ما وقع في حزب الاستقلال ليس عاديا بالمرة؛ إنه شخص «غير عادي» يقلب الطاولة على عائلة «غير عادية» داخل حزب يقدم باستمرار ك«حزب غير عادي». حميد شباط تمكن في ثلاث سنوات بعد دخوله إلى اللجنة التنفيذية للحزب من أن يمسك زمام نقابته ثم الحزب برمته لينهي زمن «العائلة» ! «أنا درس تاريخي لكل أولئك الذين يفقدون الأمل في التغيير»، قالها حميد شباط بمعنويات لا يمكن هزها وهو الآن أمين عام لأعرق حزب سياسي في المغرب. ليس هنالك شك في أن شباط يمثل دلالة معينة في التاريخ السياسي للمملكة، وهو مولع بأن يكتب اسمه في سجلات التاريخ على نحو ما: «أنا أول رئيس منتخب لحزب الاستقلال. لا ينبغي أن يتجاهل أحد هذه الحقيقة التاريخية، وعلى يدي أيضا كانت نهاية سيطرة العائلة على حزب الاستقلال». من الآن فصاعدا، لا يمكن أن يذكر اسم شباط من دون أن تذكر هاتان الواقعتان. ولأن هذا مجد شخصي، فإن شباط يفتخر بأن أمجاده صنعت من لا شيء تقريبا. لتحطيم عائلة مثل «آل الفاسي» داخل حزب الاستقلال، فإن العملية تحتاج لعائلة ذات قوة ضاربة، لكنها في نهاية المطاف لم تحتج سوى لشخص لا يمثل إلا نفسه من منظور العائلات، وإن كانت خطته أن حشد عائلات ضد عائلة واحدة. هو ابن تازة لكنه شب في فاس القديمة، وصيت عائلته يشمل زوجة تنشط في العمل الخيري وأبناء لدى بعضهم سوابق وآخرون معروضون على المحاكم. لا شيء هنالك لتفاخر به عائلة الفاسي، لكنه لم يجعل من ميراثه سببا لإعاقة طموحه السياسي بل وكان هذا البدوي الذي تعلم حرفة السياسة في نقابة حزب الاستقلال هو من حول حياة ابن علال الفاسي نفسه إلى جحيم، قبل أن يسقطه بالضربة القاضية. نهاية البداية لم يكن أحد يتوقع أن يحدث لابن علال ما حدث، وحتى شباط نفسه كان يضع هذا «الابن» موضع تقدير خاص. لكن شباط الذي لا يجد عائلة يستند عليها لم يعد يستطيع أن يسمح بقبول وضع يكون فيه مثل «بقر علال»، كما يشير القول المأثور. «هل كان يجب أن أسمح بأن يستولي أشخاص لا يمثلون سوى 0,01 من حزب الاستقلال على كل شيء فيما 99,99 منا ينظرون بعجز؟ كلا. على تلك العائلة أن تتنحى أو أن تسقط». سقطت العائلة فعلا، وكل من يعرف شباط على نحو قريب، يعلم كيف يجب على المرء أن يثق في كل ما يقوله وأن ينتظر الوقت الملائم كي يتحقق. لا تسجل لشباط محاربته «العائلة الفاسية» في الرباط قبل أن يسقطها فحسب، بل يملك هذا الرجل سجلا خاصا من المعارك كلها تتسم بجرعة زائدة من العنف. في 1990، خرج إدريس البصري ليعلن أن «شباط أحرق فاس»، بعد أحداث ذلك العام. بعد عشرين عاما، عاد شباط عقب «غيبته الكبرى»، ليصبح عمدة فاس. ليس هنالك أحد يبغض شباط مثل عبد الرزاق أفيلال؛ الرئيس الأسبق لنقابة الاتحاد العام للشغالين وجد نفسه يجرجر عن منصبه بعدما كان يتوهم نفسه خالدا فيه. في هذه العملية استعملت «كلاب مدربة»، فأخذت الإطاحة بأفيلال تسميتها من ذلك. بعد سنوات، لم يمنع كل ما قاله شباط وأفيلال في حق بعضهما البعض من أن يقود الأول الكرسي المتحرك للثاني داخل محكمة بالدار البيضاء، مدافعا عنه ضد تهم تتعلق بالفساد الإداري. محمد بنجلون الأندلسي تعرض لأسوإ حملة لغوية من لدن شباط، وعرفت الحرب بينهما ب«المعركة الحيوانية»، من حيث كل النعوت المرتبطة بعالم الحيوان التي تبادلاها، قبل أن يطرد الأندلسي من النقابة بشكل مهين. للأندلسي كآبة مفرطة في النظر لشباط: «هل يمكن أن نصف هذا الرجل بأنه جدي؟ كلا. إن شباط انزلق بشكل حثيث نحو القيادة فيما كانت باقي القيادات تهرول وراء مصالحها ومطامحها الخاصة. لقد صنعوا له فراغا ملائما كي يمر منه. وسط كل تلك الانتهازية والتخاذل، كانت الفرصة مواتية لشباط للاستيلاء على الحزب». يعتقد الأندلسي أن «تجربته المريرة مع شباط لم تكن سوى مقدمة لتجارب مريرة أخرى هذه إحداها». قدرة شيطانية لشباط قدرة خارقة على قول الشيء وعمل نقيضه، فقد كان يقول إن وصوله للأمانة العامة لحزب الاستقلال «صعب، لأن حزب الاستقلال حزب توافق»، أما الآن فإنه يلعن هذه العبارة فيما يشتم أولئك الذين كانوا يعتقدون أن التوافق لا بد أن يستمر. عبد الواحد الفاسي كان بالنسبة إليه، قبل عشرة أيام، «كارثة»، لكنه اليوم «شخص محترم». وبينما يمدح قدرته على «طحن» منافسيه في فاس، فإنه يمدح وساطاته ل«كسب ود الاتحاديين»: «أريد من أعماق قلبي أن أساعدهم على تجاوز محنتهم في فاس». ومع ذلك، لا يمنعه تطلعه نحو الاتحاديين من أن يقصف رموزهم القدامى بالطريقة نفسها التي يشوه بها خصومه الأحياء. كان شباط يعتقد أن الوقت مازال طويلا كي يصبح أمينا عاما لحزب مركب كالاستقلال، وهو بولاية واحدة في اللجنة التنفيذية. كان شرط الأقدمية ينقصه، لكن القوانين بدلت بعدما أريدت لعباس ولاية ثالثة في المؤتمر ما قبل الأخير، وكانت تلك نافذة تُفتح في وجه شباط ليقفز منها. تعرض شباط في موجة الربيع العربي لهجوم من لدن ناشطين في الشارع، وحملت صوره كأحد الوجوه التي يجب أن تنتهي صلاحيتها، لكنه ظل يستهزئ بهم حتى هذه اللحظة. سألناه: «هل قيادتك لأعرق حزب سياسي إحدى نتائج الربيع العربي؟» أجابنا بسخرية: «ما أفعله أنا هو الربيع الحقيقي، أما ما تسميه بالربيع العربي فإنه ليس سوى وهم غليظ». نظرية شباط حول الربيع العربي ليست سوى جزء من آثاره الخاصة، فهو يمتلك حسا فكاهيا في التفكير. وله من ذلك مقولة أن النبي محمد ذكر فاس في أحد أحاديثه، ومشروعه لجلب البحر حتى فاس،ومقرره المتهافت لمنع الخمر... كان شباط يقود معاركه بكل الوسائل المتاحة وربما هو مؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة كيفما كانت. «أنا ابن الشعب. بدأت من الصفر وها أنا اليوم أمين عام لحزب الاستقلال»، يرددها شباط في حديثه معنا وكأنها حلم يوتوبي يتحقق. كان شباط دوما يبحث عن «صندوق للاقتراع» فهو الوصفة السرية لكل نجاحاته. «حينما يكون هنالك صندوق للاقتراع، أكون أنا»، يطلقها شباط باعتزاز. لولا وجود هذا الصندوق «لما تسلقت الدرج صعودا من الحضيض». الجريمة واللاعقاب «لا يصلح شباط لأن يكون زعيما»، قالها محمد بنجلون الأندلسي بثقة، وبنفس ذلك القدر من الثقة، أعلن عن عدم ثقته في شخص كشباط. عانى بنجلون كثيرا كما نعرف، بسبب شباط، ولا يزال ينظر إليه ك«شخص مصنف خطر». كون شباط لنفسه سمعة غامضة، فهو مثل «كوبوي في الغرب الأمريكي، كلما زاد عدد ضحاياه زادت شهرته». لم يتوقع الكثيرون أن يصبح «الكوبوي» نفسه «شريف» البلدة، لكن القليلين من كان رأيهم مخالفا في حالة شباط. سجل شباط مثقل بالضحايا، فهاهو أفيلال مُقعد في كرسيه المدولب يلعن من نصحوه يوما بأن يجعل من شباط رجلا ذا شأن، فيما بنجلون الأندلسي يلملم جروحه بعدما جره شباط إلى ساحة معركة وسخة. لدى شباط سمعة خاصة بين الناس الذين من حوله: «تريد أن تعرف شباط على نحو جيد: إنه مثل أي شخص آخر. يبهرك بحجم الوفاء لرفاقه المخلصين، لكنه لن يرغب في رؤية الذين يكيدون له، ومن الأفضل لهم ألا يروه»، يلخص القباج الكيفية التي يتصرف بها شباط. يوجد الكثيرون داخل حزب الاستقلال ممن راهنوا بكل شيء يملكونه على شباط. عبد الله البقالي وعبر القادر الكيحل نموذجان مبشران. كان بنجلون الأندلسي واحدا من هؤلاء ذات مرة، لكنه خذل شباط، فما كان منه إلا أن «فكك الآلة التي صنعته ليحولها ضده». يصاب المرء بالدهشة من حجم الفزع الذي ينتاب الاستقلاليين عند الحديث عن شباط، وهم إذا لم يكونوا ينوون كيل المديح له، فإنهم يخلدون للصمت. تلك السمعة الخطرة لدى شباط في قدرته على «تصفية الحساب» ترهب حتى المقربين منه؛ ولدى خديجة الزومي فكرة واضحة عما يعنيه هذا، وهي ترى نفسها تُلقى من نافذة اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال. ك«شخص مصنف خطر»، ورث أبناؤه عنه جينات من الخطر، لكن بشكل مختلف. الأب، كان مصنفا خطرا وظل لست سنوات هاربا من العدالة. كانت تهمته: التحريض على العصيان المسلح. وتلك تهمة لم تكن لتشكل وصمة عار في السجل العدلي لصاحبها في كل الأحوال. الأبناء، لكل واحد منهم جنايته، لكن أخطرهم، نوفل، المتهم بإدارة شبكة لترويج المخدرات. أثير اسم نوفل في أكثر من ثماني ملفات تتعلق بالسرقات والمخدرات والاغتصاب، لكن الشرطة تطلق سراحه كل مرة لعدم كفاية الأدلة. وكل مرة، يقبض على أحد أبنائه، ينتفض شباط لتحويل العملية إلى سيرك سياسي. لا يصبح خبر تحول ابن زعيم نقابي فضيحة كما يتوقع الكثيرون، وسرعان ما تُطوى تلك الأوراق، ويختفي الضحايا أو يعتذرون، فيما شباط مصمم على حكي المؤامرة، فيخرج أكثر قوة. لم تعد قدرة شباط على تجنيب أولاده الزج وراء القضبان محدودة؛ فهاهو الآن قد كون رصيدا من الإفلات من أي عقاب. يستطيع أن يشتم منافسيه كما يشاء، ولا أحد تمكن من ربح قضية سب وقذف ضده، وحين قاضته الشبيبة الاتحادية لسبه المهدي بنبركة، رفضت المحكمة الدعوى لانعدام الصفة لدى المدعي، وحين نشر المجلس الأعلى للحسابات تقريرا سيئا عن تدبيره لجماعة فاس، لم يجرؤ قاض على أن يرد عليه في إعلانه أن «إرهابيين يُعششون بين قضاة المجلس الأعلى للحسابات». «لدي رؤية جديدة عن العمل السياسي. إن الأشخاص الذين يصبحون وزراء أو مسؤولين كبارا في الدولة دون أن تكون لديهم أي شرعية شعبية ينسون أن هنالك جيشا من الفقراء لا يحتاج لتخطيط نظري بل لمرافقة قريبة. إنني دوما أعود إلى ذلك الشعب الحقيقي حيث كبرت وحيث تسلقت الدرب، إن فضل هؤلاء الناس كثير علي، ولذلك، فإني دائما موجود بينهم». يتحدث شباط عن «شعبه» بفخر، وكل من يشك في ولائه إليه، يظهر له الرجل كم هو شعبي فعلا. إن حملته ضد العائلة في حزب الاستقلال تلخصت من حوله كابن شعب، ولو كان مؤيدوه من عائلات «غير شعبية» بتاتا. أظهر شباط شراسة كبيرة في الدفاع عن شعبه، وحين لمح وزير المالية السابق، صلاح الدين مزوار إلى أن شباط يحول فاس كلها إلى «مناطق شعبية» كي يضمن هيمنته، لم يجد شباط من وصف سوى «المستعمر» ليوضح كيفية تفكير الوزير. ليست هنالك حدود معينة بين الشعب ومجموعات المشاغبين أو البلطجية الذين يستعلمون في إدارة معارك سياسية. تتهم المعارضة في فاس عمدتها باستعمالهم لتلطيخ سمعة خصومه، لكنه حتى هو، لم ينج ذات يوم من هجوم لمجموعة منهم تركت آثارا مدمرة على مقهى يملكها. وكما يشكك البعض في الكيفية التي يجلب بها شباط «معاونين» كثرا لفض اعتصام معطلين، أو لاصطحابه إلى محكمة، فإن شباط لا ينكر أن الشباب المناصر يحتاج لدفعة منه. بصيغة مُواربة يعلن: «إذا كنا عاجزين عن دفع الناس خارج فقرهم، وغير قادرين على توفير عمل قار للشباب العاطل، فإن الواجب علينا يفرض أن نظهر نوعا من التضامن. إنه تضامن يحتاج لمال كثير لكنه من غير الصائب أن تنعم بالأموال فيما ناخبوك يعيشون في وضع بائس». كما هي عادته دوما، يقطن شباط في بيته بحي بنسودة في شقة عادية. لا يريد أن يغادر هذا المكان لأنه مليء بالذكريات، كما هو حابل بالأصوات الانتخابية. في شقة بالقرب من حيث يسكن، قاد عمليات العصيان في ذلك اليوم العصيب من عام 1990. يتجول شباط في الحي بسيارته كل يوم تقريبا، ويحولها إلى مركز متنقل للشكايات والمظالم وقضاء المصالح والمآرب الشخصية. من الصعب تصور عمدة مدينة يفحص طلبات رخص للسياقة أو طلبات للاستدانة، لكنه في ما يبدو يحب القيام بهذا كما يحب الناس أن يروه بالقرب منهم. «أنا فقير على نحو ما»، قالها لنا ثم تصنع ابتسامة. لن نصدق هذا بالطبع، وبالتالي يستدرك: «أنا فقير بإحساسي بالضعف مع كل هؤلاء الفقراء. بودي تغيير أوضاعهم، وأنا أعمل على تنفيذ مخططات بهذا الشأن. لكن ما هو مهم هو أن تستطيع العيش مع الفقراء كيفما بلغت درجة ثرائك. إني هنا، لأني في أعماقي، أحس بأنني لا زلت ذلك الشاب الفقير نفسه». صناعة الرمز ما يستطيع أن يفعله شباط على نحو مثير للاهتمام هو بالضبط ما يفشل فيه غيره من السياسيين: صناعة الصورة. ولكي تستطيع أن تصنع لنفسك صورة، فإنه من الضروري أن تمتلك مالا كثيرا وعلاقات واسعة مع الصحافيين. وحينما وسع شباط من علاقاته مع الصحافيين، أصبح يبدو له أن المرء ربما من الأفضل أن يكون صحافيا هو أيضا ليتحكم أكثر في درجة صنع صورته. تحول إلى مدير نشر لصحيفة «الغربال»، لكنه أخفق في أن يصنع صورته بيديه وأخفق في تجربته. لا يشعر العاملون في وسائل الإعلام، ممن لديهم مواقف متحفظة على طريقة شباط، بتهديد جدي من لدنه، لكنه يستطيع أن يقنع الكثيرين بأنه من الأفضل أن يتموقعوا إلى جانبه. بصفته عمدة لمدينة فاس، فقد كانت فرصته في تكبير صورته، إلى درجة أكبر من فاس، خطوة مهمة لتحقيق طموحاته السياسية. وحتى حينما يتصرف بشكل غير مهذب أو بطريقة بشعة، فإن صورته لا تنكسر. حينما رفع متظاهرون صوره في فاس، فإن المتابعين ركزوا على تحليله لكتاب بروتوكولات حكماء صهيون، وحينما شرع في تمزيق معارضته المحلية، لم يصدق الناس سوى أن خصمه «جنرال» وجب الحذر منه. ولما وصف المهدي بنبركة ب»القاتل»، فقد كانت محاكمته أشبه بعرس بالنسبة لأنصاره، وحينما زج بالمئات من شباب حزبه في عملية لطرد معطلين اقتحموا المقر المركزي بالرباط، فقد قُدمت العملية وكأنها «فتح مبين»، وبين كل هذه الفترات، كان شباط يظهر ك«ابن شعب» حقيقي يستطيع أن يقول ثم، وهذا هو الأهم، أن يفعل ما يرغب فيه الآخرون لكنهم يعجزون عنه. لم تمر سوى بضعة شهور على عثوره على مقعد باللجنة التنفيذية لحزبه، حتى راحت صورة «الزعيم» تتشكل بسرعة. كل الذين وفدوا عند شباط وكتبوا عنه في ما بعد، كان يجمعهم استنتاج واحد: «إن الرجل يريد أن يكون أمينا عاما لحزب الاستقلال». بالطبع، كانت تُصحب هذه الاستنتاجات بترديد نفي رطب من لدن شباط لأي نوايا مماثلة. لم يكن شباط يخشى، في ما يبدو، التأثير السلبي لوسائل الإعلام، ولم يركن إلى الصمت كما يحث على ذلك الزعماء التقليديون للحزب. وهنا بالضبط ربح شباط معركته. في مواجهة الآلة العتيقة للعائلات، كما يسميها هو، داخل حزب الاستقلال، كان عبد الواحد الفاسي يخسر أكثر، لأنه ظهر كأي رجل طاعن في السن ومتزمت. كان شباط يستغل ضعفه التواصلي ليرمي بالتصريحات التي بمقدورها أن تشكل مانشيتات عريضة في الصحف. وبعدما تنبه الفاسي لخطئه، كان الوقت قد فات. يكشف لنا شباط عن كيف كان يعمل في معركته ضد العائلة: «شكلت فريقا عمل برفقتي، لإدارة المهام الإعلامية والتواصل. هل نجحت في ذلك؟ بالطبع، أنظر إلى حجم التغطية الإعلامية لحملتي، وأقارنها بمنافسي. إني كما يعرف الجميع عقل مفتوح. ولن تذكر يوما عني أني وصلت إلى منصب فغيرت رقم هاتفي أو أغلقته. إني رجل التواصل؛ ألم أقل لكم إني أيضا صحافي». لست صنيعة أحد «أنا لم يصنعني أحد. صنعت نفسي بنفسي. لكل الذين يستفسرون عن سر قوتي، عليهم أن يوجهوا أسئلتهم نحو الناس الآخرين. أنا هو أنا. لا أتغير أبدا ولا تغير المناصب في شيئا». من الصعب على شباط أن يعترف بفضل أحد عليه، كما هو صعب تحديد أي واحد من أولئك الاستقلاليين الذين كان لهم فضل كبير عليه. قبل يومين من المجلس الوطني الأخير، تحدث عباس الفاسي مع أحد أقربائه بحسرة: «إنه يتجه نحو رأس الحزب. إني أعرف هذا ولا أحد يمكنه إيقافه». ينقل لنا مصدرنا كيف أن بعض «فّاسة» لم يكبحوا جماح غضبهم على عباس لأنه، في نظرهم، من صنع شباط أو على الأقل سمح له بأن يكون ما عليه الآن. لعباس جواب وحيد: «لم أكن ربما أعرف أن شباط هو شباط». عباس وبصفة رسمية يقول أشياء مختلفة تماما، وشباط أيضا يستثنيه من كل الهجوم المدوي على العائلة الفاسية. وإذا كان شباط قد تمثّل لعباس كشباط آخر طيلة هذه السنين، فإن شباط ربما «يمارس ألعابا شيطانية» كما يعلق الأندلسي، ثم يستدرك: «أخطأ عباس كما أخطأ غيره حينما تحالفوا مع الشيطان من قبل. هل كانوا يعرفونه على حقيقته أم تلبس عليهم؟ ليس شأني فهم كيفية تصورهم لشباط. بالنسبة إلي كان شيطانا يجب الحذر منه، وكان يقدم الأدلة تباعا على أن هدفه هو رأس الحربة». محمد العربي القباج، قيادي في الاتحاد العام للشغالين، عاشر شباط كثيرا ورافقه في مساره إلى أن بلغ مجده النهائي. يتفهم القباج كل «الإساءة المتعمدة» لشباط لكنه مقتنع بأن شباط شخص مختلف عما يتصوره عباس أو عما يعتقده الأندلسي. «ليس لدي شك في من هو شباط. إذا وصف نفسه ب«ابن الشعب» فإنه صادق. هذا رجل لم يسجل عليه أن بدل معطفه أو أدار وجهه لرفاقه. وككل الرجال العصاميين، الذين يبدؤون من لا شيء، فإن شباط قادر وهو أمين عام لحزب الاستقلال، أن يلتهم فطورا من «الخبز والزيت والبيصارة» مع أولاد الدرب. ليست هنالك أي عقدة نقص، وهذا بالضبط ما يخشاه منافسوه وخصومه». هل يستحق رجل كهذا أن يصل إلى قيادة أعرق حزب سياسي؟ «ولم لا؟. كل الذين طعنوا في الرجل كانوا ينطلقون من زاوية عنصرية في النظر إلى الأمور. إنهم يعتقدون أن المنصب يحتاج إلى شخص يملك من الوجاهة والنسب والأصل ما يليق. ولأنهم يفكرون بهذه الطريقة، فقد قدموا شخصا يسبق نسبه عمله». «لن يغلبني أحد لمجرد أن أباه أو جده هو علال أو بركة. انتهى زمن الألقاب، وحان وقت العمل. لقد كان مساري شاقا وينطوي على صعوبات في وجه الآلة الجارفة للعائلة داخل حزب الاستقلال، لكني تمكنت من جعل الآلة تتعطل في نهاية المطاف». بشكل ما، هذا ما يبرع فيه ميكانيكي ذو خبرة. شباط كما يفتخر بذلك في متن سيرته الذاتية، «تقني خراطات عصرية»، عمل لمدة وجيزة كتقني يصلح الدراجات في ورشة بفاس. ولأن كل شيء من تلك الفترة حتى عودته إلى الواجهة، قبل عشر سنوات، غامض بدرجة تقل أو تزيد، فإن شباط تصرف فعليا كميكانيكي مع آلة العائلة داخل حزب الاستقلال، بعدما كون من حوله آلة انتخابية هوجاء، وهو يقولها باعتزاز أيضا: «لا تتحدث معي إذا لم تكن موضع اختبار ديمقراطي. أنت لا تترشح إذن لا يحق لك أن ترفع رأسك في وجهنا. أنا رجل صناديق الاقتراع». قبل أن ينهي كل شيء، قرر شباط أن يرمي بنصيحة أخيرة: «تمسك بالأمل. إنه طريق بلا نهاية». هل هناك مزيد من الآن فصاعدا في طريق رجل صندوق الاقتراع؟ «دعونا نركز الآن على التعديل الحكومي»، يردف بجدية. نساء من حول شباط هن ثلاث نساء لا غير يدرن في فلك الزعيم الجديد لحزب الاستقلال. فاطمة طارق وخديجة الزومي وكنزة الغالي. فاطمة زوجته، وخديجة ساعده الأيمن في النقابة وكنزة ساعده الاحتياطي. يفخر شباط كثيرا بزوجته، وهو مصمم على أن يصحبها معه أينما ذهب. على عكس عبد الواحد الفاسي، الذي لم يظهر لزوجته أثر، كانت فاطمة محركا مهما لحشد النساء الاستقلاليات لصالح زوجها منذ أن بدأت الحملة. وهذه وظيفة تقتنع فاطمة بجدواها كل مرة. إنها تعتقد أن «وراء كل عظيم امرأة»، وبالنسبة لشباط، فإن زوجته دليل على أنه «رجل عائلة». يصفها ب«لالة فاطمة» وهي تنعته ب«سي حميد»، ويتصرفان وكأنهما لحمة واحدة. تشكل فاطمة آلة انتخابية خلفية لزوجها، فهي ناشطة في العمل الخيري والجمعوي بفاس بشكل أقنع شباط بضرورة أن يجازيها عن عملها بموقع في المجلس الجماعي، ثم بمرتبة متقدمة في تنظيم حزب الاستقلال، ثم أخيرا بمقعد برلماني. بعد زوجته، تأتي خديجة الزومي، المرأة الحديدية داخل الاتحاد العام للشغالين. اسمها يرد دوما وراء اسم شباط، كتبيان على درجة أهميتها، وهي تستمد قوتها من شباط نفسه. ولما حاولت أن تترك مسافة أمان بينها وبينه في السعي نحو زعامة الحزب، وجدت نفسها على الهامش. كان شباط يقربها إليه بدرجة كبيرة وعيّنها كاتبة وطنية للجهة الشمالية الغربية، وكانت كل الطرق تؤدي بالنسبة إليها نحو خلافة شباط على رأس النقابة. ربما الآن ستتغير بعض هذه التفاصيل. في هذا الوقت بالضبط، تظهر كنزة الغالي كوجه نسائي غمره الحضور الكثيف لخديجة الزومي بالكثير من الرمل. تستغل كنزة الآن الفراغ الذي تركه غضب شباط. حازت على موقعها داخل اللجنة التنفيذية للحزب في الخارطة الجديدة التي يرسمها شباط لنفسه. وبسعيها نحو إظهار الإخلاص التام لشباط، تعود مطامحها للاستوزار من جديد. ولم لا؟ فقد كان شباط مدافعا عن استوزارها في هذه الحكومة لولا «عقبات العائلة». الدويري.. الأب الروحي لشباط إذا كان شباط يظهر بغضا خاصا نحو عائلة «الفاسي»، فإنه لا يشمل بمشاعره كل العائلات الفاسية. حينما أعلن عادل الدويري عن وقوفه بجانب شباط ضد عبد الواحد الفاسي، فإن الكثيرين وقفوا مشدوهين: هل يعقل أن يقف «فاسي» بجانب شخص «غير فاسي» يحارب «فاسيا» آخر؟. ما أهمله من فكّر بهذه الطريقة هو بالضبط ما صنع شرعية شباط بين العائلات الفاسية داخل حزب الاستقلال. كي تجد لنفسك موطئ قدم هنالك، عليك أن تعثر على سند من الداخل. محمد الدويري، أو كما يحب شباط أن يسميه، الحاج محمد، كان هو الفاسي المناسب كي يستند عليه شباط وهو يمخر عباب الآلة التنظيمية المعقدة لحزب الاستقلال. «إنه مثل والدي. الحاج دائما فوق رأسي»، يعلق شباط. محمد الدويري ونجله عادل، الوزير السابق ذو الطموح المتجدد للاستوزار، كانا يقفان مع شباط من باب أنه موقفهما الطبيعي. يستفيد «الحاج محمد» من ثمار الآلة الانتخابية الكاسحة لشباط في فاس. لا يقوم بأي جهد كي يحصل على منصب. هو رئيس جهة فاس بولمان، لكنه لا يقترح نفسه ولا يقوم بحملة لصالحه. كل شيء يفعله شباط. «الجهة مخصصة للحاج. انتهى الكلام»، يتحدث شباط إلينا باعتزاز الابن بوالده. يستفيد شباط من الدويري كقوة ضغط كبيرة داخل الحزب، وولاء لا يتزعزع لعائلة استقلالية عريقة ومتجذرة داخل التنظيم الحزبي. يستطيع استقلالي أن يخلص إلى نتيجة مستبصرة: «الدويري صنع شباط من دون أن ينتبه الناس. عباس كان على خطأ، لقد خدعه الفاسيون قبل غير الفاسيين».