يحق للمواطن المغربي أن يفتخر ويرفع رأسه عاليا بين الأمم والبلدان، وهو يشارك ويتابع مجريات الانتخابات التشريعية والمحلية والجهوية في دولته. استحقاقات انتخابية أتاحت للمواطنين التعبير عن رأيهم في مدبري الشأن العام، عبر معاقبة من يستحق العقاب ومجازاة من يرون فيهم أهلا للمسؤولية. إنها السلطة الحقيقية للمواطن وصوت الشعب الحقيقي، الذي يتناساه البعض ويعتبر أن خلوده في السلطة أبدي، كما يتناسى الفصل الثاني من الدستور المغربي الذي ينص على ما يلي: "تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم". النموذج المثالي للاستثناء المغربي لقد قال المواطنون كلمتهم عبر الطريقة المثلى لذلك، صناديق الاقتراع باعتبارها الوسيلة المثلى التي تمارس عبرها الأمة سيادتها وفقا لنص الدستور، غير مبالين بدعاة المقاطعة والعدمية السياسوية، لأنهم مؤمنون بأن السبيل الوحيد لاستمرار النموذج المثالي ل"الاستثناء المغربي" يكمن في إيمانهم وتشبثهم بثوابت وطنهم كما نص عليها دستور 2011: الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي، وبثقتهم العالية في مؤسسات بلادهم ووعيهم التام بأهمية التداول السلمي على السلطة. لهذا كانت استحقاقات 8 شتنبر 2021 محط إشادة على مستوى التنظيم والنزاهة والشفافية من طرف العديد من الدول العريقة في الممارسة الديمقراطية، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة المتحدة واليابان... وغيرها. كما كانت محط إشادة وثناء من طرف عدد كبير من الملاحظين الدوليين الذين راقبوا السير العادي للعملية الانتخابية بكل حرية ومارسوا مهامهم بكل شفافية داخل مراكز الاقتراع، بالإضافة إلى تقرير الملاحظة الصادر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان. التنظيم المحكم والنزيه للانتخابات العامة في المغرب كانت رسالة للخصوم المعروفين بعدائهم لبلادنا، فإجراء الانتخابات التشريعية والجهوية والمحلية، في نفس اليوم، يؤكد "عمق الممارسة الديمقراطية ونضج البناء السياسي المغربي"، كما جاء في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 68 لثورة الملك والشعب. وإذ نبه الملك محمد السادس في ذات الخطاب إلى أن "الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لإقامة مؤسسات ذات مصداقية، تخدم مصالح المواطنين، وتدافع عن قضايا الوطن"، فلأننا كما يقول: "نؤمن بأن الدولة تكون قوية بمؤسساتها، وبوحدة وتلاحم مكوناتها الوطنية. وهذا هو سلاحنا للدفاع عن البلاد، في وقت الشدة والأزمات والتهديدات". الجواب على الاستهداف الخاسئ للمملكة المغربية لما تتمتع به من نعمة الأمن والاستقرار، تمثل أساسا في تنظيم انتخابات عامة مفتوحة على كل الاحتمالات ولم يكن أحد يتوقع نتائجها، إذ شكلت مفاجأة للمتابعين والمحللين والفاعلين المجتمعيين، ويحق للمواطنين المغاربة أن يفخروا بإجرائها في ظروف مثالية رغم أنها تأتي في ظرفية صعبة وطنيا وإقليميا ودوليا والتي يمكن أن نوجزها في النقط التالية: -تنظيم استحقاقات انتخابية في وقتها رغم انتشار وباء كوفيد-19، بما يعني الحرص الشديد على إجرائها في موعدها، وهذه الانتظامية تشكل من دون شك تراكما ديمقراطيا حاسما. -رغم انتشار الوباء كانت نسبة المشاركة في الانتخابات جيدة، بما يعزز ويبين ثقة المواطنين في مؤسسات دولتهم وفي مسارها الديمقراطي الذي لا رجعة فيه. -في الوقت الذي توجد فيه المملكة المغربية داخل محيط إقليمي مشتعل وغير مستقر ومطبوع بوضع سياسي صعب في تونس وأزمة ليبية وحراك جزائري مستمر في الشارع، نجد أنها تنظم استحقاقاتها في وقتها المحدد وتفرز نخبا سياسية جديدة في المؤسستين التشريعية والحكومية، وفي ظروف مثالية من حيث التنظيم المحكم والنزاهة والشفافية بشهادة الخصوم قبل الأصدقاء. -كما تولى تيار "الإسلام السياسي" ممثلا في حزب "العدالة والتنمية" زمام الحكومة لولايتين متتاليتين عقب حصوله على المرتبة الأولى في استحقاقات 2011 و2016 التشريعية، واندحر عقب خسارته التي لم يكن أكثر المتشائمين داخل الحزب يتوقعها، وذلك بناء على إرادة المواطنين التي عبروا عليها عبر صناديق الاقتراع، بعكس بلدان أخرى كان فيها اللجوء لوسائل "غير دستورية" من أجل إزاحة الإسلاميين من السلطة بعدما أبانوا عن فشل ذريع في تدبير عدد من الملفات. "البيجيدي".. أسباب السقوط الحر من دون شك، ففشل حزب "العدالة والتنمية" في تدبير عدد من الملفات جعل المواطنين يعاقبونه بعد خيبة أملهم فيه، لكن هذا ليس هو السبب الوحيد طبعا لهذا السلوك الانتخابي، وإنما لائحة طويلة من الأسباب دفعت الناخبين إلى الاقتصاص منه، يمكن أن نقدمها فيما يلي: -حصيلة اجتماعية كارثية بكل المقاييس، تضررت منها بشكل كبير الطبقة المتوسطة في البلاد، فعوض البحث عن أجوبة حقيقية للإشكاليات المطروحة، لم يكن "المصباح" يضيء على أي حل سوى إثقال كاهل هذه الطبقة بالضرائب والاقتطاعات والزيادة في أسعار بعض المواد، عوض البحث عن حلول أخرى يمكن من خلالها الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، بل الأنكى من ذلك كان قادة هذا الحزب يدافعون أمام المواطنين بكل صفاقة عن اختياراتهم اللاشعبية هاته. -مفهوم العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، لم يكن حاضرا بشكل نهائي لدى حزب، إلا في إطار البحث عن طريقة لتوزيع الأعطيات وبعض المساعدات المالية المباشرة من أجل ذر الرماد في العيون، بالإضافة إلى اتخاذ قرارات رأسمالية متوحشة تجلت في تحرير بعض القطاعات، وتكريس الخوصصة في قطاعات اجتماعية، دون إخضاعها للمراقبة من طرف المؤسسات المعنية، وهو ما عبر عليه يوما عبد الإله بن كيران من خلال قوله إن الدولة يجب أن ترفع يدها عن قطاعي الصحة والتعليم. -فشل ذريع طيلة 10 سنوات من طرف رئيسيْ الحكومة اللذان توليا قيادة الحكومة من حزب "العدالة والتنمية" في إنجاح الحوار الاجتماعي بين النقابات والحكومة وممثلي الباطرونا، ما جر عليه نقمة الطبقة الشغيلة في القطاعين الخاص والعام. -عدم قدرة الحزب من خلال موقعه في الحكومة، على الحفاظ على التوازنات الماكرواقتصادية واللجوء في المقابل إلى إغراق البلاد بالمديونية الداخلية والخارجية، لدرجة صرح فيها رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بن كيران والأمين العام السابق للحزب، أن كريستين لاغارد الرئيسة السابقة لصندوق النقد الدولي أثنت على أداء حكومة حزبه في تطبيقه لشروط الصندوق، وهو ما لا يمكن أن يتفوه به رئيس حكومة في العالم. -تميز خطاب الحزب السياسي طيلة قيادته للحكومة بالازدواجية، فعند تتبع مواقف بعض قادته في بعض الأحيان لا تكاد تفرق بينها وبين خطاب حزب في المعارضة مع العلم أنه يقود الحكومة، وهي انتهازية سياسية رغب من خلالها "العدالة والتنمية" الاستمتاع بحلاوة السلطة والاستئثار بشرف المعارضة بهدف لعب دور "الضحية" أمام المواطنين، حتى يدغدغ مشاعرهم ويستميل عاطفتهم، وطبعا هذه الازدواجية ليست سياسية فقط، وإنما كانت حتى بين قياداته التي اقترفت عددا من الأفعال تناقض مرجعية الحزب المحافظة. -الغرور الذي أصاب هذا الحزب وقادته، الذين اعتبروا أن تصويت المغاربة عليه هو خيار مستدام أو شيك على بياض، والحال أنه لم يفهم عددا من التحولات الكبرى في المشهد السياسي ذات البعد السوسيولوجي داخل الفئة الناخبة، والتي أصبحت أكثر اطلاعا على البرامج الانتخابية وأكثر اهتماما بتتبع النقاش العمومي وقادرة على التمييز والتفريق بين الغث والسمين، فضلا عن عدم قدرتهم على بناء جسور الثقة مع باقي الفاعلين السياسيين في المشهد الحزبي. -التصدعات الداخلية التي أصابت الحزب والتي سببها الرئيسي عدم قدرته على تجديد قراءاته السياسية والهروب إلى الأمام في التعاطي مع الملفات المرتبطة بالتنظيم الحزبي وعدم مواجهتها بالشجاعة الفكرية والسياسية اللازمة، ما جعل عددا من أعضائه والمتعاطفين معه ينفرون منه، إذ أنه لم يتمكن من تغطية نسبة هامة من مراكز الاقتراع، كما كان يفعل في استحقاقات انتخابية سابقة. حزب الأحرار.. وصفة النجاح في مقابل هذه الهزيمة النكراء والسقوط المدوي لحزب "المصباح" بحصوله على 13 مقعدا في مجلس النواب، ليفقد بذلك أزيد من 100 مقعد مقارنة بآخر انتخابات تشريعية عرفتها المملكة، حصد حزب "التجمع الوطني للأحرار" 102 من أصل 395 مقعدا بالغرفة الأولى للبرلمان المغربي متصدرا نتائج الانتخابات التشريعية. وبذلك، عين جلالة الملك عزيز أخنوش، باعتباره الأمين العام لحزب "الحمامة" رئيسا للحكومة وكلفه بتشكيلها. الانتصار الساحق للحزب الذي أسسه أحمد عصمان سنة 1978، ولم يترأس الحكومة لأزيد من 40 سنة، لم يأت من فراغ وإنما بناء على تخطيط وترتيب استمر طيلة 5 سنوات منذ انتخاب عزيز أخنوش أمينا عاما له، وعوامل هذا الفوز يمكن أن نقدم بعضها في النقط التالية: -حملة رقمية احترافية ومهنية وذكية، استطاع بواسطتها الحزب أن يبسط تصوره ويقدم برنامجه للمواطنين، وخاطب من خلالها أزيد من 20 مليون مغربي يوجدون على شبكات التواصل الاجتماعي. هذه الحملة تمكنت من فهم البنية السوسيولوجية للمصوتين واستهدافها، وفقا لخصائصها السوسيولوجية وأساسا فئة الشباب التي تمثل 30 في المائة من الهيئة الناخبة بالإضافة إلى المسجلين الجدد في الهيئة الناخبة. -سياسة تواصلية ناجعة، تجنب من خلالها الحزب الدخول في النقاشات السياسوية العقيمة، وعدم الرد على الهجومات التي تعرض لها إلا في نطاق معقول وبشكل مدروس، ما ساهم في تحسين صورته أمام الرأي العام، خصوصا وأن المواطنين لا يرغبون في متابعة التصريحات والتصريحات المضادة بعيدا عن القضايا التي تشغلهم. -تقديم برنامج انتخابي دقيق وبالأرقام وبالتزامات مضبوطة سيتم تنفيذها عبر إجراءات، ما شكل مغامرة لم يقو أي حزب سياسي على خوضها بهذه الشجاعة. صحيح أن "التجمع الوطني للأحرار" سيكون مطوقا بها أمام الرأي العام إلا أنه وعد المواطنين بتحقيقها. -لم يبدأ "التجمع الوطني للأحرار" حملته الانتخابية يوم 25 غشت الماضي، وإنما بدأ تواصله المباشر مع المواطنين والاستماع إلى مختلف إشكالياتهم منذ انتخاب قيادته الجديدة في مؤتمره سنة 2016، وأساسا عبر برنامجه "مائة يوم.. مائة مدينة"، والتي زار فيها قادة الحزب عشرات المدن والأقاليم المغربية من أجل الحديث مع سكانها وأخذ اقتراحاتهم بعين الاعتبار، وهو ما سهل على الحزب صياغة برنامجه الانتخابي وجعله متجاوبا مع انتظارات المواطنين. -قدرة وزراء الحزب في الحكومة على تقديم حصيلتهم وفق رؤية تواصلية حديثة والترويج لإنجازاتهم ومشاريعهم في القطاعات التي يشرفون عليها، دون السقوط في أي نوع من أنواع لغة الخشب أو الدخول في ملاسنات لا طائل من ورائها، وهو ما ساهم في بناء جسور للثقة بينهم وبين المواطنين ورسم صورة إيجابية عنهم لدى الرأي العام. -تجديد الهياكل الحزبية واستقطاب نخب جديدة للحقل السياسي قادرة على التواصل مع المواطنين بلغة يستوعبونها، والاعتماد على طاقات شابة وتقديمها للرأي العام.