لا يحسم المخرج المغربي نبيل عيوش قرار إنجاز فيلم بحافز لقائه بنص جيد، سيناريو محبوك أو رواية مثيرة، بل من وحي تفاعله مع واقع وبيئة اجتماعية تؤلمه أو تصدمه، فتحثه على التعبير بصرخة الصورة السينمائية. يحدد عيوش في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء منحى تشكل الفكرة الفيلمية من الظاهرة الى النص، وليس العكس: "ثمة محيط يصدمني، يؤلمني فيوجهني الى البحث عن نص ما. موضوعات أفلامي تسائلني في احتكاكي المباشر بسخونتها وتوترها في الحياة".
السينما بالنسبة لمخرج "علي زاوا" لا يمكن الا أن تكون "سياسية واحتجاجية" في مجتمع يعيش انتقالات على عدة مستويات. بالنسبة له، السينما تفضح، تندد، تصرخ لتستنفر الوعي بالاختلالات والأعطاب التي تعرقل حركة المجتمع نحو التقدم والمساواة والعدالة.
يربط نبيل عيوش بين هذا الانصات لنبض المجتمع الذي يعيش فيه وبعض اختياراته الفنية التي طبعت جملة من أعماله، ومن ضمنها الاعتماد على شخوص تؤدي دورها الحقيقي في الحياة وعلى الشاشة. يقول في هذا السياق : "حينما أنجز أفلاما حساسة تمس حقائق وظواهر من عمق المجتمع وهوامشه، أفضل الاستعانة بشخصيات من صلب واقعها، أرى أنها من وحي تجاربها أقدر على التعبير عن أوضاع الشرائح التي يتناولها الفيلم، من ممثلين محترفين". كان عيوش يشير الى إثنين من أشهر أعماله "علي زاوا" (بمشاركة أطفال يعيشون حياة التشرد في الشارع) و"يا خيل الله" (بطولة جماعية لفتية من أبناء حي سيدي مومن الصفيحي).
يوثق فيلمه الأخير "يا خيل الله" لتعامله الأول مع نص روائي، حمل عنوان "نجوم سيدي مومن" للكاتب ماحي بينبين. ويكشف نبيل عيوش أنه طرق باب الرواية في مناسبات سابقة، لكن هذه المحاولات لم تتبلور في مشاريع أفلام ناجزة. يوضح في هذا الباب أنه " لأمر معقد تحويل النص الى الصورة. فإلباس صور على كلمات أمر معقد يثير المخاوف. السينما تظل فنا قاصرا مقارنة مع العالم الفسيح للأدب، ولذلك أبدي حذرا كبيرا قبل اتخاذ قرار تحويل رواية الى الشاشة".
بفضل السينما، يقول عيوش إنه وجد مكانه في المغرب وهو سعيد لذلك. فقبل الانخراط في مغامرة صناعة الأفلام بالمغرب انطلاقا من عام 1995 بطنجة، لم يكن يتمثل معنى لارتباطه بالانتماء المغربي، وهو الذي نشأ في فرنسا، وظلت علاقته بمسقط رأس والده منحصرة في زمن العطلة الصيفية.
في المقابل، لا يخفي المخرج ذو الهوية المزدوجة، كونه ولد لأب مغربي مسلم، وأم فرنسية يهودية، معاناته من "سوء فهم" في علاقته أساسا بالوسط النقدي والاعلامي. يقول في هذا الصدد "لقد اعتدنا الحكم على الاشخاص بالمظاهر وليس من خلال الأعمال. كان هناك الكثير من التهجم الشخصي والأفكار المسبقة بدل الانكباب على الجوهر، على المنجز السينمائي الذي أقترحه. أفضل أن يبدي الصحافي أو الناقد رأيه بكل موضوعية على اختياراتي الفنية وأدواتي التعبيرية، بدل تركيز النقاش على 'ابن من هو'¿ 'من أين أتى'¿...".
يعيب نبيل عيوش على الوسط النقدي والاعلامي المهتم بالسينما انتشار بعض ممارسات "الشللية" التي يقول انه ليس مستعدا للانخراط فيها، للفوز بمديح أو تهليل مجامل. "مهمتي أن أنجز أفلاما، ومهمة الناقد والصحافي المختص أن يدلي برأيه في العمل من منطلق أن الكتابة مسؤولية".
ولعل الندوة التي نظمتها الجمعية المغربية لنقاد السينما في أكتوبر الماضي بطنجة حول تجربة المخرج في إطار تظاهرة "سينمائيون ونقاد" أتاحت تبديد الكثير من التحفظ وسوء الفهم في هذه العلاقة، إذ فتح نبيل عيوش خزانة أسراره الشخصية والفنية في ختام لقاء قدم نخبة من القراءات النقدية العلمية الكاشفة لجماليات سينما عيوش وخصوصيات لغتها وأدواتها. وأكد أنه تردد كثيرا قبل أن يقتنع بفكرة الانكشاف وخوض حديث الصراحة مع الوسط النقدي المغربي، لكنه بدا راضيا عن تجاوز هذه "العقدة" التواصلية.
سؤال الهوية الذي يشكل محور قلق وجودي وسينمائي لنبيل عيوش يجعله على علاقة خاصة مع فيلمه الوثائقي "أرضي" الذي يصنع حوارا "شبه مستحيل" بين الفلسطينيين المهجرين في مخيمات لبنان وشباب إسرائيليين يعيشون على أرض محتلة عرفت ساكنين آخرين قبلهم. لا يخفي أن "أرضي" هو الفيلم "الأكثر ذاتية" في مساره السينمائي، لأنه صنع على خلفية التجاذب بين ذاكرة يهودية وأخرى عربية مسلمة.
أما عن نظرته لمسار تطور السينما المغربية وآفاقها، فيبدي نبيل عيوش تحفظا تجاه السقوط في خطاب "تمجيد ذاتي" يتمركز في الفخر برفع وتيرة انتاج الأفلام الى 25 فيلما في السنة أو أكثر. وهو يرى أن جدل الكم والكيف نقاش ضروري، وليس زائفا كما يعتقد البعض. يوضح عيوش فكرته قائلا: " لسنا في حاجة لإنتاج 25 فيلما في السنة حتى نحقق النجاح المنشود. لدي انطباع بأن السينما المغربية نمت سريعا، وربما أكثر من اللازم، في حين أن الاستثمار في المواهب هو ما يصنع النجاح النوعي".
مكاسب وانجازات السينما المغربية لا تمنع عيوش من الحديث عن "أزمة مراهقة" مشددا على أنه حان الوقت من أجل القيام بجرد للحصيلة. "صحيح بات لدينا مدارس ومؤسسات للتكوين ونظام لدعم الانتاج، هذا جيد لكن من الضروري اليوم تقويم ما أنجزناه على مدى عشرين عاما من الدعم". بغض النظر عن وتيرة الانتاج، يطرح نبيل عيوش أسئلة حول مستوى توزيع الفيلم المغربي في القاعات، حضوره في المهرجانات الدولية الكبرى وغيرها من الأسئلة "التي تتجاوز الرضا عن الذات".
ومن هذا المنطلق يدعو المخرج الى صيغة لتفكير جماعي، ينخرط فيه المهنيون والمؤسسات المعنية، وبالضرورة "الاعلام النقدي" المدعو الى الضغط من أجل اطلاق النقاش الجوهري، الذي ينصب على أنجع الطرق لصناعة أفلام ذات جودة عالية، تنافسية، وايجاد مجالات لتفاعلها مع الجمهور داخل وخارج المغرب.
يخلص نبيل عيوش الذي يؤكد حرصه على دعم ورعاية الأجيال الجديدة من المخرجين الباحثين عن منافذ للتعبير عن ذواتهم، الى أن "السينما مغامرة جماعية. لا نبني السينما اعتباطا، بل بالاستثمار في المواهب".