جاء الإعلان عن الوعكة الصحية التي أُصيب بها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والبالغ من العمر 76 سنة، وهو في عامه الأخير من عهدته الرئاسية الثالثة، بمثابة الصدمة لأبطال عملية التحضير لمن سيتربع على قصر المرادية، بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي في شهر أبريل من السنة القادمة. ليس خافياً على أحد من العارفين بالشأن الجزائري كيف يُصنع رؤساء الجزائر منذ استرجاع سيادتها سنة 1962، حيث تتولى المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية مهمة التعيين، لتُعطى بعدها الإشارة لأجهزة الدولة المختلفة من مؤسسات وأحزاب بمباشرة حملات التزكية والمساندة لمن حظي بتلك الثقة.
ليس بالضرورة أن يستمر شهر العسل بين المُزَّكي والمُزَّكَى، ولهذا ومنذ الإطاحة بالرئيس الراحل بن جديد، في يناير 1992، والجزائر تعاني من صراع خفي بين أجنحة ومراكز قوى في أعلى هرم السلطة، تمخضت عنه كل الأحداث الدرامية التي أعقبت قرار إجهاض العملية الديمقراطية، التي شرعت فيها الجزائر بعد مظاهرات 1988.
ومع تولي الراحل علي كافي رئاسة المجلس الأعلى للدولة، بعد اغتيال رفيق دربه في حرب التحرير الرئيس بوضياف، عندما أراد ممارسة صلاحياته كرئيس، بدأ صراع الأجنحة يطفو على السطح على شكل حرب إعلامية على صفحات الجرائد، بين ضباط جيش التحرير وبين ضباط جزائريين فروا من الجيش الفرنسي ليلتحقوا بالثورة بعد اندلاعها في 1954.
ولتجنيب الجزائر هزة دموية أخرى، قرر الرئيس اليمين زروال سنة 1998 التخلي عن منصب، أُريد له أن يكون واجهة ديمقراطية لنمط من الحكم غير ديمقراطي.
ومع استقدام الرئيس الحالي سنة 1999، بعد إبرام صفقة مع مؤسسة صناعة رؤساء الجزائر يتم بموجبها غلق صفحة حرب التسعينيات الأهلية مقابل التزام قيادة الجيش بعدم التدخل في الحياة السياسية، بدأت حلقة جديدة من مسلسل الصراع على السلطة، بين رئيس خبّر قواعد اللعبة منذ أن كان وزيرا للخارجية في عهد الرئيس بومدين ليتمكن من وضع يده على المؤسسة العسكرية ومؤسسة الرئاسة وبين بعض من مناوئيه من جنرالات في الديراس DRS (إدارة الاستعلام والأمن).
ويؤكد المراقبون يوما بعد يوم صحة التقارير التي تتحدث عن الصراع الكبير الدائر بكل أشكاله بين "رجال الرئيس" و"رجال DRS" حول تمرير العهدة الرابعة لبوتفليقة ومشروع تعديل الدستور. فبعد إطلاق "الديراس" لعملية محاربة الفساد "الأيادي النظيفة"، والتي مست شخصيات كبيرة من محيط الرئيس متهمة بقضايا فساد، كان آخرها شقيقه ومستشاره الشخصي السعيد بوتفليقة، أعلنت الرئاسة بداية أبريل عن تشكيل "خلية خاصة" تابعة لها، مكونة من ست شخصيات لمتابعة مجريات التحقيق في ملفات الفساد التي فتحتها مصالح الشرطة القضائية هيئة تم تنصيبها عام 2008 بتعليمة رئاسية بعدما أعلن وزير المالية كريم جودي عن الانطلاق الرسمي لأعمال المكتب المركزي لمكافحة الفساد، في خطوة اعتبرها الملاحظون رد فعل على اجراءات جهاز المخابرات اتجاه جماعة الرئيس وعمل موازي لها قبل تلويح معسكر الرئيس بإعادة فتح ملفات المفقودين وقتلى العشرية السوداء التي يُتهم الاستئصاليون بالوقوف وراءها.
وإزاء هذا الوضع المتأزم داخل دوائر صنع القرار، يحبس الشعب الجزائري أنفاسه في انتظار المشهد الأخير من ذلك الصراع على سلطة تعصف بها احتجاجات جبهة داخلية متصدعة وحرب إقليمية على حدودها الجنوبية، غايتها ومنتهاها وحدة الجزائر نفسها. الأمر الذي يجب أن يدفع العقلاء من كلا المعسكرين المتشاكسين إلى تغليب صوت العقل والمصلحة العليا للوطن والذهاب إلى مرحلة انتقالية تَرجع بعدها السلطة للشعب عبر منتخبيه في نظام ديمقراطي يسترد فيه الفرد معاني المواطنة والحياة الكريمة، ومن ثَمَّ التخندق مع سلطة تستمد شرعية وجودها من الإرادة الشعبية، بعيدا عن كل تغوّل جهوي أو مصلحي، أصبح يشكل خطراً على كينونة الدولة واستمرار بقائها.