خلال الأيام القليلة الفارطة كان للمشاهد المغربي، ذاك المهتم بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، الفرصة لتتبع عدة برامج/حوارات كانت مضامينها، إذا ما تم التمعن فيها ذات صبغة ليست كالمعتاد. فخلال البرنامج الأول، حسب الترتيب، ساد حوار، ليس كالمعتاد، ذلك أن منشط البرنامج لم يتمكن من إيجاد مدخل لطرح إشكالية بين ضيف الحلقة والضيف "المفاجأة" تجذب المشاهد بخلقها لوجهتين نظريتين متميزتين بالطرح والطرح المضاد أي بتنشيط نقاش إيجابي يمكن المتتبع من التمييز بين رؤى مختلفة؛ الأمر الذي وضع لا منشط الحوار ولا المحاور وضيفه "المفاجأة" في وضعية سلبية بالنسبة للمشاهد. إذ وجد هذا الأخير نفسه أمام عرض لا معنى له وليس حوارا. لا معنى له، لكون محور الحديث كان تقديما أو بصحيح العبارة إشهارا لتقرير لم يتم نشره بعد ولم "يولد" بعد ولا زالت بعض محاوره كما قال منسق تأليفه غير كاملة (وربما ستظل كذلك بدون غد...). علاوة على عدم ولادته اكتفى منسق تأليفه بتقديم جد موجز وهزيل لفهرست التقرير مع الإشارة إلى أن هناك ثلة من الخبراء ذات تخصصات مختلفة قد ساهمت في إعداده مقحما المشاهد في تساؤلات لم تكن في محلها وخصوصا عندما تاه بين ما يمكن تصنيفه في خانة الاستراتيجي وما يجب أن ينعت بمجرد تصور. والملاحظ هو أن مؤطر تأليف التقرير، واثقا من مؤهلاته، أطفأ على تقريره الصبغة العلمية والموضوعية وأطفأ على تقرير الخمسينية صبغة المؤسساتية و المشروعية!!. ألم يعلم مؤطر تأليف هذا التقرير بأن القراء والنقاد هم من لهم المصداقية في إطفاء الصبغة العلمية على تقريره أم لا... ما كان مثيرا للانتباه هو الانسجام التام والتلقائي بين ضيف الحلقة والضيف "المفاجأة" إذ أن الضيف يشرع في الحديث و"المفاجأة" يكمل على نفس الوثيرة. لقد كان حوارا أحادي المنحى وأحادي التصور لكون الضيفين كانا وجهين لعملة واحدة تسعى لإيجاد محل لها من الإعراب في زمن عجز فكرهم عن تكييف المبادئ التي كانوا مؤمنين بها ومتطلبات الألفية الثالثة. أتحدث عن عجز فكري، لأنه في بعض الدول الأجنبية استطاع منظرو الفكر اليساري تجديد وتكييف مبادئهم وإثراءها بأفكار نابعة من طاقات شابة متشبثة باليسارية من منظور حداتي أي مواكب لمتطلبات المرحلة. الأمر الذي مكنهم من استقطاب طاقات فكرية جديدة وأصوات انتخابية جديدة قادتهم إلى تقلد مسألة تدبير الشأن العام. آه، لقد نسيت أن الأمر يتعلق بأناس يفكرون ويجتهدون للصالح العام ولا للصالح الفردي. المسالة الوحيدة الايجابية التي أهداها ضيف الحلقة للمشاهد كونه اعترف، بالرغم من كونه اعتراف غير مباشر، حين تحدث عن كيفية صياغة البرامج من منظور حزبي وصياغته من منظور غير ذلك أي تقنوقراطي، حيث قال أن الأرقام التي تتضمنها برامج الأحزاب خلال فتراتها الانتخابية تكون غير موضوعية ومبالغ فيها، الشيء الذي يجعل هذه الأحزاب في حيرة عند تقديم حصيلة برنامجها في آخر ولايتها إذ تتضح فجوة عميقة بين ما وعدت به وبين ما تحقق. وهذا عكس الحكومة التقنوقراطية. وكما يقال:" شهد شاهد من أهلها". أعتبر هذه الجملة الصادرة عن ضيف البرنامج بالهدية الغالية لأنها شاملة وكاملة ومقنعة لكل سؤال له علاقة بحالة المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المغرب. أما ضيف البرنامج الثاني فهو من نفس "العائلة السياسية" غير أنه مخالف عن الأول من زاوية الشخصية التي يتقمصها. فالأول قد أزاح عنه صبغة السياسي ولكن فقط ظاهريا. أما الثاني فقد أهدوها له في وقت غير مناسب أي في وقت علموا فيه مشايخ ومنظرو هذا النوع من التفكير أن الظرفية التي يمر منها الفكر السياسي المغربي في اتجاه وما جعلوه ينطق به خلال البرنامج في اتجاه السراب والميئوس منه وخاصة من طرف تيار سياسي ادعى في الأول الشيوعية وتنصل منها ليعتنق التقدمية الاشتراكية والتي لا فرق بينها وبين الأولى إلا الانتظارية. انتظارية ما يمكن أن ينجم عن جدلية طبقات المجتمع. علاوة على أنه لا شيء يذكر يشهد الشعب له بها. بل أن الحزب بأفكاره ومبادئه الحقيقية في تناقض تام وعميق مع ما يؤمن به الشعب المغربي بقيادة أمير المؤمنين. بل يمكن القول أنه خلق في حقبة كان خلالها سور برلين ما زال قائما وكانت الاتحاد السوفياتي سابقا هي مصدر أفكاره، فإذا انهار المصدر والمزود، ماذا بقي...؟ فليس لهذا الحزب القدرة، وخاصة في حالته الراهنة ولا في حالته على المدى المتوسط... إلا التستر أو الذوبان داخل كثلة من الأحزاب داخل المعارضة في انتظار ربما تغير المعطيات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية أو في انتظار فشل النموذج "الليبرالي" المعتمد حاليا في البلاد. ولم تكن النتائج المحصل عليها خلال الانتخابات التي شهدتها البلاد إلا دليل على عدم توافق مبادئ الحزب وطبيعة الجسم المغربي. فهذا الحزب، ولكي يجد له مكانا داخل المشهد السياسي لابد له، وهذا ما نلاحظه، من الذوبان أو الانضمام إلى كثلة من الأحزاب ليضمن ليس بقاءه هو كحزب ولكن ليضمن رواده مكانة أو مقعدا ضمن المقاعد المعلومة. فمصير هذا الحزب في الوقت الراهن رهين بالتستر ضمن كتلة. وحتى ما إذا تجرأ حزبه وافترى على الشعب بكون الجانب الاجتماعي قد عرف ازدهارا ملحوظا، من خلال الوزارة التي تدبرها رفيقته، فإن الشعب واع كل الوعي بأن الحركية التي يشهدها المجال الاجتماعي هو ليس وليد برنامج وزارة رفيقته وإنما هو وليد رؤية عاهل البلاد من خلال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. لقد تعاقبت كل الأحزاب على تدبير الشأن المحلي، وكانت النتيجة سلبية بدعوى عدم امتلاكها لل"عصا السحرية" كما ادعت كلها بدون استثناء. وكل الشارع من خلال فئاته تعلم أن السلبية تبقى من نصيب الشعب أما الايجابية فتظل من نصيب النخب السياسية ومهلوس من اعتقد أو يعتقد أنها ستظل كذلك. أما بخصوص الضيف الثالث، فهو من نفس التيار الفكري، لا اعتقد انه جاء بالجديد خصوصا من ناحية تجديد الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كل ما اتضح للمشاهد هو تكريس مبدأ "قل لي ابن من أنت؟ أقول لك من ستكون". هل كانت رغبته هي التأكيد على ضرورة إعادة النظر في الفكر الاشتراكي، هل باستئصاله من جذوره الماركسية أم من إفراغه منها؟ لا أعتقد هذا، لأنها فكرة متجاوزة وطرحها آخرون قبله. بل طرحها واقع مسار الفكر الاشتراكي في المغرب. أم كانت رغبته في تقديم وجه حزبي شاب ينوي زعمه لقيادة "تسونامي" داخل حزب الاتحاد الاشتراكي؟ حسب ما يمكننا استنتاجه، أنه ورفاقيه المنسلين من الحزب ينوون إعادة الاعتبار لحزب ارتأوا أنه قد بات من الضروري تقويم مبادئه! قصد استرجاع ثقة الشعب في الحزب. ولكن عن أي شعب يتحدثون؟ من الواضح أنه ما قيل خلال هذا اللقاء وجبت قراءته كما يقال بين السطور... في الواقع، إنه نوع من الهذيان أو الهلوسة السياسية أن يدعي أيا كان إعادة تنظير مبادئ حزب وهو ليس بمعده أصلا أو أنه يعتقد أن المبادئ باتت ك" السروال أو القميص" يمكن إعادة تفصيله كلما دعت الضرورة إلى ذلك. ما هذا العبث الفكري؟ ومع من يتحدث هذا؟ يتنصل من الماركسية وهو معتنق للاشتراكية التي هي مرحلة من مراحل تطور الشعوب نحو الشيوعية. إنه لأمر عجاب. لقد كان من الحنكة والخبرة السياسية أن يقول أن هناك ما هو إيجابي يمكن تبنيه وما هو سلبي يمكن نبذه، على الأقل. هذا مع العلم أن الليبرالية نفسها قد استفادت من بعض مبادئ الاشتراكية كالتخطيط وعدم غفلة الجانب الاجتماعي والتنظيمات التعاونية وغيرها من المبادئ التي باتت إستراتيجية عند بلورة سياسة اقتصادية عمومية. واللافت للاستغراب وما أنا شخصيا أنتظره هو "اللعبة الصينية" التي يعتمدها منشط البرنامج. ذلك أن كل الضيوف إما تود أن "تكون" شجرة أو ليثا أو عصفورا أو نبتة ...أو ما شابه ذلك من المخلوقات... والغريب أن معظم الضيوف عند سؤالهم عن شخصية أو حقبة زمنية، فإنهم يتحدثون عن الغرب وعن الكتاب والمفكرين الأجانب متجاهلين هذا البلد وما ولد. هذا لأنهم وبكل بساطة عاشوا حياتهم خارج الوطن وعادوا حديثا، في ظل النعيم والحرية التي تسود البلاد، لينظروا وليحاولوا إيجاد مكان لهم من الإعراب، غالبا بفضل مكانة الأب أو الجد أو الأقارب...، مثلهم في ذلك كمثل لاعب كرة القدم تم استدعاءه للفريق الوطني وهو غير ملم حتى بالنشيد الوطني، متجاهلين أن المغاربة الذين عاشوا ومكثوا في بلدهم كيف ما كانت الظروف وتمسكوا بملكهم وبالعرش العلوي المجيد هم أولى من الاستفادة مما زرعوا ولكونهم هم الذين تجندوا وناضلوا وراء ملك البلاد لتعم الحرية والنعيم. في حقيقة الأمر وبالنظر للمشهد السياسي في المغرب وخصوصياته، فإن خير "حيوان" يمكن أن ينطبق على بعض السياسيين هو "الحرباء" لكون لونها يتغير مع تغير موقع المنفعة و"الهمزة"... والمفارقة البهلوانية، سياسيا، هي ما زعم أحدهم أن ما يمكن اعتباره بحزب سياسي هو ذاك المنبعث من رحم الشعب. لقد ضاعف في اثنين ما قاله ادريس البصري سابقا. قبل أن نتطرق لهذه "الحكمة" يجب الاعتراف بأن هذا القول يجزم بكون الشعب هو من صنع وكون وغذى الأحزاب المتواجدة. ولكن السؤال يكمن في ماذا صنعت الأحزاب لفائدة هذا الشعب ؟ خير جواب هو ما جاء على لسان المجموعة الشعبية الغيوانية " درتونا اد روج واطلعتوا بنا، أو درتونا اطريق او صلتوا بنا" وهذه الكلمات هي أوضح وأبلغ مما يصرخ به من يدعي نفسه أنبغ وأحنك رئيس حزب. لماذا؟ لكون هذا التعبير أو الجملة هما النابعان من رحم الشعب وجذوره أصلا. إنه من يدعي أن أربعة أحزاب هي المنبثقة من رحم الشعب هو في الواقع ليس مجانبا للصواب فقط بل بعيدا كل البعد عن فهم تطور المشهد السياسي في المغرب. ولا أعتقد هذا الأمر وارد لأن ما تم التصريح به هو لغرض سياسي بخس ذو اتجاه واضح للعموم. وكون بعض الأحزاب لم تعقب عن تصريحاته فلكون مضمونها لا وزن له ولا مصداقية ولا شرعية ولا يهدف إلا إلى جلب الانتباه لحزب يهوي. ذلك أنه في البداية كان ضد المشاركة في الحياة السياسية وبالتالي تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام إلى حين أن ارتأى بعض "أذكياءه" لما البقاء في "الخارج" فلنعمل على إيهام السلطات والشعب على أننا قادرون على تحمل المسؤولية وهذا هو السبيل الذي سيمكننا من اقتحام أجهزة الدولة وحينها نفعل ما نريد... حقا، لقد قالها أحد أساتذتي لأحد قادة هذا الحزب عندما كان يؤطر أطروحة هذا القيادي حين قال له :" c'est un mauvais investissement " مشيرا إلى انضمامه لهذا التيار وإلى بداية ولوج هذا الحزب مجال تدبير الشأن العام. فعندما تم قبوله كفاعل سياسي أي الحزب، بدأ يعمل على محاولة ترسيخ فكرة، لا تؤدي في الواقع إلا إلى الفتنة، حيث كان مرادها إيهام الشعب بأنه هو من يمثل الإسلام وأن الباقي "قريش" أو كفار، ليضمن بذلك تميزا في المشهد السياسي أي أن يقسم الأحزاب إلى قسمين فقط: أحزاب "غير مسلمة" يمكنه التغلب عليها ب"إسلاميته"، وحزب واحد وأوحد "مسلم" يمثله هو وتكون له السيطرة على الكل. إلا أن الشعب المغربي المسلم بالفطرة لم يكن ضحية هذه المؤامرة لكونه يعلم ويؤمن أن الله سبحانه تعالى لم يوص رسوله لا بتشكيل حزب ولا بالسيطرة على السلطة بل أمره بالقيام بالدعوة إلى الإسلام باللتي هي أحسن. هذا علاوة على أن هذا الحزب ربما نسي ركنا أساسيا في عقيدة المغاربة ألا وهي البيعة، الميثاق الغليظ، الذي يربط الشعب المغربي أبا عن جد بسلاطين البلاد. وحتى إذا ما افترضنا أن ما صرح به بخصوص الأحزاب الأربعة حقيقة، فكان عليه أن يدقق أكثر ويقول بأن الأمر يتعلق بحركة واحدة نابعة من رحم الشعب وممثلة في الأصل في ثورة ملك وشعب والثانية من رحم بن لادن وأتباعه وهي ممثلة في حزبه. ولتغطية الزوبعة والهراء السياسي، فضل أحد مناصريه تحويل النظر العام نحو جهة أخرى بزعمه تقديم استقالته من البرلمان عارفا مسبقا انه ستنطبق عليه المقولة الشعبية " أ شدوني راني غدي انطيح فالبير"... و كيف لا يتساءل الشارع عن أسباب وضعيتنا الاقتصادية في حين أن الأمر بين وجلي. فعوض أن تتنافس الأحزاب عن الأفكار وابتكار أجود السياسات الاقتصادية العمومية الملائمة للبلاد قصد الرقي بالمستوى المعيشي للبلاد وقصد مواكبة ما يقوم به ملك البلاد، نراها تتصارع حول من سيتكتل مع من، وإذا تكتلت مع ذاك، كم من مقعد سأحصل عليه ... إلى غير ذلك من التساؤلات التي لا نهاية لها ولا جدوى منها لكونها بعيدة كل البعد عن الهموم اليومية للشعب. والواقع يشهد بذلك كما عبر عن، من الزاوية الأخرى، أحد منشطي الحوارات السياسية والاقتصادية والذي يمكن اعتبار الحلقة التي خصصها يوم 29 يونيو الأخير من أجود اللقاءات من حيث المضمون لكونها أبرزت مسألة بالغة الأهمية والتي من المفروض أن يتحلى بها كل رجل سياسة في المغرب حيث تكمن هذه المسألة في ضرورة أن يكون السياسي مثقفا وخبيرا لا متوفرا على شهادة ابتدائية وفي بعض الأحيان يتضح أنها "مزورة". أما المسألة الثانية التي لوحظت هو كون ضيف الحلقة بتكوينه وخبرته وخصوصا في لباقة ووضوح أسلوبه كان جد متفوق عن محاوريه. أما المسألة الثالثة التي تستحق الإشارة إليها وهي جد مهمة لكونها تلخص المشهد السياسي المغربي وتجيب بكل وضوح على كل التساؤلات المثارة حول هذا المشهد. إذ قال منشط الحوار" أن ضيف الحلقة يمكن أن يصنف في فئة الجيل الجديد للقيادات السياسية الذي اصطدم بواقع سياسي مبني على حسابات وتوازنات تختلط فيها العائلة بالمصاهرة وبالولاءات... الشيء الذي أثار عليه غضب بعض القياديين السياسيين". فهذا الواقع ليس خاصا بضيف الحلقة بل يشمل كل من يحمل أفكارا جديدة وعملية ويطمح في طرحها في الحقل السياسي. وقد نجد هذا الوضع ليس فقط داخل الأحزاب السياسية بل حتى داخل الإدارات والجامعات وغيرها من المرافق التي وجب فيها التعامل مع المواطن المغربي بكل حياد. الصراع الدائم لصد كل من يأتي بالجديد دون مناقشة هل مضمون ما جاء به إيجابي أم سلبي. ولا زلت أتذكر منذ أكثر من 15 سنة مقولة قالها رجل أمام أحد شبابيك إحدى الادارات، إذ قال حينها"c'est le mépris professionnel " ... وهذا هو السلوك أو الممارسات السلبية التي جعلت من الشباب، في الظروف الراهنة، من الانطواء واللجوء إلى البحث العلمي "المنفرد" أو الانخراط في العمل الجمعوي. ولكن هذه الوضعية لا أعتقد أنها ستطول وستدوم لكون هذه الطاقات الشابة المثقفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ستضطر قريبا لإرغام الحقل السياسي على التغيير من خلال ثورة فكرية وثقافية وسياسية هادئة كما عبرت على ذلك في مقال سابق من خلال ثورة ملك شاب وشباب الألفية الثالثة. إنها الحتمية المستقبلية التي لا بديل لها والتي ستكون بمباركة ملكية الضامن للتغيير ولرقي البلاد. كان هذا بخصوص مدخل الحوار الذي تقدم به منشط الحوار، أما الخلاصة فكانت أجود، من خلال الإشارة إلى بعض العراقيل التي يعرفها الحقل الاقتصادي والاجتماعي، وخصوصا الأجوبة التي كانت بعيدة كل البعد عن ما هو سياسي واتسمت بالواقعية وبرؤية خبير استطاع المزج والتأقلم بين الصفتين. ذلك أن مجمل المشاكل المطروحة والمتعلقة بالتعليم والسكن من حيث الخصاص واستمرارية بروز دور الصفيح والاستثمارات وغيرها ... كانت لها إجابات عملية بعيدة كل البعد عن المزايدات السياسية. ويمكنني أن ألخصها في ضرورة وإلزامية المغرب بتبني حكامة جدية وصارمة في تدبيره للشأن العام وذلك بتفعيله دستوريا لمبدأ المحاسبة والتتبع والترصد كما جاء في توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة. فالمسألة إذا هي مسألة إحكام الحكامة وهذه الأخيرة يحكمها عنصرين: المحاكمة والمحاسبة من جهة والضمير الحي الوطني القادم والصاعد من جهة أخرى وليس ذاك الضمير الباهت والخاضع للسكون والمشبع باقتصاد الريع والامتيازات والإفلات من المحاسبة. فلتتكتل الأحزاب كما يحلو لها، بانسجام المبادئ أو بدونها، بانسجام المصالح أو بدونها، فلن تبلغ مبتغاها، أي الهدنة أوالسلم الاجتماعي، إلا ببروز حقل سياسي يخدم مصالح الشعب وببروز نخبة شابة المبادئ وحديثة الرؤيا منسلخة تماما عن الممارسات النخبوية والأنانية والفردية التي وما زالت تقصيها من المشاركة (ذلك أن الإنفراج الذي طل مؤخرا لم يشمل من كان يجب أن يشمله ويحتضنه ربما لكون الباب لم يفتح على مصراعيها بعد أو لأمر لم يكشف عن فحواه بعد ...أو لكون الانفراج ما زال فتيا وما زال لا يعرف من معه ومن ضده وبالتالي وجب التأكد من إمكانية وقدرة من يلج بابه على فهم الوضع وخصوصا لديه من الشجاعة والقوة ما يمكنه من الدفاع والصمود أمام عراقيل أعداء التغيير) في بناء المغرب الجديد: مغرب المجتمع المدني اليقظ والحي، مغرب الديبلوماسية المدنية الموازية (غير تلك الحالية التي باتت تنعت ب"السياحية")، مغرب الحكامة الأمنية، مغرب الفرص المتكافئة، مغرب الاعتراف بالمؤهلات وبالقدرات والاستحقاقات...، مغرب السلم الاجتماعي والعدالة اللذان يضمنهما الاستقرار السياسي لتتلوهما الرفاهية الاقتصادية. ---------------------------- * د.حبيب عنون - باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية