إن استدامة النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، تدخل في صلب الغايات الكبرى التي تسعى إليها اسبانيا، لأجل إلهاء المغرب وإشغاله عن الالتفات والتطلع لاسترجاع سبتة ومليلية المحتلتين منذ قرون. هذا المسعى الإسباني، لم يكن حديث العهد، إذ أن المغرب كان محط الأطماع الإسبانية في القرن التاسع عشر، والتي ظلت تذكيها تلك الرغبة في الإبقاء على الوضع كما هو عليه في الثغرين المحتلين. عندما بدأ التنافس الأوروبي على التدخّل في شؤون المغرب، الذي بدأ آنذاك يُصاب بالضعف، كان أول هذه التدخلات من قبل إسبانيا حيث اندلعت المواجهات في تطوان عام 1859، وبعد سلسلة من الأحداث وتوقيع المعاهدات خضع المغرب للاستعمار الإسباني سنة 1912. لم تكن الخشية من تزايد النفوذ الفرنسي في المغرب، خاصة بعد احتلال الجزائر، السبب الوحيد الذي حرك إسبانيا للدخول في مسلسل النزاعات الغربية حول المغرب ما أدى إلى تقسيمه إلى عدة مناطق في معاهدة فاس عام 1912، والتي قضت باحتلال إسبانيا منطقة الريف إضافة إلى الصحراء المغربية، فيما أصبحت المنطقة الوسطى تحت الحماية الفرنسية، وخضعت مدينة طنجة لحماية دولية. لقد سعت مدريد إلى إبقاء الوضع القائم في المدينتين المحتلين منذ استعمارهما في القرن الخامس عشر، ومع ظهور الأطماع الاستعمارية الأوربية حول المغرب عقب تراجع نفوذه، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، استغلت إسبانيا هذا الوضع لفرض الأمر الواقع، من خلاله إعاقة منافسيها الآخرين وهو ما مكنها من الحصول على حقها من الكعكة. وطيلة حقبة الاستعمار الإسباني للمغرب، بذلت مدريد كل جهودها واستعملت كل الأساليب، وسخرت كل الإمكانيات للحيلولة دون استقلال المغرب، وتحالفت مع فرنسا لتحقيق ذلك، وذهبت حدّ ارتكاب أبشع الجرائم بحق الإنسانية عندما استخدمت تسعة أنواع من الغازات السامة في حربها ضد المقاومة المغربية بقيادة المجاهد عبد الكريم الخطابي في عشرينيات القرن المنصرم. وكما فعلت في شمال المغرب مع المقاومة الريفية، تحالفت إسبانيا مع فرنسا وحشدتا كل قواتهما وعتادهما العسكري، في 10 فبراير من سنة 1958، للقضاء على أعضاء جيش التحرير في عملية أطلق عليها اسم "إيكوفيون". وكانت العملية تهدف إلى القضاء على جيش التحرير الذي قرر تحرير الصحراء المغربية بقوة السلاح من المستعمر الإسباني. وقد انضم أعضاء جيش التحرير، الذين رفضوا إلقاء السلاح بعد الإعلان عن استقلال المغرب سنة 1956، إلى المقاومة في الصحراء المغربية، وبدأوا يشنون حرب عصابات ضد المستعمر الإسباني، ما أجبر هذا الأخير سنة 1957 على مغادرة مدينة السمارة والتمركز في السواحل. ومع استشعار الإسبان الخطر الذي بات يشكله جيش التحرير، سارعوا إلى طلب النجدة من فرنسا، حيث عملتا معا على إعداد جيش مدجج بمختلف الأسلحة قوامه أكثر من 14 ألف مقاتل. وفي العاشر من شهر فبراير من سنة 1958، شن الجيش الإسباني الفرنسي، مدعوما بالمدفعية الثقيلة والدبابات والطائرات الحربية، هجوما على جيش التحرير في عملية أطلق عليها اسم "إيكوفيون" التي تعني المكنسة. قرر المغرب الدخول في مفاوضات مع إسبانيا، على غرار المفاوضات مع فرنسا التي كللت باتفاق "إيكس ليبان"، لكن الإسبان استخدموا كل السبل والوسائل والمناورات لتأجيل استرجاع الصحراء المغربية إلى ارض الوطن. ولئن كان المغرب قد استرجع الأراضي التي كانت تحت الحماية الفرنسية في 1956 مرة واحدة، فإن إسبانيا، استغلت توزع الأراضي التي كانت تستعمرها بين الشمال والمركز والجنوب، للمماطلة وتأخير عملية تصفية الاستعمار بها. وقد تم استرجاعها على مراحل متتالية : الشمال في 1956، طنجة في أبريل 1956، طانطان وطرفاية في 1958، سيدي إفني في 1969، والصحراء المغربية في 1975 على إثر المسيرة الخضراء المظفرة. ورغم خروج إسبانيا من الصحراء المغربية، فإن موقفها ظل ملتبسا، فمن جهة تقر رسميا بانها غير معنية بالنزاع وبان الملف يجب ان يتم حله سياسيا وتحت اشراف الاممالمتحدة، ومن جهة أخرى لا تتوانى في إيواء العديد من المرتزقة وتسمح بتنظيم انشطة معادية للوحدة الترابية للمغرب فوق ترابها، وما استقبال المجرم ابراهيم غالي للعلاج إلا دليل على هذا الموقف. هذا الموقف الاسباني الملتبس، يغدو واضحا ويفصح عما تضمره الجارة الشمالية بكل جلاء كلما أحست بانزعاج من أي تقدم في حلّ النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وهو ما عبرت عنه بشكل لافت عقب قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بمغربية الصحراء. الدبلوماسية الإسبانية ترجمت هذا التوجس بالتحرك السريع والتواصل مع فريق جو بايدن، بهدف كسب تجميد الاعتراف الأميركي المشار إليه والتراجع عنه، إلا أنها لم تفلح في ذلك وعادت للحديث عن موقفها المحايد في الملف بعد ان تلقت انتقادات عنيفة بخصوص تحركاتها. وبموازاة هذا التحرك، سعت اسبانيا إلى استغلال التوتر القائم بين المغرب والجزائر، وسايرت مخططات النظام العسكري خاصة بعد إحساساها بان ملف الصحراء بات قريبا من الحل، وهو ما كشفت عنه التحركات الأخيرة واللقاءات بين المسؤولين الجزائريين والاسبانيين، كان آخرها زيارة صابري بوقادوم، رئيس ديبلوماسية العسكر، إلى مدريد وتصريحاته حول رغبة الطرفين في تطوير العلاقات الثنائية بينهما. هذا التقارب بين اسبانياوالجزائر، هي محاولة تهدف إلى التضييق على المغرب وإعاقة كل تقدم في مسار تسوية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وهو تقارب تلتقي فيه استراتيجية اسبانيا للحيلولة دون التفات المغرب إلى الثغور المحتلة في شمال المملكة، وكذا عقيدة النظام العسكري الجزائري وعقدة الجنرالات المرضية تجاه المغرب. وإذا كان المغرب ملتزم بالقنوات الدبلوماسية كوسيلة وسبيل لاسترجاع سبة ومليلية السليبتين، فإن ما راكمه مؤخرا من تقدم على جميع المستويات وكذا ما حققه من تنمية مستدامة بمختلف الاقاليم والجهات، جعل الجارة الشمالية تنزعج وتحس بخطر قرب الجلاء من سبتة ومليلية، وهو ما تم التعبير عنه من خلال تقارير وأخبار التي ينشرها الإعلام الاسباني بالإضافة إلى تصريحات بعض المسؤولين الاسبان الذين لا يرون بعين الرضا ما يقوم به المغرب من مشاريع عملاقة بضواحي المدينتين المحتلتين، وضمنها ميناء الناظور وكذا إغلاق حدود سبتة ومليلية في وجه تجارة التهريب، ما خنق اقتصاد المدينتين وجعلهما تعيشان عالة على الميزانية الاسبانية. وأمام هذا الوضع، لجأت اسبانيا إلى خدمات الجنرالات في الجزائر، وهو ما كشفته مؤخرا تقارير إعلامية عن إحباط الداخلية في المغرب، مع جمعيات مغربية وشخصيات إسبانية لتحركات الاستخبارات العسكرية الجزائرية لطمس هوية ومعالم مدينة مليلية المحتلة. وفي هذا الصدد تحدثت ذات المصادر إلى ما سمته بالتصدي لمخطط إطلاق خط بحري جديد بين مليلية المحتلة وميناء "الغزوات" الجزائري (على مسافة 60 ميلا بحريا في اتجاه الشرق)، بهدف التخفيف من وطأة الحصار التجاري المغربي على مليلية. التقارير المشار إليها، كشفت أن علاقات الإسبان بالجزائر في مدينة مليلية المحتلة لم تعد تقتصر على المعاملات الاقتصادية، بل امتدت إلى الإشراف الديني، خاصة مع الصراعات الخفية وانحياز "الجماعة الإسلامية النور" إلى الطرح الجزائري، والتذمر من بعض الإجراءات، وهو ما استغله الجزائريون في رفع عدد الزيارات وربط علاقات ولقاءات هدفها زيادة التبادل التجاري، ورغبة الإسبان في فتح أسواق جديدة، بعيدا عن محيطي سبتة ومليلية، ولو استدعى ذلك فتح المجال أمام الجزائريين والسماح بدخولهم مدينة مليلية من دون الحصول على التأشيرة، كما هو معمول به مع ساكنة مدينتي الناظوروتطوان. وكان فيكتور جاميرو، رئيس ميناء مليلية، قد أعلن في السابق عن خطط لاستقبال رحلات تجارية بحرية من الجزائر والشروع في إنشاء خط بحري تجاري جديد يربط مليلية المحتلةبالجزائر. وهو المشروع الذي يأتي ل"فك الحصار المغربي على المدينةالمحتلة"، وردا على قرار المغرب وضع حد لعمليات "التهريب المعيشي" ومنع دخول السلع إلى إقليمالناظور عبر المعابر الحدودية ببني انصار، في إطار مراجعة وتصحيح وهيكلة المغرب للنشاط الاقتصادي التهريبي الممارس بكل من جوار مليلية وسبتة السليبتين. غير أن انتشار وباء كورونا كان عائقا أمام استكمال هذا المشروع الخبيث الذي استؤنفت التحركات بين البلدين لاستكماله في الآونة الاخيرة. كما أن تقارير أخرى تحدثت عن عزم الجزائر فتح قنصلية لها بمليلية المحتلة ضمن مخططات تهدف التغيير الديموغرافي للسكان الأصليين، إلا أن حملة مغربية أفشلت هذا المخطط الجزائري، عبر أنشطة ومبادرات للحفاظ على الهوية المغربية بمليلية المحتلة، شاركت فيها جمعيات ورجال أعمال وتجار هددوا بشل الحركة الاقتصادية للمدينة، في حال الاستجابة لطموح جنرالات الجزائر. الحملة المغربية نجحت في إقناع حاكم مدينة مليلية، ورئيس هيأة الموانئ بالمدينةالمحتلة بالعدول عن التعامل مع الجزائريين، بل إن مبعوثي استخبارات الجارة الشرقية فوجئوا بأن العمارة التي كانت ستخصص مقرا للقنصلية تراجع مالكها عن كرائها"... كما أن القرارات الاقتصادية المتخذة من قبل المغرب منذ سنة 2019، من خلال إلغاء الجمارك التجارية وإنشاء منطقة اقتصادية بمدينة الفنيدق على مقربة من البوابة الحدودية لسبتة المحتلة، تصب في خانة "الحصار الاقتصادي" للمدينتين في سبيل استرجاعهما، وهو ما ازعج اليمين المتطرف الإسباني الذي نبه الطبقة السياسية في بلده إلى المخاطر الناجمة عن ذلك، خاصة بعد قرار إغلاق الحدود البرية الذي اتخذه المغرب في 13 مارس 2020 بسبب جائحة كورونا. وتحاول اسبانيا اللعب على حبل الخلافات بين المغرب الجزائر، كما ان نظام العسكر في الجارة الشرقية يحاول استغلال كل الأزمات الطارئة التي تنشأ بين المغرب واسبانيا، لتأزيم الوضع والتشويش على علاقات المملكتين، في إطار مخططاته المعادية للمغرب. جنرالات الجزائر نجحوا هذه الأيام في خلق ازمة بين المغرب واسبانيا، من خلال توريط هذه الأخيرة في فضيحة استقبال المجرم ابراهيم غالي للعلاج بأحد مستشفياتها، رغم انها تعلم انه مطلوب من طرف قضائها على خلفية اقترافه لجرائم حرب واغتصاب وتعذيب وقتل في حق العديد من الصحراويين والاسبان... ولئن كان سلوك النظام العسكري الجزائري معروفا ولا يخفى على أحد، فإن ما أقدمت عليه اسبانيا من خلال التواطؤ مع الجنرالات لقبول مجرم حرب فوق اراضيها، بجواز سفر جزائري مزور واسم مستعار يثير العديد من الاسئلة من شأن الأيام المقبلة ان تكشف عنها... التصعيد الجزائري الأخير، يدخل في صلب عقيدة العسكر المعادية للمغرب، والتي تزداد حدة كلما فشل الجنرالات في معاركهم الدونكيشوطية، وعقب كل انتصار ديبلوماسي مغربي، وهو ما اتضح عقب الاعتراف الامريكي بمغربية الصحراء وتوالي مسلسل افتتاح القنصليات بكل من العيون والداخلة، حيث اصيب الجنرالات بالسعار وحاولوا تجريب كل المخططات للتعويض عن خسائرهم ولو تطلب الأمر دعم ومساندة الاستعمار الاسباني لمدينتيْ سبتة ومليلية، أو مطالبة اسبانيا بإعادة استعمار الصحراء المغربية كما دعا إلى ذلك صابري بوقادوم، البوق الديبلوماسي للجنرالات خلال زيارته الأخيرة لإسبانيا. هذا السلوك يذكرنا بما ما جرى قبل حوالي عقدين، خلال ما عرف ب"أزمة جزيرة ليلى" عام 2002، حيث أيدت الجزائر إسبانيا، وكان النظام الجزائري، خلال هذه الأزمة، الوحيد في أفريقيا والعالمين العربي والإسلامي، الذي ساند إسبانيا ضد المغرب. لقد أثار هذا الموقف الذي تعاملت به الجزائر مؤخرا مع الخلاف المغربي-الإسباني نفس الامتعاض والتنديد الذي خلفه موقفها إزاء "أزمة جزيرة ليلى". وغالبا ما أثار نظام العسكر الجزائري، وأبواقه الاعلامية، في مزايداته ضد المغرب، ملف تحرير سبتة ومليلية لمحاولة توهيم الرأي العام بخصوص النزاع حول الصحراء المغربية.. إن اللعب على حبل الصراع المغربي الجزائري، ومجاراة المخططات العدائية الجنرالات ضد الوحدة الترابية للمملكة المغربية ليس في صالح إسبانيا التي من مصلحتها التعاون مع جارها المغرب لحل المشاكل بينهما وتعميق العلاقات الثنائية بينهما لما فيه مصلحة البلدين والشعبين، ولن ينفعها جنرالات الجزائر المستعدون لبيع بلادهم وإنفاق كل ثروات الشعب الجزائري في سبيل شرذمة من المرتزقة ولو استدعى ذلك التحالف مع الشيطان...