الحلقة الأخيرة الصوم عباد شرعها الله جل وعلا لتحقيق مقاصد سامية للإنسان، وهو مدرسة روحية عظيمة القدر، تتجلى في مواساة الغنى للفقير مما يحقق توازن اجتماعي وبعبارة مختصرة، الصوم هو أحد دعائم الإسلام وأركانه الخمسة. ومن جهة أخرى فإنه من معاني الصوم أنه إمساك عن شهوة البطن وبالمعنى الاقتصادي: تخفيض الإنفاق أي ترشيده بمعنى أدق. وليس من شك في أن اختصار وجبات الطعام اليومية من ثلاثة واجبات إلى وجبتين اثنتين في فرصة طيبة لخفض مستوى الاستهلاك، وهي فرصة مواتية لاقتصاداتناك خصوصا ونحن أمة مستهلكة. أشارت كل الإحصاءات إلى أن أقطارنا كافة تستهلك أكثر من إنتاجها، وتستورد أكثر من تصديرها. وهناك إحصاءات وأرقام تدل أنه في أحد الأعوام قدَّر نصيب شهر رمضان من الاستهلاك السنوي في إحدى الدول العربية ما نسبته 20% أي أن هذه الدولة تستهلك في شهر رمضان خمس استهلاكها السنوي كله، بينما تستهلك في الأشهر المتبقية الأربعة أخماس الباقية. وقد كلف استهلاك رمضان في ذلك العام خزانة الدولة نحو 720 مليون دولار وتشير بعض الدراسات التي أجريت حديثا أن ما يلقى ويتلف من مواد غذائية ويوضع في صناديق القمامة في بعض البلاد العربية كبير جدا إلى الحد الذي قد تبلغ نسبته في بعض الحالات 45% من حجم القمامة. ومن المعلومات أن الاستهلاك المتزايد باستمرار –لا يتسق مع وضعية مجتمعاتنا الإسلامية التي في معظمها مجتمعات نامية- معناه المزيد من الاعتماد على الخارج، ونحن لم نتوصل بعد إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي أو مستوى معقول لتوافر حاجاتنا الاستهلاكية بحيث نعتمد على مواردنا وجهودنا الذاتية، وهذا له بُعد أخطر يتمثل في حالة تبعية غذائية للآخر الذي يمتلك هذه المواد ومن ثمَّ يستطيع أن يتحكم في نوعيتها ووقت إرسالها إلينا. وفي هذا الصدد بالذات يأتي دور رمضان في تحقيق مقاصد اقتصادية من بينها ترشيد الإنفاق، وتحقيق توازن السلوك الاقتصادي، كما يعمل على تخفيض الضغوط التضخمية. فهل نتعود على اغتنام فرصة الصيام لتقويم اقتصاد الأمة، -وهو جسمها وروحها معا- من داء عضال هو داء الاستهلاك الدائم من غير إنتاج كاف؟ عندما طالعنا في مأثور تراثنا: “نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع” تمنينا أن نفهم ضمن معانيه ألا يكون الاستهلاك إلا بقدر الحاجة، إنقاذ للناتج المحلي من العجز عن تغطية إلى الاستهلاك، إن بعض معاني الصوم أنه إمساك عن شهوة البطن، وبالمعنى الاقتصادي هو تخفيض الاستهلاك أو على الأقل ضبط الاستهلاك. ومن ثم فإن الصيام فرصة ولا شك يتعلم فيها أفراد أمتنا عادة اقتصادية حميدة هي ترشيد الإنفاقق، وهي بالمعنى الاقتصادي سلوك يتبع ليس للتوفيق بين الدخل وبين النفقة، وإنما لضغط النفقة إلى المستوى الواجب النزول إليه بالاستغناء عما لا يستشعر له ضرورة… وإنما لنعتبر شهر الصوم فرصة لتحقيق هذا الترشيد ولتوسيع وعاء (الفائض الممكن)، ولكن شريطة أن يرتبط بالقاعدة الإرشادية المعروفة : “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا” سورة الأنعام الآية 31، هذه القاعدة، ولا شك هي ميدان الترشيد على المستوى الفردي والجماعي. إن رمضان محاولة لصياغة نمط استهلاكي رشيد وعملية تدريب مكثفة تدوم شهرا واحدا تفهم الإنسان أن بإمكانه أن يعيش بعيدا الاستهلاك والتبذير المقيت، إنه محاولة لكسر النهم الاستهلاكي الذي أجمع العلماء الاجتماعيون والنفسيون أنه حال مرضية. ومن الناحية الأخرى إذا كان في الصيام دعوة للقادرين إلى ضغط الاستهلاك الزائد عن الحاجة أو عن المستوى الهام من الحاجة، فإن فيه -بالمعنى الاقتصادي- تراجعا للسلوك الاقتصادي عن استهلاك الوحدات الزائدة عن الوحدة الحدية. ربما تراجعه عن استهلاك الوحدات القريبة من هذه الوحدة إلى أن يصل الاستهلاك انخفاضا إلى الوحدة المتضمنة للقدر المناسب من الإشباع رغم توفر الوحدات النقدية الكافية للقدرة على الشراء. وختاما، يمكن القول إن هذه المقاصد الاقتصادية هي مقاصد كامنة في جوهر الصيام باعتباره مرتبطا بقوى اقتصادية، مثل الاستهلاك والإنفاق والأموال ودرجة الحاجة، ودرجة الإشباع ومقدار المنفعة. وكلها قوى دافعة لحركة الدَّوال الاقتصادية، وأن تحريك هذه المقاصد وتنشيط فاعليتها هو مهمة البشر في الأمة الصائمة على مستوى الأفراد لضبط استهلاكهم وتقويم سلوكهم الاقتصادية في شعبه المختلفة.