ما من أحد تتكلم معه هذه الأيام إلا وعلى لسانه شكوى من آفات الوقت. الجميع ينتقد ما آلت إليه القيم الإنسانية والقيم الدينية في هذا الزمن، والجميع يرى أن وباء كورونا آية من آيات الله سبحانه وتعالى، والجميع يقول إن هذا الوباء جاء ردا على تعنت بني آدم ووصوله إلى قمة الرداءة، والجميع يقول إن الله سبحانه أراد خيرا بخلقه فأرسل إليهم وباء يذكرهم لعلهم يرجعون. إنه نوع من النقد الاجتماعي السياسي لمنظومة قيم عالمية انتهت بالإخفاق. هؤلاء ليسوا أقل إحساسا بتردي القيم الاجتماعية من المفكرين والفلاسفة الأوروبيين الذين يدقون ناقوس الخطر من انهيار سلم القيم منذ عقود، ولا من ينصت إليهم. الفرق الوحيد أن هؤلاء المغاربة ينقصهم المنهج، ولا يكتبون ذلك في نسق. ونحن كمسلمين لم نحسن تطوير فلسفة للقيم الإنسانية، وتركنا القيم في دائرة الوعظ والإرشاد فلم نستطع أن نحولها إلى منظومة علمية يمكننا بها قياس تخلف وانهيار المجتمعات. على سبيل المثال، عندما قال ابن خلدون في المقدمة إن الظلم مؤذن بخراب العمران، وعندما تحدث عن الترف باعتبار عاملا من عوامل الخراب، كان ينطلق من منظومة قيم. ابن خلدون أخذ قيما قرآنية عن الأمم السابقة ووضعها في نسق منهجي علمي صار مرجعية إنسانية عالمية منذ ذلك التاريخ، لكن للأسف تم اختزاله في كلمة صغيرة: السوسيولوجيا. لكن ابن خلدون لم يكن عالم اجتماع، ابن خلدون كان عالما وسط المجتمع، عالم مجتمع. السوسيولوجي ينطلق من القيم الموجودة في المجتمع ثم يبني عليها، ليست لديه خلفية، لكن ابن خلدون كان صاحب خلفية، صاحب قيم يدرس بها تحولات المجتمع. اليوم نحن في أمس الحاجة لاستعادة البعد القيمي في التحليل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي دون خجل. هل نكون نحن أقل ثقة في الذات من مفكرين ليبراليين يهاجمون الحضارة الغربية ويصفونها بالبهيمية؟ هل نكون أقل ثقة في الذات من مفكرين لا يزالون يتحدثون عن المخلفات الثقافية للاستعمار في القيم المحلية في المجتمعات الإفريقية والإسلامية مثلا؟. لقد حاول الغرب أن يقنعنا بأن القيم الإنسانية لا قيمة لها، وبأن القيم الوحيدة هي التي توجد في البورصة، لكن ما حصل اليوم يوقظ في الحيوان الشعور بالحاجة إلى الدفء. نعم. الحضارة الغربية المهيمنة منذ عقود قادت المجتمعات الإنسانية إلى الحافة. لنأخذ هذا المثال. في كل مرة تفتح حاسوبك أو بريدك الإلكتروني أو هاتفك الجوال تظهر لك مواقع إباحية وصور خليعة تحاول أن تخطفك. ماذا يعني هذا؟ يعني أن هذا النموذج "الحضاري" يلاحقك أينما كنت ليلحقك به أينما كان. لنحاول أن نتخيل نموذجا حضاريا مختلفا يلاحقك بطريقة مختلفة، ماذا يمكن أن تكون عليه الإنسانية؟. هذا مثال واحد فقط لكنه عميق الدلالة، وهو يدل على أن هذا النموذج الحضاري يريد تطويعك وتكييفك وفق مشيئته وأهدافه. يكيفك عبر الإعلام بالانتقائية فيجعل التافه مهما ويجعل "الأخبار العالمية" هي أخبار أوروبا فقط. يكيفك علميا فيجعل ما توصل إليه خبراؤه هو المثال. يكيفك اقتصاديا فيجعلك مستهلكا جشعا تركض وراء الجديد الذي يقدمه لك ويجعل نصف رغباته تغيير الهاتف أو السيارة. يكيفك نفسيا فيجعل اللذة هي المبتغى. واليوم بينما يرفع الغرب شعار حرية المرأة ويصف الإسلام بأنه يهضم حقوق النساء، يرعى مئات الآلاف من شركات الجنس على أراضيه ويعيش على ضرائبها، ويرى ما يحصل للنساء القادمات من البلدان المتخلفة هربا من الجوع أو الحروب وكيف يسقطن في أحابيل هذه الشركات، لكن هذا الغرب نفسه هو من يعقد سرواله ويخرج إليك بجنابته لكي يخطب فيك عن حقوق النساء. طالما أننا نفكر مثل الأقزام، لن نستطيع أن ننظر في وجوه العماليق.