بين الحاجة والإشباع صور كثيرة للسلوك البشري في الاستهلاك ، تتراوح بين التقتير و التبذير، سلوك تقف وراءه فكرة أو تصور، وبذلك يكون مرآة لقيم المجتمع وفلسفة أفراده وتمثلاتهم في إشباع حاجاتهم وفي تعاطيهم مع جميع القضايا المرتبطة بهم. ولعل تمظهرات الاستهلاك في زماننا المعاصر، لاسيما في شهر رمضان الأبرك، تكتسي طابعا خاصا، تتشابك فيها الدواعي السيكولوجية والسوسيولوجية والثقافية والاقتصادية، وتذكيها الإعلانات التجارية الرقمية وغير الرقمية، من خلال تضخيم فقاعة الحاجات الاستهلاكية، وتقديمها بأشكال جديدة وألوان متعددة ، بعيدا عن أي عقلنة أو ترشيد في كثير من الأحيان . هذا الهوس الاستهلاكي في رمضان على الخصوص، يدفع للتساؤل حول دواعي هذا السلوك في شهر شرعه الدين الحنيف ليكون محطة للارتقاء التعبدي والتخلص من العادات السيئة وترشيد السلوك الإنساني، بما يحقق فلسفة الصيام ومقاصده الدينية، كما يدفع للتساؤل حول السبل المثلى لعقلنته سواء في رمضان أو في غيره من الشهور. وفي تصريح اعتبر الباحث في علم الاجتماع وأنثربولوجيا الثقافة، عياد أبلال، أن ظاهرة التهافت الكبير على اقتناء المواد الغذائية في رمضان، وربما الاقتراض من أجل ذلك، وما يرافق ذلك من هدر للطعام وإسراف في الاستهلاك، تعبير عن "التدين المظهري /الكرنفالي" الذي يخدش قدسية الشهر الفضيل ويفرغه من عمقه الروحي في أبعاده المدنية والأخلاقية ، ويحوله إلى مجرد طقس اجتماعي ومناسبة للاستعراض والتباهي الاستهلاكي، مما يجعله لا يخلو من عنف بشتى أشكاله. ولفت الباحث السوسيولوجي إلى أن الإفراط في الاستهلاك يشكل أحد تجليات "العنف الاستهلاكي"، الذي بموجبه يتحول الاستهلاك إلى وسيلة لتعميق الحيف والاستبعاد الاجتماعي لصالح من له القدرة على الاستهلاك، في حين يشتد الإحساس بالقهر والدونية عند من لا يستطيع إلى الاستهلاك سبيلا، مشيرا إلى أن "هيمنة البعد الفرجوي الكرنفالي لأشكال التدين المختلفة باختلاف الثقافات والسياقات على الجانب التعبدي، يجعل التدين نفسه عاملا ومسرحا لشتى أنواع الانحرافات" . وأوضح أبلال أن الاستهلاك بما هو سلوك فردي مرتبط بنسق الشخصية، لا ينفك في فردانيته عن النسق الثقافي والنسق الاجتماعي، عبر ما يسميه إميل دوركهايم بجبرية السلوك الاجتماعي وعموميته، حيث تلعب مؤسسات التنشئة الاجتماعية من الأسرة إلى المدرسة، مرورا بالإعلام دورا كبيرا في صياغة ثقافة الاستهلاك، في اتصال وثيق بصياغة البراديغم الاجتماعي، بحيث تصير القولة المأثورة: "دير كيف دار جارك ولا حول باب دارك" رمزا تلخيصيا لهذا البعد الإكراهي للبراديغم الاجتماعي للاستهلاك.