يقرر الفقيه أحمد الريسوني في مقاله "المسألة اللغوية بالمغرب"، والمنشور بمجلة الفرقان، العدد 73- 2014 أن: "العربية والأمازيغية شقيقتان لا ضرتان"؛ ويعتبر، في هذا المقال، بشكل واضح لا غبار عليه أن اللغة الأَوْلَى "بالعناية والمكانة من أي لغة أجنبية" هي اللغة الأمازيغية؛ وهو موقف نعتبرُه متطوراً عن الكثير من المواقف السابقة التي عبر عنها الفقيه المقاصدي في أكثر من مناسبة داخل الوطن وخارجه؛ إلا أننا عندما نتفحص موقفه هذا نجده للأسف ما يزال يمتاحُ من نفس الإيديولوجية التي لا تريد أن تجعل من الأمازيغية "ضرّة" للعربية، ولكنها في المقابل لا تُمانعُ من أن تجعل منها "الشقيقة- الخادمة" أو "الشقيقة- الأَمَة"؛ ويظهرُ لنا هذا على مستويين على الأقل: 1- المستوى الأول: أن السيد أحمد الريسوني لا يعترفُ، في الجوهر، إلا بلغة رسمية واحدة في المغرب، وهي اللغة العربية؛ يقول: " فالمعوّل عليه الآن هو الدستور، الذي نص في صدارته على أن "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية". والريسوني في هذا لا يشيرُ، من بعيد أو قريب، إلى اللغة الأمازيغية بوصفها لغة رسمية أيضأ؛ بل إنه يدعو إلى إعادة الاستفتاء في هذه القضية، وفي هذه القضية بالضبط؛ فهو يقول: "ولو أردنا الرجوع إلى الشعب صاحب السيادة، كما يُقال، وكما ينص الفصل الثاني من الدستور المغربي، فالاستفتاء ممكن في كل وقت وحين، ويمكن أن نُعِدّ أسئلتَه ونقاشاته وحملته الدعائية وكل متطلباته في سنة وسنتين على أبعد تقدير. فلماذا لا نستفتي الشعب؟ ما هي اللغة التي تختارونها لغة رسمية للبلاد ومؤسساتها الرسمية؟ هل تريدون لغة رسمية ثانية أو ثالثة؟".
-ولنا أن نُسجل هنا ملاحظتين:
-أولاهما أن كلام السيد الريسوني يفيدُ بما يوحي أنه لا يومن بسيادة الشعب؛ فهو عندما يستعمل التعبير"كما يُقال"، وهو بصدد الحديث عن سيادة الشعب ("ولو أردنا الرجوع إلى الشعب صاحب السيادة، كما يُقال")، نراه ينسبُ الإيمان بهذه السيادة إلى الغائب المجهول (يُقال)؛ وهي طريقة في القول تُستعملُ للتشكيك في حقيقة ماهية "السيادة" وفي مصدرها، كما أنها تُستعملُ للتنصُّل من تحمّل تبعات الإيمان بهذه الماهية عن طريق وضع مسافة بين الذات المُخبرة والماهية، والتي تفيدُ -ضمناً- بأن الآخرين (المجهولين) هم وحدهم المعنيون، وأما هو فغير معني بها إلا بمقدار الإخبار عنها؛ وبطبيعة الحال فإن هذا يحتملُ شيئين اثنين، أحدهما أن السيد الريسوني غير مقتنع تماماً بهذه السيادة ويشكك في مصدرها وجدواها، وثانيهما أنه يرى في سيادة الشعب تطاولاً –ربما- على المشروعية الدينية التي يُمثلها "أهل الحل والعقد" كما عبّر، هو نفسُهُ، عن ذلك من قبل؛ إذ بتتبعنا لما ينشره السيد الريسوني يتأكد لنا أنه يجعل لأهل الحل والعقد السيادة الكبرى في تملك السلطة، ولذلك رأيناه يدعو إلى دسترة "جماعة أهل الحل والعقد" كي تكون لها "السيادة" الحقيقية (أي السلطة الكبرى) في عزل الملوك أو الرؤساء، الذين بايعهم الشعب أو انتخبهم؛ وهكذا ففي حالة ما إذا خرج الحاكم، ملكاً كان أو رئيساً، عن روح الشريعة وعن تعليمات "أهل الحل والعقد"، يمكن لجماعة الفقهاء المدسترة أن تتدخل لتوجهه بسلطتها أو لتعزله بقوة الدستور؛ وهو أمرٌ نعتقد أنه يتلاءم، عموماً، مع المرجعيات الإيديولوجية التي تومن بها التيارات الدينية للإسلام السياسي، والتي تتلخّصُ في استبداد مؤسسة الفقيه على غرار استبداد مؤسسة "ولاية الفقيه" الإيرانية (ولكن المُعدّلة سُنياً في حالتنا)؛
-وأما الملاحظة الثانية، فهي أن السيد الريسوني يومن فقط بسيادة الشعب التي تكون ملائمة لإيديولوجيته ولاختياراته؛ فعندما تتلاءمُ سيادة هذا الشعب مع مواقفه نراه يصفق للديموقراطية الانتخابية، ولكنه عندما تتعارضُ هذه السيادة مع هذه المواقف فهو يدعو إلى إعادة الاستفتاء؛ إنه، مثلاً، آمن بدستور 2011 الذي يعترف باللغة العربية لغة رسمية، بل ودعا الناس إلى احترام هذا الدستور الذي خرج من الإرادة الشعبية؛ يقول في هذا الصدد: "وبناءً عليه فكل تهميش للغة العربية، وكل إضعاف لها، وكل تعطيل لها أو تفضيل لغيرها عليها في مؤسسات الدولة ومعاملاتها، فهو تعطيلٌ وخيانة للدستور وللاستفتاءات الشعبية المتعددة التي أقرّتهُ"؛ غير أنه، في المقابل، نجده لا ينبس ببنت شفة عندما يتعلق الأمر بضرورة احترام الدستور في ترسيم اللغة الأمازيغية؛ إنه على العكس من ذلك تماماً نراهُ يدعونا إلى أن نعيدَ الاستفتاء، مرة أخرى، عن طريق طرح أسئلة جديدة ومحددة على الشعب، كأن نسأله، مثلاً، عن اللغة (بالمفرد) التي يختارونها لغة رسمية للبلاد ولمؤسساتها الرسمية؛ أو نسألهم عن اللغة التي يريدون أن يجعلوها لغة رسمية ثانية أو ثالثة؛ هكذا، إذن، سيكون الفقيهُ الريسوني قد أعادنا إلى بداية البدايات؛ فهو لا يعترفُ فقط بالمكانة الدستورية الجديدة للغة الأمازيغية ولكنه يريدُ أن يُغيّر هذه المكانة، باستفتاء الشعب، عن طريق طرح أسئلة دقيقة –على غرار الأسئلة المفخخة حول الأمازيغية في استمارة الإحصاء العام للسكان والسكنى للسيد الحليمي؛ وهو إذ يريد أن يفعل هذا، فلأنه يريدُ – بعد أن يُعدَّ "أسئلتهُ ونقاشاته وحملته الدعائية وكل متطلباته في سنة وسنتين على أبعد تقدير"(كما يقول)- أن ينبهَ الناس ويجعلهم يعيدون النظر في الاستفتاء الأول الذي دستر لغتين رسميتين، وذلك تجنباً لأن تتحوّلَ اللغة الأمازيغية إلى "ضرة"؛ ولكأن السيد الريسوني يفضّلُ أن تبقى الأمازيغية "خادمة" أو "أمَة" لشقيقتها بدلاً من أن تكون "ضرة" لها تتمتع بنفس الحقوق وبنفس الوضع الدستوري وبنفس الوضعية القانونية التي تتمتع بها "الضّرةُ" الأخرى !
2- المستوى الثاني: وأما فيما يتعلق بالمستوى الثاني الذي لا يريد السيد أحمد الريسوني الاعتراف به، فهو الكتابة الأمازيغية (تيفيناغ)؛ إن قرار الكتابة بهذا الحرف يعتبره السيد الريسوني خطأ جسيماً، بل ويشترط لكي تكون الأمازيغية شقيقة للعربية وليس "ضرة" لها (على حد تعبيره) "تصحيح [هذا] الخطأ الجسيم الذي تمثل في التخلي عن كتابة الأمازيغية بالحروف العربية والانتقال إلى ما سمي بتيفيناغ"؛ ولنا هنا ملاحظتان على هذا الكلام:
-الملاحظة الأولى: هي أن السيد الريسوني يعتبرُ، لاشعورياً، "الضرّةَ" أمراً مستهجناً وغير مرغوب فيه بل ومصدراً للكراهية والحقد والشحناء والصراع إلخ... وهذا اعترافٌ منه بالوضعية الشاذة "للضرّة" في المنظومة التشريعية الإسلامية، واعتراف بكونه، هو نفسُه، يحمل في متخيّله مفهوماً قدحياً عنها... أي مفهوماً يمجه الذوقُ الإنسانيّ السليم؛ وإذا كنا نحن، بدورنا، نتفق معه شعورياً ولا شعورياً في أمر هذا الاستهجان، فإننا، مع ذلك، نندهش كيف يمكن لفقيه مقاصدي ينهل من مرجعية تشرّعُ للتعدّد في الأزواج وللتعدد في "الضرات" أن يقدحَ، بوعي منه أو بدونه، في أمر مشروع دينياً؟؛ لماذا يُشرع السيد الريسوني لأكثر من ضرّة (أربع ضرات) عندما يتعلق الأمر بزواج الرجل من أكثر من امرأة، ولا يُشرعُ لأكثر من "ضرّة" عندما يتعلقُ الأمر باللغات الوطنية والرسمية؟ !؛ أين هي روح المقاصدية إذن؟ هل لأن الأمازيغية لم يرد فيها نصّ أو لأن الإيديولوجية غلبت مقاصدية الفقيه؟ السيد الريسوني يريدُ للعربية زوجاً واحداً، بالرغم من أن المرجعية التي يستمد منها مقاصده تبيح التعدد !؛ وهي مفارقة عجيبة ... إذ كيف يُمكنُ لنا أن نستهجن الضرّات اللغوية ونشرع للضرات من النساء؟؛ فإذا كانت "الضّرّةُ" مستهجنةٌ فعلينا، إذن، أن نمتلك الشجاعة فنُحرّمها بالإطلاق، وأما إذا كانت غير ذلك فعلينا أن نقيس حالة الأمازيغية والعربية على حالة "الضرة" كما هي في الشريعة فنمنح لهما، على الأقل نفس الحقوق؛ أما أن تكون الأمازيغية "خادمة" أو "أمة" محرومة من كل هذه الحقوق، بل وقد تُباعُ في أسواق النخاسة والذل كما نصّت على ذلك كتب الفقه القديم؛ فهذا ما لا نقبله؛
-الملاحظة الثانية: هي أن السيد الريسوني يذهب، وهو بصدد المنافحة من أجل إصلاح "الخطأ الجسيم" (أي اعتماد حرف تيفيناغ)، إلى "أن كتابة اللغة الأمازيغية بالحروف العربية، هو أقرب طريق نحو تقويتها وتعميمها على كافة المغاربة بسهولة وتلقائية"؛ وهو موقف رددهُ ويردده الكثيرُ ممن لا حُجة علمية لديهم، وقد ردده من قبلُ السيد بلال التليدي، أحد برلمانيي العدالة والتنمية؛ فقد ذهب الأخيرُ، مثلا، إلى أن اعتماد الحرف العربي للغة الأمازيغية سيجعل كل المغاربة يتقنونها، بل وتمادى فأكد أن هذا الاعتماد سيفتح الأبواب مشرعة أمام الأمازيغية إلى العالمية؛ وإذا كنا قد رددنا، في حينه، على السيد بلال التليدي، فإنه لا بأس من أن نعيد على مسامع السيد الريسوني بعضاً مما قلناه في هذا الصدد؛ نريد أن نسأله هل هو متأكد أن اعتماد الحرف العربي / الآرامي سيجعلُ المغاربة كلهم يتقنون الأمازيغية؟ هل فقط باعتماد الحرف يمكن لهم أن يتعلموا بسهولة هذه اللغة دون أن يدرسوا قواعدها ومعجمها وأساليبها إلخ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل في إمكان السيد الريسوني أن يتكلم ويكتب اللغات الإسلامية التي تكتب بالحرف العربي، لمجرد أنها تُكتب بالحرف العربي !؟ ثمّ هل العرب الذين يتقنون الكتابة والقراءة بالحرف العربي قادرون، مثلا، على فهم وقراءة وكتابة اللغة الفارسية ولغة الأوردو ولغة الباشتو واللغات الأزبكية في أفغانستان لمجرد أنها لغاتٌ تُكتب بالحرف العربي إلخ. هل فتح لها الحرفُ العربي أبواب العالمية؟ يقول السيد الريسوني أن علينا أن نتأسى بالشعوب الإسلامية التي تبنت الحرف العربي في كتابة لغاتها؛ ففي نظره أن هناك "مئات الملايين من المسلمين غير العرب يكتبون لغاتهم بالحرف العربي"؛ ولكن الذي ينساه أو يتناساه السيد الريسوني أيضاً هو أن هناك الملايين من المسلمين الآخرين الذين يكتبون لغاتهم القومية بالحرف اللاتيني أو بحروفهم الأصلية ولا يطرحُ هذا الأمر لديهم مشكلاً كما يطرحُه السيد الريسوني عندنا؛ إذ لا أحد يشكك في إسلامهم، وفي وطنياتهم أو في هوياتهم وانتماءاتهم ! هل يمكن للسيد الريسوني، مثلاً، أن يشكك في هويات وإيمان الشعوب الإسلامية غير العربية التي لا تكتب بالحرف العربي في إفريقيا وآسيا وأوروبا إلخ ويعتبر ذلك خطأ جسيماً.؟ هل يمكن لنا أن نشكك في الشعوب السواحيلية والنوبية والصومالية وكل الشعوب التي تتكلم بلغات السونجاي والهاوسا إلخ بأفريقيا فنقول عنها أنها مقطوعة عن ماضيها الإسلامي كما يريد أن يوحي لنا بذلك السيد الريسوني؟ بل وهل يمكن لنا أن نعتبر الشعوب التي تتكلم اللغة الماليزية (في شرق آسيا) واللغات التركية والألبانية والبوسنية (في آسيا الصغرى وأوروبا) إلخ واللغات التركمانية والشيشانية والأوزبكية والطاجيكية والتتارية (في آسيا الوسطى ) إلخ بوصفها لغات فقدت كلها هويتها الإسلامية لمجرد كونها مكتوبة بحروف غير عربية؟ تلك الحروف التي يعتبرها خطأ جسيماً عندنا نحن؟ !
-إن أمر الكتابة بحرف تيفيناغ قد أصبح أمراً محسوماً منذ أكثر من عقد من الزمن، وهذا بالرغم من تهديدات البيجيدي الخروج إلى الشارع، وبالرغم من الرسالة المشهورة التي أرسلها السيد الريسوني إلى المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والتي حثهم فيها وطالبهم بتبني الحرف العربي؛ بل وبالرغم من الخرجات النارية التي عبر عنها السيد الريسوني ومجايلوه مباشرة بعد موافقة الملك على الرأي الاستشاري للمعهد الملكي في تبني تيفيناغ حرفاً رسمياً للغة الأمازيغية وبحضور ومباركة الأحزاب الوطنية ومختلف ممثلي الأمة ومسؤولي الدولة الممثّلين في الوزير الأول آنذاك؛ إن العودة إلى نقاش الحرف المحسوم هي محاولة لإلهاء الرأي العام عن القضايا الأساسية للأمازيغية والتي منها الصمت المطبق للحكومة عن القانون التنظيمي للغة الأمازيغية، والتراجع عن كل أوراش تدريس هذه اللغة ومنحها مكانتها المستحقة في الإعلام والإدارة إلخ؛
-معركة الحرف في التاريخ الإسلامي معركة دينية قديمة
من المعلوم أن العديد من التيارات الإسلامية القديمة قدست الحرف؛ فقد ذهب البعض منها في إطار السجالات الفلسفية- العقدية، في العهد العباسي، إلى أن القرآن قديم وأن الله نزله على الرسول بكلماته وحروفه وتراكيبه إلخ. وذهب فريق آخر إلى أن القرآن مخلوق بلفظه وشكله ونقطه وأن القديم هو الله؛ ونظراً إلى الرهانات الإيديولوجية والسياسية التي كانت كامنة وراء هذا الادعاء أو ذاك فقد أدى ذلك إلى حدوث صدامات دامية بين الغرماء عرفت في التاريخ الإسلامي بمحنة خلق القرآن؛ ونظراً للطبيعة العقدية للمحنة فقد غابت العقلانية وشكّل الحرفُ إحدى تجليات الخلق القرآني إلى الدرجة التي ذهب فيها البعضُ إلى اعتبار الأخطاء الإملائية الواردة في بعض الآيات وقائع حرفية مقدسة لا تُمسّ؛ فقالوا، مثلاً، "في زيادة الألف في لا لأذبحنَّه إنه تنبيهٌ على أنّ الذبحَ لم يقع وفي زيادة الياء في باييد إنه تنبيهٌ على كمال القدرة الربانية"؛ وهو أمرٌ لم يستسغه العلامة ابن خلدون الذي أكد أن هذا الادعاء "ممّا لا أصل له إلا التّحَكُّمُ المحض"؛ فقد جاء في قوله: "وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المُصحف حيثُ رسمهُ الصحابةُ بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادةِ فخالفَ الكثيرُ من رسومهم ما اقتضتهُ رسوم صناعة الخط عند أهلها ثم اقتفى التابعون من السلف رسمَهم فيها تبرّكاً بما رسمه أصحابُ الرسول صلى الله عليه وسلم وخير الخلق من بعدهِ المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه كما يُقتفى لهذا العهد خطُّ وليّ أو عالم تبركاً ويُتبعُ رسمه خطأً أو صواباً"؛ وإذ ينتقد ابن خلدون هذا التصوّر المغلوط عن الحرف "المبارك" بأخطائه و"المقدس" رغم عدم استحكامه، رأيناه يرفض ما "يزعمه هؤلاء" بل ويعتبر "الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية" وليس أبداً من جملة الوحي المفروض من طرف الإله والمنزل على محمد الرسول (ابن خلدون، المقدمة).
مناسبة هذا الكلام الأخير هو خوفنا أن يستعيد الإسلاميون، مرة أخرى، هذه النقاشات البيزنطية القديمة التي ذهب ضحيتها الكثيرُ من الأئمة والفقهاء ورجال الفكر والسياسة وعامة الناس، ويسبغوا عليها لباس القداسة كما هو ديْدنهم دائماً؛ إذ ما أسهل الانزلاق إلى تقديس كل ما يرتبط بالإسلام من بعيد أو قريب فتكون بذلك ردة أخرى إلى عهد "محنة الحرف" العباسية؛ إن تقديسَهم لحرف العربية، ومحاولتهم فرضه بالشكل الذي يجعل كل اللغات التي تبنت شعوبها الإسلام تحت مظلة الحرف العربي، يجعلهم يتناسون –للأسف- أن المقدس هو الله وحده، وأن الحرف كما يقول ابن خلدون ليس إلا من جملة الصنائع المدنية المعاشية، وأنه ليس ركناً سادساً في الإسلام؛ بل وأن الناس أحرار في أن يختاروا لهم ما شاءوا من حروف، وأنه إذا كان إخوانُهم الأمازيغ قد اختاروا حرف تيفيناغ، فلأن الحرف ليس، في النهاية، إلا من جملة هذه الصنائع، ولأنهم يريدون أن يلبسوا لغتَهم لباسها الأصيل الذي يرمز إلى هويتهم؛ وهذا من حقهم؛ وأما اعتبار تبني تيفيناغ خطأ وخطيئة وإثماً يجب التراجع عنه فهذه دعوة إلى التحكّم، وهي الدعوة التي نجدُ لها تجليات أخرى في الفكر التيوقراطي الرافض لمفاهيم التنوع والتعدد إلا فيما يتعلّقُ ب"النساء"؛ لا حول ولا قوة إلا بالله !