوره تدبير الشأن الأمريكي والوفاء بوعوده بإعادة الحيوية للاقتصاد الواقعي وخلق عدد كبير من مناصب الشغل إلا بإجراءات مستوحاة من "النيوديل" والكنزية. وهنا تكمن مفارقة شبيهة بمفارقة ريغان قبله الذي تخلى عن إجراءات محافظة اتخذها سلفه الديمقراطي جيمي كارتر في نهاية ولايته وعاد إلى التقليد الكنزي سنة 1983.
لكن الخطر الكامن وراء اختيارات ترامب المنتظر أن تترتب عن التحلل من التبادل الحر هو خطر موجة تضخم ضخمة محبطة للاقتصاد، خصوصا في ظل نهاية التسهيل النقدي ( quantitative easing) الذي استخدم لمحاربة أزمة الرهون العقارية وقرار الاحتياطي الفيدرالي بالرفع من معدل الفائدة الرئيسي تدريجيا، بعدما كان سالبا، وهي موجة يمكن أن تخلق الركود بإلحاقها الضرر بالإنتاج والاستهلاك على حد سواء. ومما يزيد من خطورة القرارات المترتبة عن الميل الأمريكي إلى الحمائية أنه سيحرم الاقتصاد الأمريكي من فرص النمو المتاحة خارجيا وسيدفع بعدد من المستثمرين الخارجيين إلى تغيير وجهتهم، وربما دفع إلى سحب ادخار عالمي مهم من الولاياتالمتحدة، وبالأخص الادخار الصيني والأسيوي وفقدان الدولار لجاذبيته ولامتياز كونه قيمة يتم اللجوء إليها للتقليل من المخاطر، وقد يجعل مشروع الدول الصاعدة إلى إحداث عملة دولية منافسة للدولار يرى النور.
ومن المعروف أنه كلما ساد الميل إلى الحمائية والانغلاق كلما تعاظمت أخطار الانهيارات الاقتصادية وانتعشت التيارات الأشد تطرفا وكان السلم العالمي في خطر.
من المفارقات أن ترامب بتوجهه هذا ينفذ ما طالبت به الحركات المناهضة للعولمة في أمريكا وأوروبا، وسايرتها حركات في العالم الثالث تقتات من طاولة الغرب وفتاتها، فهو يقوم بإغلاق قوس العولمة ويعود لمنطق سيادي مغلق ويجعل الحلول المتعددة الأطراف لمشاكل العالم في إطار المنظمات المتعددة الأطراف، وعلى رأسها الأممالمتحدة، التي رعت السلم وتدخلت لوقف الحروب وحل الأزمات أمام تحد كبير شبيه بذلك الذي أدى إلى سقوط هيئة الأمم، حيث يتوقع أن يهاجم ترامب، كما فعل المحافظون من قبله، الهيئة الأممية وكلفتها ويسعى إلى تقليص التمويل الأمريكي لها في إطار وعده بإعادة النظر في التمويلات الأمريكية الذي لم يستثن حتى حلف الناتو.
ومن يراهن على تقارب أمريكي-روسي يقفز على التاريخ فهو مخطئ، فقد تنبأ المفكر الفرنسي توكفيل منذ القرن الثامن عشر أن الصراع بين الولاياتالمتحدةوروسيا سيحدد مسار العالم، ولم تكن روسيا وقتئذ إلا بلدا متأخرا وجامدا كما كانت الولاياتالمتحدة قيد التكوين كدولة حديثة العهد.