مع كل رمضان، يشهد المغرب، كما هو حال البلدان العربية الأخرى، عددا من الممارسات والطقوس، المرتبطة بالصيام، والتي باتت لصيقة بالتدين العربي الشعبي، مما يسيء في العمق إلى روحانية هذه الطقوس التعبدية، كما يسيء إلى صورة المسلمين عموما، وتغدو العلاقات الاجتماعية، بما تخفيه من حيف واستبعاد اجتماعي، محلالا لهذا التدين الكرنفالي، فإذا كان شهر رمضان شهر مقدساً عند المسلمين، فإنه، بعد إفراغه من محتواه الروحي الذي لا ينفصل عن بعده المدني والأخلاقي، قد تحول إلى مجرد طقس اجتماعي بدون دلالة دينية، مما جعله لا يخلو من عنف بشتى أشكاله. إذا كان الدين عملياً أحد أهم العوامل المساعدة على تخليص الانسان من التوتر وتبديد طاقة التدمير والموت لديه وتحويلها إلى طاقة للحياة، خاصة إذا ترافقت أشكال التدين بالتأمل الروحي، باعتباره جوهر الدين الذي يجعل الإنسان يرتقي إلى مستويات من المدنية والسلم، كفيلة بإشاعة قيم المحبة والخير، فإن هيمنة البعد الفرجوي والكرنفالي لأشكال التدين المختلفة، باختلاف الثقافات والسياقات على الجانب التعبدي، يجعل التدين نفسه عاملا ومسرحاً لشتى أنواع الانحرافات والأنوميا، بما في ذلك العنف ذاته، وهو ما يمكن أن نشهد عليه بظاهرة "الترمضينة"، أي انزياح عن أخلاق المؤمن الصائم القانت إلى ربه، والذي يصوم رضمان ايمانا واحتساباً، ومن الموظف الذي يسيء معاملة المواطنين بحجة الصيام إلى اقتراف عموم الناس العنف بدعوى صيام رمضان، وهي الحالة التي يبرر من خلالها "الصائم" ما اقترفه. حجة تدل في عمقها الدلالي على غياب أي بعد روحي لرمضان، وهو ما يتم التعبير عنه بكون الإنسان في هذه الحالة يكون " مقطوع"، حيث يتحول الانقطاع الارادي عن شهوتي البطن والفرج إلى انقطاع قسري، بما يلزم من قسرية تعبدية تجعل الجسد أساس الدين والتدين بدل الروح، والمظهر بدل الجوهر. وهو ميسم بات يميز مختلف أشكال التدين المظهرية، والتي أسميها بالكرنفالية، من قبيل إقامة صلاة التراويح، بالرغم من كونها مجرد بدعة ابتدعها عمر بن الخطاب، ولم يكن النبي محمد صلي الله عليم وسلم يصليها، في الفضاء العام، بما في ذلك الشوارع والطرقات، بكل ما يقتضي من مخاطر قطع الطريق على الناس في ظروف صعبة أو حرجة، بما في ذلك: المرض، سيارات الاسعاف، استعجال قضاء حاجة، توقيف حركة السير بما في ذلك حركة الطرماواي كما يحدث في الرباط أو الدارالبيضاء مثلا، وإن كانت تكمن الكرنفالية في التركيز على التمظهر الجسدي في بعده الاستعراضي والهيمنة على الفضاء العام، فإن مختلف المساجد تكاد تجدها فارغة خلال النهار. كما تجد مساجد دون غيرها تعرف الظاهرة بامتداد صفوف المصلين إلى الشارع العام لمجرد توفرها على إمام مقرئ حسن الصوت في قراءته للقرآن، والناس في ذلك يتوافدون من كل حدب وصوب بحثا عن خشوع مفترض يخلصهم تعبدياً من قهر الزمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. هنا يتحول الصوت إلى اقتصاد للجسد الكرنفالي، طالما أن الخشوع مسألة روحية جوهرية عميقة وداخلية بالأساس، أكبر من كونها مجرد صوت، ومن كونه ظاهرة خارجية أو في حاجة إلى محفز خارجي حواسي. ولعلنا نجد في توصيف عبد الله القصيمي في: " العرب ظاهرة صوتية" خير دليل على ذلك. ومقابل الجسد الاستعراضي في كافة مجالات التدين التي باتت تفتقد الخشوع الحقيقي، بات المجتمع يفتقد القيم الأخلاقية الروحية النبيلة، متعلقاً بالبعد الاجتماعي للعبادات التي تم تحويلها إلى مجرد كرنفال، ولنا في الحفلات والاحتفالات التي تقام بعد عودة الحجاج والمعتمرين من الحج، وفي الولائم التي تقام في العزاء، بكل ارتباطاتها المظهرية، ما يفي بالتبرير الدلالي للمفهوم: " التدين الكرنفالي". وهو عينه ما يقود الصائم الكرنفالي إلى إعلان صيامه لرمضان عبر الترمضينة. للحديث عن أي ظاهرة اجتماعية، كيفما كانت، يجب أولا إخضاعها لعدد من المعايير المحددة التي تعتبر أساس التسمية والتصنيف، فالظاهرة، أيا كانت، لا بد وأن تتوفر فيها شروط، أولها التردد، وثانيها الكثافة، وثالثها الانتشار، وهي الشروط والمحددات التي تتوفر في "الترمضينة "مما يجعلنا فعلياً أمام ظاهرة اجتماعية تتقاطع مع عدد من الظواهر الأخرى، التي تشكل انزياحاً عن البراديغم المقبول اجتماعياً. من هذا المنطلق، فالظاهرة ذات كثافة وتردد في الأوساط الشعبية والفضاءات العامة المهمشة بالدرجة الأولى، وتنتشر في كل المدن، وهي ظاهرة شبه حضرية، لكونها تنتشر في بؤر الهامش والأوساط الشعبية، وخاصة الأسواق الشعبية، في مقابل غيابها عن المجال القروي. إنها ظاهرة تختزن العديد من العوامل المفسرة والظروف الكامنة، التي يمكن إجمالها في الحكًرة (الاستبعاد الاجتماعي)، التي تشتد كلما تضخمت العوامل السيكولوجية المؤدية إلى العنف من قبيل التعاطي للمخدرات، والقرقوبي، الحشيش…إلخ. سوسيولوجياًّ، يمكن اعتبار "الترمضينة" ظاهرة مرضية سوسيولوجياً أي سوسيو باتية، لكونها ترتبط بسلوكات العنف و"التشرميل"(إحداث عاهات في وجه وبدن الضحية)، وهذا ما يؤدي سنويا إلى عدد كبير من الضحايا، وعلى مستوى تردد الظاهرة الزمني، نجدها ظاهرة مرتبطة بشهر رمضان، وهنا يمكن تحليل الظاهرة على مستوى تجلياتها الفيزيولوجية والسيكولوجية بكون الصائم، الذي يصوم شهر رمضان اجتماعياً فقط، يمتلك هابتوساً عنيفاً تجاه الآخر، خاصة في حالات التعاطي للمخدرات أو التدخين، أو القرقوبي (الحبوب المهلوسة)…إلخ، وإذا دققنا في الظاهرة على المستوى الميكروسوسيولوجي، نجد أن عينة الترمضينة أو الأشخاص المعنيين بالظاهرة، هم عموما من مدارات الهشاشة والعشوائيات، بأوساطها الاجتماعية والسكنية الهامشية، الباعة المتجولون…إلخ. وهذه الفئات تعاني التهميش والحيف المزدوج في شهر رمضان، لكون هذا الشهر التعبدي تحول من بعده الروحي إلى بعده الكرنفالي الطقوسي، أي أن الصيام أصبح مجرد طقوس اجتماعية مرتبطة بعادات استهلاكية تتجاوز القدرة الشرائية لهذه الأوساط. هكذا، إذن، وفي سياق توفر عدد من المحددات، من قبيل التردد والكثافة والانتشار أصبحت الترمضينة ظاهرة اجتماعية قائمة الذات، مرتبطة في الوقت نفسه بظواهر أنومية وانحرافية أخرى، وعلى رأسها ظاهرة العنف والسرقة…إلخ. بمعنى أنها تجاوزت البعد الفردي إلى البعد الجماعي، خاصة حينما تحصل الفوضى وكافة سلوكات العنف الناتجة عن غياب الحوار والتسامح والإيثار، إذ ينتقل الخلاف بين الصائمين إلى خلاف جماعي يتسم بالعنف والعنف المضاد، وهذا ما تشهده الحارات والأسواق والفضاءات الشعبية بشدة. يمكن فيزيولوجيا رد "الترمضينة" إلى الحالة النفسية التي يكون عليها الصائم المدمن على المخدرات، القرقوبي، مدمنوا الكحول، التدخين، لكن الجانب الفيزيولوجي يبقى رغم ذلك مجرد عامل تابع، طالما أن ليس كل مدمن أو متعاط ينخرط في فوضى وعنف "الترمضينة"، فهناك العديد منهم يميل إلى النوم أو البقاء في البيت، أو حتى تفادي الاصطدام مع الآخرين. وهنا يمكن أن نستدعي العامل الاقتصادي كعامل مستقل متحكم في الظاهرة، والعامل الديني كعامل تابع، فعلى المستوى الاقتصادي، فإن المعاينة السوسيولوجية تؤكد على أن الظاهرة مرتبطة بأوساط الهامش، التي تشتد في شهر استعراضي واستهلاكي بامتياز، في وقت يجد عدد كبير من قاطني الهامش أنفسهم عاجزين عن مجاراة قانون السوق، في ظل قدرة شرائية هزيلة. في هذا السياق، نسترجع الجانب الديني لتعميق الفهم وتسييج الظاهرة، فالترمضينة في العمق التحليلي هي رد فعل طبيعي عن تحول الصيام من شعيرة روحية إلى طقس اجتماعي، أي أن الصيام الذي يكمن أساسه الجنيالوجي في الإمساك عن الكلام الفاحش، إذا عدنا إلى تاريخ الصيام في الديانات السابقة، وحتى في فلسفة رمضان الروحية، قبل أن يكون إمساكا عن شهوات البطن والفرج، أصبح مجرد طقس تعبدي وكرنفالي اجتماعي، وهو ما يسم مسارات تحول التدين بالعالم العربي والمغرب عموما، فالعبادات والشعائر التعبدية الرمزية زاغت عن أساسها الروحي وأصبحت مجرد أشكال طقوسية. ولهذا فالصائم يصوم عن الأكل والشرب، دون أن يصل روحياً إلى حالة التماهي مع الإلهي والوجد الروحي. يعني يبقى الصائم مجرد جائع، ممسك عن الأكل والشرب. ولهذا فالترمضينة هي رد فعل عنيف وسوسيوباتي لجائع يرى أمامه مختلف الملذات والشهوات معروضة في سوق اجتماعية استهلاكية كبيرة، لا تسمح قدرته الشرائية بولوجها، مع إحساسه بالحكرة. إن أصل السبب هو العلة، والعلة جوهر السيرورة السببية، من هنا فعلة الترمضينة، تجد تجلياتها في القيم التربوية التي يتلقاها الفرد في المدرسة والأسرة، وبما أن هاتين المؤسستين باتتا على هامش المجتمع والدولة، وأن الإرادة السياسية تقصيهما مع سبق الإصرار والترصد، فإن الخطاب الإرشادي والتوعوي لا طائل منه. الأساس هنا هو إعادة الاعتبار للأسرة سوسيو- اقتصاديا من خلال رفع الحيف والتهميش والاستبعاد عن السواد الأعظم من المجتمع، فالأسرة التي يمكن أن تكون صمام أمان أمام كل الانحرافات وأشكال الأنوميا، تصبح هي منتجة الانحراف، وهذا ما يقودنا حتماً نحو الدور المحوري للمدرسة على مستوى التربية على القيم والمواطنة. إن أصل الداء هو استئصال التفاوت الطبقي الفاحش، وإحقاق دولة الحق والقانون، عبر التأسيس للمشروع المجتمعي، الذي يجب أن ينطلق من الأسرة والمدرسة، وإلا فإننا سنبقى أمام تحول كل الشعائر الدينية وكل القيم النبيلة إلى مجرد طقوس كرنفالية فاقدة للمعنى، وهو ما لا ينفصل عن التربية الدينية والأخلاقية، والتي يجب أن تحدث انقلابا كبيرا في الممارسات والطقوس التعبدية، بإرجاعها إلى أصلها، وتفكيك كل كرنفالية واستعراضية لا تمت لروح الدين بصلة، وهنا تصبح المسؤولية معقدة ومركبة بامتياز، وتشكل كل الفاعلين، مؤسسات وأفراد.