بعد عام ونصف على تحرير الجماعة من نظام مبارك مازالت تعانى من أمراض الحظر ومعاداة الديمقراطية. جاءت الثورة.. وضاعت الحجة.. لم يعد هناك ستار يدارى الإخوان أنفسهم وراءه لو سألهم الناس عن سبب غياب الديمقراطية بين صفوفهم.. أو عن سبب انتصار أبناء التيار المتشدد فيهم.. كان الإخوان ينقلون للعالم أن سيطرة نظام مبارك على المناخ السياسي في مصر وقبضته الأمنية الثقيلة عليهم، هي السبب في تخوف العالم منهم.. وأنهم لو تركوا للعمل في مناخ ديمقراطي مفتوح، فإن أحدا لا يمكنه أن ينافسهم في العدالة والتسامح والانفتاح.
بعد ما يقرب من عام ونصف على اندلاع الثورة.. وسقوط نظام مبارك الذي كان الإخوان يتحججون به.. وتركهم للعمل بكل حرية في مصر الجديدة بشكل ضمن حصولهم على أغلبية مقاعد البرلمان، ووصول مرشحهم للسباق النهائي في انتخابات رئاسة الجمهورية.. وقفت الباحثة «ماريز تادرس» في كتابها الأخير الذي حمل عنوان:» «الإخوان المسلمون في مصر المعاصرة»، لتحاول أن تفهم مع القارئ الأمريكي مستقبل الجماعة.. بكل الانقسامات التي تشتعل في قلبها الآن.. محاولة أن تكشف الحقيقة من الزيف.. والصدق من الكذب.. في وعود الإخوان البراقة.. والخاوية في معظم الوقت.
لقد كان الناس يقولون إن نظام مبارك هو السبب في الطريقة التي يتعامل بها الإخوان.. وأن وضع الجماعة دائما في خانة «الجماعة المحظورة»، وكل الملاحقات الأمنية لأفرادها تحولها إلى جماعة معادية للديمقراطية.. وتخشى أي عمل سياسي في النور.. لذلك كان هناك كثيرون يرون أن الجماعة لن تعمل بكامل طاقتها ولا قوتها إلا إذا زالت عنها الأغلال الحديدية التي كان نظام مبارك يضعها عليها.. فلا أحد يمكنه أن يحاسبها على ما بدر منها تحت القمع السياسي والأمني التي كانت تعانى منه على مدى عقود مضت.
وذهب مبارك.. وذهبت معه كل القيود التي كانت مفروضة على عمل الجماعة.. وصار الإخوان قوة سياسية معترفًا بها مثلهم مثل أي قوة سياسية أخرى.. لم يعودوا الجماعة المحظورة.. بل صاروا حزب الأغلبية.. وزالت كل الحجج التي كانوا يتعلقون بها ليبرروا انغلاقهم أو عدم توافقهم مع القوى السياسية الأخرى للمجتمع.. وكانت الفترة التي أعقبت تنحى مبارك، هي الفترة التي ظهر فيها الإخوان بالفعل على سطح السياسة في مصر.. بلا موانع.. ولا أغلال.. ولا قيود.. ليرى الناس وجوههم كاملة في النور.
تمتع الإخوان بعد الثورة بشرعية كاملة.. وتحقق لهم بذلك أول مطلب كانوا يدارون أنفسهم وراء عدم تحققه.. صاروا حزبا سياسيا ليرى الناس أول مشكلة تواجه الإخوان المسلمين من داخلهم.. إن الإخوان كحزب سياسي لابد أن يعملوا على أسس مدنية في إطار قوانين الدولة خاصة المنظمة لعمل الأحزاب السياسية.. بينما الإخوان كجماعة يفترض أن نشاطها يقتصر على الدعوة وشئونها.. ولكن. . لم ير الناس هذا الفصل الواضح بين الجماعة وبين الحزب كما هو مفترض.. حتى بعد مرور أكثر من عام كامل على تأسيس حزب الإخوان.. وحصوله على أغلبية المقاعد في البرلمان.
صحيح أن الحزب يبدو شكليا منفصلا عن الجماعة.. بمعنى أن قيادة حزب الحرية والعدالة ليست هي قيادة الجماعة.. وأن على رؤساء الحزب مثلا أن يستقيلوا من مكتب الإرشاد في الجماعة قبل تولى مناصبهم في الحزب.. إلا أن ذلك لا يعنى انفصالهما تنظيميا.. وقرر الإخوان أن يستمروا في نشاط الدعوة التي لا تنفصل من وجهة نظرهم عن السياسة لأن الإسلام يضم الجانبين.. وبالطبع، فإن حزب الحرية والعدالة لا ينوى أن يتخلى عن قواعده الدينية.. ولا عن القاعدة الجماهيرية العريضة التي اكتسبتها الجماعة على مدى السنوات الثمانين الماضية.. وأعلن صراحة في بيانه التأسيسي أنه يتبنى برنامجا سياسيا ذا مرجعية إسلامية.. وأن الدين لا ينفصل عن السياسة.. وأن المسجد، بالتالي، سيصبح هو مركز قوة الحزب.. فما يعرفه الإخوان جيدا، أن كل المؤتمرات العامة التي تعقد في الشوارع والساحات لا تغنى عن خطبة واحدة من خطب الجمعة للأتباع.. ولا يوجد حتى الآن قوة يمكنها أن توازى المسجد في قدرته على حشد المؤمنين.
من خلال المسجد يوصل الإخوان المسلمون نفس الرسالة التي يرسلونها منذ ثمانين عاما، أنهم وحدهم المتحدث باسم الإسلام.. ولا يوجد دليل يظهر ذلك أكثر من معركة الاستفتاء على التعديلات الدستورية.. عندما تم استخدام سلاح الدين والدفاع عن الإسلام لحشد الناس لخدمة أغراض الإخوان السياسية.
إن حزب الحرية والعدالة مجرد واجهة ظاهرة للإخوان المسلمين.. يراها الناس بينما يتم التجهيز الحقيقي لسياساتهم وراء الستار.. وما وراء ستار الإخوان هو المعركة الحقيقية التي تصور الناس أن الديمقراطية ستكون السبب في وضع حد النهاية لها.
يمكن القول بأن الكل كان يرى تلك الصراعات الداخلية التي تدور في قلب جماعة الإخوان ما بين التيارين المتشدد والإصلاحي.. وكان كثيرون يعتقدون أن وجود نظام مبارك هو السبب في زيادة سيطرة التيار المتشدد على الإخوان.. وكلما زاد القهر السياسي الذي يمارسه النظام عليهم.. كلما ازدادت شراسة التيار المتشدد وقدرته على السيطرة على اتجاهات الإخوان.. قيل أيضا أنه لو تم السماح للإخوان بالعمل في مناخ ديمقراطي فإن ذلك سيمنح الفرصة لصعود أبناء التيار الإصلاحي فيها.. وربما غير المسار الذي تمشى فيه مستقبلا.
لكن.. بعد سقوط مبارك.. انكشف للناس ما كانت تلك السلطوية تداريه.. كان شباب الإخوان، أصحاب الأجندة الإصلاحية، وغيرهم من الوجوه البارزة في الإخوان ممن يمثلون التيار الإصلاحي، يشعرون بضرورة ترك الجماعة أو الانفصال عنها لأنهم غير قادرين على الاندماج فيها بالشكل الذي صارت عليه الآن.. والواقع أنه بعد أكثر من عام ونصف على الثورة وسقوط نظام مبارك، فإن الديمقراطية التي تعمل الجماعة في ظلها الآن.. وحصولها على أغلبية المقاعد في مجلس الشعب، كلها لم تؤد لتخفيف قبضة التيار المتشدد في قلب جماعة الإخوان على قيادتها.. وظلوا يهيمنون أيضا على مكتب الإرشاد الذي يزداد عدد القطبيين فيه كلما صار هناك منصب شاغر فيه.
وأغلب الظن أن الفترة القادمة لن تشهد صعودا للتيار الإسلامي في قلب جماعة الإخوان.. لعدة أسباب.. أولها مثلا أنه لا توجد ضغوط داخلية ولا خارجية على الإخوان تدفعهم لإصلاح أنفسهم.. بل على العكس.. ربما كانت المكاسب السياسية التي حققوها في الفترة الأخيرة سببا يمنح المزيد من القوة للقيادات الحالية التي حققت للجماعة انتصارات لم تعرف طعمها من قبل.. كما أن «رأس» الإخوان أنفسهم ممثلا في مكتب الإرشاد، ينتمي بالكامل لأنصار التيار المتشدد، كما أن جموع الإخوان المسلمين في مجملها لا تميل في الغالب إلى أبناء واتجاهات التيار الإصلاحي، وإلا لانتخبوهم للوصول إلى مكتب الإرشاد.
لكن السبب الأهم الذي يشير إلى أن الإخوان سيصبحون أكثر تشددا في الفترة المقبلة، هو أن انفتاح المناخ السياسي في مصر بعد سقوط مبارك قد جعل هناك أحزاب دينية جديدة تدخل إلى الساحة، وعلى رأسها الأحزاب السلفية.. وقامت تلك الأحزاب ببناء قاعدة شعبية تستند عليها بشكل يكاد يقترب من القاعدة التي صنعها الإخوان على مدى الثمانين عاما الماضية.. تكتسب هذه الأحزاب السلفية تعاطف الناس معها كلما ازداد إظهارهم لتشددهم وقوة التزامهم بالدين وإصرارهم على تطبيق الشريعة الإسلامية.. بعبارة أخرى، فإن الأحزاب السلفية حصدت ثمرة عمل الإخوان مع الحكومة على مدى الأعوام الماضية في زيادة تحويل المجتمع المصري ليصبح أكثر تدينا وتمسكا بالإسلام.. وصار جموع الفلاحين والفقراء والبسطاء تطالب بجرعة دينية أكبر، وليست أقل، من الأحزاب الدينية التي تراها الآن على الساحة، وعلى رأسها بالطبع حزب الإخوان.
ولا أحد، في الإخوان أو من خارجهم، يمكنه أن يتجاهل حقيقة أن الفترات التي ازدهر فيها الإخوان وحصلوا على مكاسب سياسية واجتماعية فيها، كانت الفترات التي سيطر فيها التيار المتشدد على الجماعة، وكانت مواقفها فيها أكثر سخونة وتطرفا، وليست الفترات التي سيطرت فيها الوجوه الإصلاحية على مسارها.
إذن.. كلما تزايدت حرية المناخ السياسي الذي يعمل فيه الإخوان، وكلما ترك المجال مفتوحا أمام الإخوان ليعملوا دون قيود وشروط، إذن فسيكون التيار المتشدد، وليس الإصلاحي، هو الذي يزداد قوة فيها، سواء داخليا في قلب الجماعة، أو خارجيا مع المجتمع والقوى السياسية الأخرى.. أما الإصلاحيون، فما عليهم إلا أن يكيفوا أنفسهم على هذا الوضع أو يتركوا الجماعة ويذهبوا.
وعند النظر إلى السيناريوهات القادمة لوضع الإخوان في مستقبل مصر السياسي، يصبح السيناريو الأول هو تحالفهم مع باقي التيارات الإسلامية لتكوين حكومة ائتلافية تحظى بدعم القوات المسلحة في الفترة القادمة، وهو السيناريو الذي سيؤدى لتشكيل نظام سياسي جديد، يقيد الحريات لو لم تكن هناك ضغوط عنيفة ضده من التيارات المدنية الأخرى، أو من الخارج.. ربما يكون السيناريو الثاني هو ما فعله الإخوان أكثر من مرة من قبل، من تحالف مع تيار مدني غير معاد للإسلام مثل حزب الوفد. أو يكون السيناريو الثالث الذي تطير فيه كل المكاسب السياسية التي حققها الإخوان في السنوات الأخيرة لو قرر الجيش القيام بانقلاب عسكري كامل يصل به إلى الحكم، بعد الإطاحة بالإخوان، بحجة الحفاظ على مدنية الدولة وعدم تحويل مصر إلى دولة دينية.. وهو تكرار لسيناريو 1954 الذي أعقبه توجيه ضربات قاصمة للقضاء على الإخوان.
أيا ما كانت النتيجة، فالمؤكد أن الثورة المصرية قد وضعت حقيقة إضافية على الأرض.. هي أن الإخوان ليسوا اللاعب السياسي الوحيد القادر عل تحريك الحشود في الشارع المصري.. وأن قدرة حركات الشباب على الحشد بالتنسيق مع الأحزاب السياسية الأخرى الموجودة على الساحة، وظهور المليونيات في ميدان التحرير وغيره على الرغم من عدم مشاركة الإسلاميين ولا الإخوان.. تعنى أنه لم يعد من حق أي قوة الآن، أن تعلن أنها المتحدث الرسمي باسم الشارع، أو القادرة على تحريكه في الاتجاه الذي تريد.. في الوقت الذي تريده.