خرج مؤتمر الاستقلال من دون زعيم. تبدو اللحظة تاريخية بسلبياتها وإيجابياتها، حتى أن بعض المتحمسين من داخل الحزب أطلقوا عليها لقب «الربيع الاستقلالي»، في بيت شاخت فيه «العائلة الحاكمة». أما معارضوهم فيصفونها بالردة على أعراف الحزب. «كل من كان يتابع هذا المؤتمر كان متخوفا من الخروج منه ونحن في وضعية لا تحمد عقباها.. خصومنا كذلك كانوا متربصين بنا من أجل ألا يبقى وألا يظل هذا الحزب رائدا في المجال السياسي.. لكن ذكاءنا ونكران الذات الذي نتمتع به جميعا جعلنا نخرج موحدي الصف». يبدو الأمر للوهلة الأولى وكأن كل شيء على ما يرام في بيت الاستقلال ونحن نسمع هذا الكلام المعسول من الجلسة الختامية لمؤتمر حزب الاستقلال على لسان حميد شباط. الخطاب الموجه أمام الكاميرات والمنصات الرسمية كان يخفي حقيقة أن دار الاستقلال كانت على أهبة الانفجار في أي لحظة، بعد أن انقسم الحزب على ذاته كأنه طوائف متناحرة. هذه المرة يعيش أزمة حقيقية باعتراف منتسبيه، ولم يعد ممكنا إنكار الأمر. الخلاصة هي أن الحزب عاجز اليوم عن التوافق على زعيم يخلف عباس الفاسي على رأس حزب يتشدق بشرعية أبي الأحزاب المغربية. شباط.. معركة حياة أو موت كلمة السر هي «شباط». بالنسبة إلى البعض، فإن سبب كل «البلوكاج» الذي شهده المؤتمر السادس عشر هو زعيم الذراع النقابي للحزب، الذي أعلن حربا مفتوحة على حكم العائلة للحزب أياما فقط قبل المؤتمر؛ المؤتمرون الاستقلاليون الموالون لتيار عبد الواحد الفاسي يتهمون شباط بنسف المؤتمر وخرق الأعراف والتقاليد المرعية داخل الحزب المحظي. بالنسبة إلى متبني هذا الرأي فإن عمدة فاس خان الحزب وأدخله في دوامة خطيرة. ويضيف مؤتمر من جهة الدارالبيضاء ل«الآن»: «شباط يدخل الحزب مرحلة خطيرة؛ لذلك فإنه أغرق المؤتمر بعناصر ليست لها حتى الأهلية للحضور في المؤتمر.. شباط أصبح خطيرا على الحزب». كان ما عرفه المؤتمر بمثابة الزلزال، فجريدة «العلم» الناطقة باسم الحزب تفادت أية إشارة إلى ما يعتمل داخل الحزب من صراعات تطورت لتصل إلى اشتباكات ومواجهات. حشد شباط كل أنصاره بعد أن أحكم قبضته على عدد من الفروع وتأكد من دعمها ودخل المعركة بقوة، وفي كل لحظات المؤتمر وكلما علت درجات الشحن والتوتر، لم يبد شباط تململا؛ فبينما كان عبد الواحد الفاسي يلوّح، بين ساعة وأخرى، بالانسحاب لجس النبض، كان شباط يؤكد أنه يحمل مشروعا متكاملا وسيتمسك بترشيحه وسيمضي في الأمر حتى النهاية. برلماني مقرب من شباط أسر ل«الآن» بأن الزعيم النقابي ينظر إلى الأمر كمعركة حياة أو موت، ويردف المصدر «بالنسبة إلى شباط، الأمر محسوم؛ إما هو أو عائلة الفاسي.. يمكنه أن يراجع موقفه فقط في حالة وحيدة، وهي لو انسحب عبد الواحد الفاسي وتقدم مرشح آخر لمنصب الأمين العام.. شباط لا يمكن أن ينسى موقف عائلة الفاسي السلبي من قضايا أبنائه». يختلط هنا الشخصي بالسياسي، ليخفي صراعا تخفيه تحايا كاذبة تدعي الوفاق تمر عبر وسائل الإعلام ككلام ليل يمحوه النهار. كان مستحيلا بالنسبة إلى العارفين ببنية حزب الاستقلال أن يتم إجراء تصويت بمرشحين اثنين، وهو ما حدث حينما تم إيجاد صيغة توقف النزيف الذي كاد يصيب الحزب في مقتل بتأجيل انتخاب الأمين العام للحزب وأعضاء اللجنة التنفيذية إلى وقت لاحق وإحالتها على المجلس الوطني للحزب. كان هذا الحل هو قارب النجاة الوحيد بشكل مؤقت، بعد فشل المساعي لإقناع شباط بالعدول عن تقديم ترشيحه وترضيته بمنصب رئيس المجلس الوطني والمراهنة على عامل الوقت. عبد الرحيم منار السليمي، أستاذ العلوم السياسية والمحلل السياسي، لا يزال مقتنعا بمقولة «الصواب الاستقلالي» القادرة على تجاوز أي صراع داخلي مهما كانت درجة حدته؛ فاستمرار التنافس برأسين ستكون له انعكاسات سيكولوجية سلبية على مكونات التنظيم. وبينما كانت المحاولات لا تزال قائمة، جاء عباس الفاسي الأمين العام ليلقي خطبته العصماء، حينما وجه رسائل مشفرة إلى شباط وهو يسخر من ثوريته المزعومة، ويقول بصراحة إنه لا يمكن السماح لمن هب ودب بأن يشغل منصب الأمين العام وأن الحزب يرفض الاستبداد. وقد ثارت ثائرة أنصار شباط الذي التحق بهم مباشرة بعد سماعه لما قاله الأمين العام المنتهية ولايته، ليقوموا بحمله على الأكتاف رافعين شعارات قوية ضد «آل الفاسي» وضد «التوريث». وما كان يبدو أنه حل قريب زال في لحظة هذيان اقترفها عباس الفاسي؛ شباط وإن قبل عدم عرقلة مسعى التأجيل فإنه يعتبر نفسه قد خرج منتصرا، «الأمور تسير في اتجاه شباط؛ هناك دعم قوي له داخل المجلس الوطني، فأياما فقط بعد انقضاء المؤتمر اجتمع شباط بعدد كبير من أعضاء المجلس الوطني الذين أتوا للتعبير عن دعمهم له.. هناك وضوح الآن في موقف قيوح ومضيان والرشيد؛ كلهم حسموا أمرهم بالوقوف مع شباط في وجه آل الفاسي الذين حفظوا الحزب باسمهم»، يتابع البرلماني المقرب من شباط. مرشح السلطة أو الطريق الثالث يبدو ما يعرف بمجلس الحكماء، حتى هذه اللحظة، عاجزا عن الإدلاء بموقف وسط كل هاته المعمعة. لم ينجح المجلس في إيجاد صيغة توافقية ترأب الصدع وتقدم مرشحا توافقيا بديلا؛ فحتى اللحظة كل المحاولات باءت بالفشل وبعض الأسماء التي طرحت كحلول بديلة لا تعدو سوى أن تكون اجتهادات. مصادرنا تعتقد أن كريم غلاب لا يحظى بالإجماع، إذ ما زال ينظر إليه على أنه غريب عن الحزب، بينما يمكن أن يكون أحمد توفيق حجيرة الورقة الأخيرة، بعدما سقط اسم كل من عادل الدويري ومحمد الوفا بقرار لجنة القوانين والأنظمة بحصر حق الترشح للأمانة العامة في العضوية في اللجنة التنفيذية للولاية الأخيرة. ظاهريا، كان خروج الوفا من المؤتمر انتصارا لتيار شباط الذي كان ينظر إلى الوفا كمرشح مفروض على الحزب من الأعلى، والذي كان يحاول تقديم نفسه كحل لتجنيب الحزب متاهات خطيرة. وبحسب أنصار شباط، فقد كان واضحا أن الوفا يحمل إملاءات معينة تزكي طرح أن شباط لا يحظى بدعم الدوائر العليا، التي لا ترى فيه المخاطب العاقل؛ «الجميع يقول إنه سيبقى مرشحا حتى الموت، وهذا ليس أسلوب حزب الاستقلال.. هناك مؤسسات يجب الاحتكام إليها، فالحديث عن المنافسة يجب أن يكون أمام المجلس الوطني للحزب وليس في الشارع»، يقول محمد الوفا الذي قرر مغادرة المؤتمر قبل نهايته، ثم يتابع: «أنا لم أنسحب، المؤتمر انتهى بالنسبة إلي.. أنا إنسان حر وسأستمر في إبداء موقفي وسأمضي فيه إلى النهاية، لأنه لم يعد ممكنا أن أصمت بعد اليوم. فاليوم نحن نعيش فترة يجب أن يعرف فيها الحزب الوضوح السياسي بعد فترة صعبة تولى فيها عباس الفاسي الأمانة العامة للحزب.. يجب تقييم هذه المرحلة». هل بات الحزب يعيش أزمة؟ النفي على ألسنة الاستقلاليين هو الجاهز: «نحن حزب أولياء الله وسنتجاوز الأمر»، يقول مؤتمر مقرب من عبد الواحد الفاسي. محمد الأنصاري، رئيس المؤتمر، يبدو انتقائيا جدا وهو يجيب عن أسئلتنا؛ «إنه كلام.. البعض يقول.. دعهم يقولون.. الخلافات، سواء كانت حادة أم لا، هي أمر طبيعي، ولا توجد هناك أزمة في الحزب. لقد أجلنا عملية الانتخاب إلى وقت لاحق بسبب مشكل تدبير الوقت والعياء لا غير»، وهو ما يؤكده الوفا قائلا: «الحزب أكبر من هاته الأشياء». أهم فعلا واثقون أم أنهم يكابرون فقط؟ بين شباط الذي يريد أن يحكم الحزب التقليدي وبين العائلة التي لا يمكن أن ترى نفسها خارج الزعامة، يتلمس الاستقلاليون طريق مخرج ربما سيطول وقت البحث عنه. صراع فاس العائلة وفاس الجغرافيا لم يعرف حزب علال الفاسي اشتدادا للصراع حول الزعامة مثلما يعيشه اليوم، هو صراع بين نخبتين بحسبما يؤكد منار السليمي واحدة محسوبة على فاس العائلة (آل الفاسي) وأخرى على فاس الجغرافية ( تيار شباط) ، تاريخيا كانت للحزب القدرة على احتواء جميع الاختلافات فمنذ خروج الاتحاد الوطني من رحم الاستقلال سجلت حالات انشقاقات محدودة على رؤوس الأصابع تم احتواءها بسرعة وتم الحفاظ على البنية الحزبية قوية ، المؤتمر الحالي وإن استطاع أن يخرج بأقل الخسائر من المؤتمر فإنه لم يستطع أن يمنع خروج الاتهامات المتبادلة إلى السطح بين عباس الفاسي ومحمد الوفا ، فهذا الأخير لم يتقبل إصرار عباس الفاسي على محاولة إقناع أعضاء اللجنة التنفيذية أن الوفا ليس مرشح القصر وأن هذا الأخير كان يحاول إيهام الاستقلاليين بأنه مرشح السلطة التوافقي، وهو ما رد عليه الوفا بوصف الأمين العام السابق بأنه أصلا لم يكن ينوي الترشح أصلا واصفا الفاسي بالكذب ومحاولة التحكم في الحزب طيلة 11 سنة.