كانت سماء « أكنول » على بركان صامت... وكانت النظرة تائهة في ملكوت الله تنتظر بكاء غيوم دكناء لا تبحث إلا عن عمن سيستفسر غشاوتها المهملة... كان أطفال الحي يرددون أناشيدهم البريئة، يبتغون ماء زلالا أجاجا خارج كل التوقعات الجوية الكاذبة... من قلعة « بلانكوس » كان – ع – يفند أحاديث العجائز وأباطيلهن، ويحاول قراءة أحاسيس كل من مروا من هنا، مجاهدين وملاعنة المستعمرين. أولئك الذين عاثوا فسادا في ملك ورثة عبد الكريم الخطاب... كان – ع – يختصر المسافة، ويلاحق الحقيقة بعين المؤرخ؛ تلك التي لا تنام آمنة... مدينة « أكنول » بوابة مشرعة على الموت، ورقعة شطرنجية ثار فيها التاريخ وتعطل عن الكلام... فيها أحرق معاجم النوايا المبيتة، وأدرك أن الطريق إلى الضفة المنسية موقوتة وملغومة في حضرة قداس مفتعل... « أكنول » لم تكن يوما محطة مسافرين، ولا إقامة إجبارية لمن باع المبادئ وزنر الحقد المجاني... « أكنول » كانت بركان غضب لكل من دخلها آمنا... وحائط مبكى لكل من حاول عبثا عبادة العجل الذهبي... في فضاءاتها الصامتة الناطقة، ردد الشيوخ والأطفال أناشيدهم المبحوحة، وطقوسهم الأولى، واختلت موازين من كان يمارس السباحة ضد التيار... كان لشجر اللوز والصنوبر والعرعار نكهة العشق للمعشوق. ولم تكن أبدا « أكنول » توصد أبوابها المشرعة هيبة ووقارا، لأن الزمان علمها قراءة الكف في واضحة النهار والكفر بالعرافات والسحرة وشطط مصاصي دماء الأحرار... كانت ولا تزال « أكنول » شاهدة على مرثيات لم تخطها يد النسيان، وعلى إيقاعات البنادق والرشاشات الكاتمة الصوت... في مدرستها البطولية سكتت مكرهة شهر زاد الريفية عن الكلام، وتأجل عزاء الشعارات المنبرية إلى يوم يبعث فيه التاريخ من رماده شأنه شأن طائر الفينيق... في صولة واستكبار « هامان » ثار الريفي البسيط، وأشعل نار الحقد ضد من أراد لمدينة الموت الدمار والهلاك. وتعالت زغاريد النساء يؤججن قلوبا عطشى لحرب قد لا تبقي ولا تدر... كن ينتظرن اليتم في شموخ واعتزاز، ويقبضن على الجمر بيد فقد حاسة اللمس... ولم تكن البطولة والفحولة حكرا على الرجال دون النساء، والحال أنهم نهلوها من معين نساء خالدات صامتات، طرزن الشهامة خارج القيل والقال وما يقولون، وامتطين المجد في صمت ناطق... كانت لنساء الريف صولة استثنائية تسمع ولا ترى... تقرأ على تضاريس شعاب وأودية الريف، ولا تحسن الكلام إلا عندما يقعقع الشنان... نساء الريف المنسي، استعارة تنكرت لها البلاغة، وصولة بحت أوتارها من شدة الورم المفتعل وقسوته... نساء الريف أسطورة رددتها الجدات للأحفاد في زمن تنكرت فيه للتاريخ... وأخطبوط يمتد إلى شرايين بحر الظلمات... نساء الريف صور قزحية يستهويها اللون الأحمر المزيف الطالع من ثنايا ربيع زمن لقيط... نساء الريف نزيف ولادة قيصرية، يبحث عمن تنكر لمنطق الطبيعة، وركب صهوة النسيان حقدا وغيظا... من هناك، لاح قبر عبد الكريم يراقص تاريخا أدماه مؤرخ دجال تستوي عنده كل المعادلات... من هناك، بكى « سيلفيستري »، وقد قميص عبد الكريم من قبل، وخر ساجدا لصهيل فرس أضناه الكر والفر... من احتواه جبل « ظهر أوبران »...؟ من هناك، اعترفت قارئة الفنجان بشطط زرقاء اليمامة وما اقترف الفؤاد... لم تكن كواسر الريف قاتلة، ولم يكن حمام الريف أليفا ووديعا... ولم يكن التاريخ تاريخا، ولا الإنسان إنسانا، ولا الطبيعة طبيعة... تداخلت الوظائف، وانسل الانسجام مرتديا ثوب الحجاج بن يوسف الثقفي... أحقا كان الريف زلة طبيعة الله...؟ أم تراه انزياح ثار على مثالة الاستعارة؟ أم تراه شرود جيل أعياه الهتاف المجاني؟... الريف صورة أنثنى في صورة عشتار، وبرميل بارود يبحث عن قارة خارج جاذبية بلهاء... الريف ليلة خميس الأسرار... وحوار عشاء أخير على إيقاع سمفونية الموت... الريف قصيدة شعر، مطلعها رثاء، وآخرها بكاء... والريف أولا وأخيرا شجر صبار طالع من إسمنت، يورق دون سابق استئذان... سأل التاريخ المنجمين عن برج خانته التفاصيل المعتمة، فصمت منطق الأشياء، واختلى زناة الليل بعذرية حبيبة متمنعة تأبى زواج المتعة... تلك آفة فضاءات اخترقتها سياسة التدجين، واعتلتها أباطيل قراصنة احترفوا التسويف وعشق لعبة النرد على إيقاع سمفونية الضياع... تلك ضريبة أهل الذمة في الزمن المشاع... فمن أخطأ عنوة رسم تضاريس الريف لمنسي وأدخله غرفة الإنعاش ليمارس عليه اللواط محتميا بشريعة الغاب؟... إنه ريفنا الذي ودعته العاصفة بالحلم الجميل، فأصابه الرمل والريح والزلزال... أيكون الريف نقمة في طيها نعمة أم تراه لعنة أبدية لا تنجب إلا شجر الزقوم والدفلى؟... ومن أوقف الوقت على حافة الفراغ، وزنر حقد الرعاة تاركا القطعان تغادر المراعي والفضاءات الراعشة بالسلوان؟... أكون أجدادنا كذابين ومنافقين ودجالين حين حدثونا عن ملاحم دونكشوتية، وعن لذة حب غبار الخرائب، وحين ثارت خيولهم على رائحة الدم، وحين تبولوا على الإسطبل والسروج...؟ أي أنشودة نصدق، واللغة لا تطاوع المواقع، ولا تستطيع تصحيح صحوة أخطاء التاريخ، وتعيد قراءة الأرقام لتكتمل المحاولات المشفرة؟ أيكون أجدادنا انتحلوا صفة « جابر عثرات الكرام » فشاخوا على مائدة الخبز، وأسسوا كرنفالا من البطولات الغرائبية الممجدة على إيقاعات البرابرة البدائيين المهذبين الذين جبلوا على النزعة والغموض والبساطة، والعازفين أبدا أنشودة الريبة والخطوط المعقدة...؟. لم يكن الأجداد يدركون أن عيون الشر تتلصص معرية خبايا الكون الواهن، وتخترق الإسمنت، وتتخطى القنابل العنقودية خاضعة لها الرقاب التي تطاولت معتزة برصيدها الأخلاقي والنضالي، وكاشفة للوقت سر حب الوطن خارج كل المزايدات المجانية... أجدادنا لم يكونوا يدركون أن الزمن حين تحنطه الإيديولوجية الموبوءة، يفقد هويته، ليحول الإنسان إلى مجرد رقم متقطع، يفقدنا أصلا الإحساس بالزمن، ويطوحنا في أعماق أغوار العقل الباطن. من يصدق أن أجدادنا خذلتهمالذاكرة، واستحالوا خطوطا باهتة من بقايا الاغتصاب، واستأنسوا بحياة الذئاب الضالة... تلك التي كانت بالأمس تقتات بنهش الجسم والروح معا وتبيح دم المؤودة؟ خذلتهم الذاكرة، حين ضمدوا الجسد المثخن بالجراح، بعدما يئسوا أن العلاج يطرح ألف سؤال وسؤال، والبقية الباقية من القتل والوباء تتسع لعشرات أخرى من السنين... الريف، يا عبد الكريم، لم نعد نشعر معه بالطين حين يمتزج بالأحلام، إذ استحال إلى منفى ما زال مصرا على إنجاب الحب والمرارة، وإلى أرض بلهاء لا تؤمن بالحياد، وهواء اخترقته أشعة الأوزون، وماء راكد لغسل الخيانة... ... الريف يا عبد الكريم، سفينة يراودها سمك القرش علها ترسو في ميناء يحرسه قراصنة محترفون، يقتاتون على إيقاع صهيل الخيول، وهفيف السيوف المهددة... الطريق إلى الريف يا عبد الكريم، مجهول المعالم، والبوصلة تعطلت عن وظيفتها خيفة وتوجسا من المخبرين الذين اعتقلوا الشمس والنجمة القطبية... وأدخلوا الأماني يا عبد الكريم، غرفة الإنعاش، وبدا الريف الحزين سحابة سوداء تنام بعين واحدة في كبد السماء الأولى... هناك حيث طائر الحرمل يحكي لها خرافة الغانية الشمطاء الكفيفة البصر قائلا: « تطهري أيتها الغريبة ! ... اغتسلي في الماء حتى تعود لك عذريتك ثانية!...». ماذا بوسع العشاق أن يفعلوا في زمن المتاه يا عبد الكريم! وقوة الغواية ماثلة في صمت الأشياء، تحكي عن الدم القديم المعجون بالنسيان، وعن رائحة التاريخ المفعمة بالدمار...! وعن اللقالق الأخيرة، وهي تتحرك صوب توالي الليل والنهار، هاربة من الانتحار الجماعي يا عبد الكريم! يخيف الطير والأسماك، فما بالك بالإنسان المتشبث بسراب الزمن الراكض في الدم والخراب!.. هذا الإنسان الذي بدأ يعيش حكاية الضياع، ويتمنى لو يدوزن أحزان اليتامى والضعفاء والمهمشين في أغنية الأيام، ويتحصن معهم خلف الأماني المؤجلة، عل الفجر الجميل يتشظى من شعاع القمر المنهزم، وتتعرى الأدغال من ألغازها، ويطلق الربيع مواويله الخضراء. هناك كنت يا عبد الكريم! وهنا لا نزال ننتظر، ونحلم أن كل الزهور لنا، وأن الجراح ستزهر يوما بالسنابل، والأرض ستخترقها الينابيع، وسنجب الأمهات العاقرات، والابتسامة ستعلو الشفاه المطبقات والمختومة بالشمع الأحمر... في فضاءات ريفنا الجميل، بتنا نبحث عن خطى العشاق، وهن سمر الأحبة، وعن مواويل ليالي الحصاد الرائعة... وعن خرير المياه تروي الأرض البوار، وتعيد للحقول والمداشر سيرتها الأولى. سنردد مع « ميمون » ألف مرة « وني ذشار اينو / ذاك هو مدشري...». من كان يصدق أن الريف ستغزوه يوما أباطيل التهريب، وقطاع الطرق، وتتحول براءته إلى إدانة ملعونة تتنافى ودماثة أخلاق أهله...؟ ومن كان يصدق أننا سنعيد للريف حديث مجنون ليلى، وقصاصات أخبار « عام البون »؟... وكيف سرقوا في واضحة النهار من أجدادنا نور القمر، وتواطئوا مع المغول والثرثار على اختطاف عروس الريف حين اشتعلت أرواحهم بخرير الأنوثة...؟ من كان يصدق أن السيوف كل السيوف ستمر على الأعناق، وستظل العيون مسمرة صوب المدى وكأنها قد ضلت الزمان...؟ من كان يصدق أن اليد المثلوجة ستصافح يوما قاتلها وتنسى صوت الأسلاف الذين مروا من هنا... من...؟. ----- الدكتور عبد السلام فزازي - جامعة ابن زهر بأكادير