بياض ضد فيروس السلطة: الكشاف في تأويل تحليقات النغاف! "إننا لا نرى المرئي إلا عندما نعرف اللغة " ميشيل فوكو يعرفه الفلاحون في مواسم الحرث رفيقا و مؤنسا يكسر عليهم عزلة الحقول ،وتستأنس به البهائم في استكانة الأيتام مطهرا لظهورها من الأدران ومخلصا لها من شر الطفيليات اللئام ....، يغادر المدن نهارا كي يعود للمبيت على أشجارها عندما يواري الغروب الشمس مؤذنا بإرخاء الليل لسد وله ،الكثير منا لا يتحمل إزعاج صوته ،وغالبا ما يفسد على العشاق البخلاء خلواتهم التي لا تنقضي على كراسي الحدائق العمومية، و التي يضيف لحراسها مهام طرده منها لمهامهم الأخرى التي لا تنتهي كلما عفر بصقه أرجاءها ، مقبرا كل مجهوداتهم لإظهار رونقها .....، ذاك هو طائر النغاف بجسده الضئيل المكسو بالريش الأبيض ، المنتصب على قائمتين طويلتين ، المتمايل في خطوه ، شموخ رأسه لا تقطعه إلا انحناءة البحث عما به يسد رمقه ، لايطير منفردا إلا لماما ،بل على حياة الجماعة و المشاركة في السرب تجده مداوما . تلك هي الصورة النمطية لهذا الطائر، و قد اختار في مدينتي أن يضيف إليها أو بالأحرى أن يتجاوزها مكسرا إطارها، لابسا حلة نضالية ،في زمن عزت فيه قيمة النضال بين البشر ،لتمارسها أسراب الطير ،فقد تكون الطبيعة تود تقديم درس لنا في السياسة بعد أن أفل "المعلمون" من سمائها وعمر البريق الزائف للانتهازيين و الوصوليين أرجاءها ،و امتلأ فضاؤها بأصداء أفواه تصنع خطابها من نشارة الخشب ، و تنحت استراتجيها من "افلام الكارطون " التي تحترق من أول احتكاك لها بالواقع ، و لا مشاحة في ذلك ، فقد كانت الطبيعة عبر التاريخ كتاب عبر و ديوان مبتدأ و خبر. و كل من التمس النجاة، أرهف السمع لصوتها ،و أطال التأمل و الروية في آياتها ،الم يكمن سر عبقرية اليونان في شكل العلاقة التي نسجوها مع الفيزيس (الطبيعة)، الم يطمعوا في بناء مجتمع على مقاسها ، وأدركوا الخير كل الخير في محاكاتها .....،و مع مطلع فجر العلم الحديث عادت الطبيعة للانتصاب بكامل جلالها ، لكن في حلة جديدة تتناسب مع تقدم الفهم الإنساني ،الم يقل غاليلي ، كأبرز وجه قد معالم العلم الحديت من كيمياء حياته ومعاناته ، بان الطبيعة كتاب مفتوح لكن حروفه لا يقوى الكل على فك شفرتها ....،هذا دون أن نعرج على تيارات أدبية أخرى كالرومانسية مثلا..... اتساقا مع هذا التقليد ، ألا تكون أسراب النغاف البيضاء رسائل تبعثها الطبيعة و ما علينا إلا اقتفاء حركاتها و سكناتها, لنلج محتواها الدلالي ،فأي مخزون دلالي ممكن تكنزه أسراب النغاف في تموجاتها المسائية بحثا عن المبيت ؟ منذ أمد ليس بالقصير و العين تترصد مسارها ، باحثة عن أدنى هنة قد تمزق خيوط الصلاحية في شباك التأويل ،إلا أن الرتابة و الانتظام كانا هما السمتان الطاغيتان ، إذ لم تخطئ الأسراب هدفها أبدا ، بل عند كل المساءات يتجمع أعضاؤها متجهين في شكل فيالق باحثة عن المبيت إما إلى تازة القديمة بمحاذاة بناية العمالة أو إلى الأشجار المتاخمة للمستشفى الإقليمي (ابن باجة)،أو إلى تلك المجاورة لمبنى المحكمة الابتدائية ،و تحديدا عند نقطة التوزيع الخاصة بشركة الطاديس ،فهل هي الصدفة و رمية النرد هما من شاءا لهذه الأسراب أن تنتقي هذه الأماكن تحديدا ؟؟فمن البناء الضام لسلطة الوصاية الماسكة بخيوط اللعبة المتحكمة في السياسة الترابية ،إلى البناء المحتضن للممارسة التي تعيد ترويض الأجساد العليلة ،و تحديدا مركز تصفية الدم الذي يشهد تدخل أكثر من يد لاهية في ظلمة الكواليس و منهما إلى الفضاء الذي يحوي تجليا لسلطة القضاء كقطاع يجمع الكل على فساده و ضرورة إصلاحه ، ومن ذلك إلى نقطة توزيع لشركة تبيع السم الناخر للأبدان ، المستعبد للنفوس . و لنا الآن أن نتساءل عن الوشيج السري الذي يلم شتات هذا البرزخ المكاني ؟ إن العين الفاحصة لن تخطئ حقيقته بالرغم من تلونه ،انه وشيج السلطة الذي يخترق شاقوليا و أفقيا هذه المجالات ومن خلالها كل المجال الاجتماعي ، بدءا من سلطة الوصاية التي توجه الكل ،وصولا إلى خلق أجساد طيعة (المستشفى و المحكمة المصدرة لأحكام تطوع الأجساد عبر تجربة السجن ونقطة الطاديس الموزعة للسم القاتل للاستقلالية الذاتية و الراعي لبذرة التبعية في نفوس المدمنين )،فهل تكون رؤوس النغاف على صغرها مفخخة ببوصلة فوكوية (نسبة الى مشيل فوكو) تقدرها على تتبع الاعيب السلطة وتجليها الميكروفيزيائي في وجهه التازي ومن خلاله المغربي ،الم تسمى وزارة الداخلية بأم الوزارات ،و كانت آلة مخزنية ضخمة لمركزة القرارات ،و صنع رقعة تهيئة المجال بمقص امني لاتنموي ،لازالت آثاره بادية دامية نازفة رغم محاولات الانقاد و التجاوز المستمرة ،ألم تطبع شخصية إدريس البصري تاريخ المغرب المعاصر على كل المستويات و الصعد، وكانت عيونه وأياديه السرية مبتوتة في كل مكان ، وما كان له ذلك لولا هذه الوزارة التي ليست كمثيلاتها ، ألم يكن أمر هذه الوزارة و الخلاف بصددها سببا في تأجيل التناوب التوافقي من مطلع التسعينات إلى أواخرها ، وأخيرا وليس آخرا خروج الشخصية المثيرة للجدل و التي تريد إعادة رسم ملامح المشهد الحزبي المغربي من جبتها ، و إن كان السؤال الذي يطرح هو هل الهمة قادر فعلا على نفخ نوع من "الهمة "في المشهد الحزبي المغربي و تجديد الثقافة و الممارسة السياسيتين، أم انه في الحقيقة لا يعمل إلا على الإتيان على ما تبقى في الواقع الحزبي المغربي بعجلات جراره الضخمة ، فمع الالتحاق المتزايد لمواكب الانتهازيين كجيش جرار ،قد يستحيل جرار الهمة إلى جمل لا يفعل شيئا لأن ما يحرثه يتفنن في دكه ،فهل النفس سيتجدد برئات علاها صدأ الانتهازية و هلم سوءا و سقوطا أخلاقيا في أحزاب أخرى ، فقد يموت عازف المزمار و تظل أنامله متلاعبة ، فما بالك إن تعلق الأمر بتغيير العتبة و ميدان اللعب فقط ؟؟ إن كان ذلك عن الهدف الأول لطائر النغاف ، فان هدفه الثاني لا يخرج عن تصيد دبيب السلطة وان تغير لحنه و وتنوع رجعه ، فالمستشفى مع أنها مكان استشفاء هي في ذات الوقت مكان لترويض الجسد و خلق كيانات طيعة ، وهي السلطة التي تتوسط بين الذات و نظرتها إلى جسدها ؛ولك أن تقارن بين نظرتك إلى جسدك قبل و بعد زيارة هذا المكان ،ألا يملك هذا المكان القدرة على تحويل حميمية علاقتك بجسدك إلى متن مقروء ،وهذا ما يفسر حتى العنوان الفرعي لكتاب "فوكو" "ميلاد العيادة "وهو" حفريات النظرة "، فعند و لوجك لمبنى المستشفى و إسلامك الجسد لأطره تفقد السيطرة عليه ، لأنهم هم الذين يتولون سلطة بسط علامات الأمراض و إلقاء الضوء على أعراضها ،ولهذه الصورة تضاف النمنمات المغربية حيت تستحيل المستشفى و محيطها إلى مكان لإذلال المواطن و تمريغ كرامته في الوحل ، فكل زيارة إليها تشكل مناسبة كي يعرف صورته الحقيقية وكم هو حقير القيمة، إن لم نقل عديمها في ميزان المواطنة ؛ كما تشكل صفعة تعيده إلى رشده كلما استبدت به الأوهام وحلم بالعناية الموفورة بصحته ، هكذا تكون كل زيارة لهذه المؤسسة مناسبة لتنكأ الجروح السيكولوجية كي تواسي شقيقاتها العضوية في النزيف ،أضف إلى ذلك عدد اللاتي أنجبن مواليدهن على أبواب المستشفيات في انتظار و لوجها الذي يستعص ،و عدد أولئك الذين ألقى عليهم المنون قبضته قبل أن يحتموا بأسوارها ، وفي المستشفى موضوعنا حدثت قصة مفجعة سرت بذكرها الركبان وهي تلك التي تخص الفتاة التي ولجتها حالمة بالعافية فإذا بها تغادرها فاقدة لنور بصرها بعدما اقتلعت عيناها من دون سبب مرضي يقتضي ذلك . بعد ما ذكر وغيره كثير ،ألا يكون هذا المكان مجالا لتجلي كينونة السلطة ؛ فبعد أن يكون المواطن قد اعتقد واهما في انه خلف صورتها الواضحة الفاضحة وراء ظهره ، تعود لتفاجئه و قد تزينت بالوزرة البيضاء . وطبعا لسنا في حاجة إلى التدليل على نفس التجلي في المحطة الثالثة ( نقطة توزيع الطاديس) للنغاف ، فمبيته إدانة واضحة للشكل الذي تنأى به كف الرعاية بعيدا تاركة الأنياب السافرة لسلطة المال و المصالح الاقتصادية التي لا تلتفت إلى الإنساني إلا لأجل الدعاية و توسيع السوق و الزيادة في الطلب (الخوصصة) ،فصق النغاف هنا اطاكي بامتياز ( بالمعنيين معا: الهجوم و النسبة إلى منظمة أطاك )،كما أن المادة التي تسهر هذه البناية على توزيعها لا ترعى إلا بذور التبعية باعتبارها الصورة المرئية لفعل التسلط ؛أضف إلى ذلك كون التدخين مناسبة لتدجين التمرد فجمر الغضب لا ينتج هنا إلا دخانا تنفثه الأفواه و الأنوف.....،وغير بعيد ينتصب مبنى المحكمة حيت يرقد الفعل القضائي الواهن المفترض أنه الرافعة الأساسية لكل إصلاح مجتمعي ،لكنه في المغرب أخلف الموعد حتى مع إصلاح ذاته ؛ فالقضاء المغربي مشتل لتجلي الشطط ولتحكم قيم أخرى غير العدالة في إصدار الأحكام ، أحكام توجه المدانين لتجربة السجن كمجال آخر لتجلي الفعل المخاتل للسلطة "فالسجن يستعيض عن الجانح بشخص آخر ، و خلال الاستعاضة ،ينتج الجنوح أو يعيد إنتاجه ،في الوقت ذاته الذي ينتج فيه القانون السجناء و يعيد إنتاجهم "(جيل دولوز المعرفة و السلطة ،ترجمة سالم يافوت ص 70) فالسجن أبرز آلة سلطوية لإنتاج أجساد طيعة وهو ما ينكشف حتى من خلال عمرانه و هندسته كما أوضح ذلك بإسهاب ميشيل فوكو في كتابه " الحراسة و العقاب ". ألا يحق بعد هذا لهذا الطائر المغوار أن يصق كي يعين الورم المسرطن للسلطة حتى يعرف كل بصر شارد و نظر تائه أين يجب أن يستقر .وتبقى الحكمة الأوضح لهذا الطائر هي ستره لمؤخرته تحت ريشه عارفا أين ومتى عليه أن يرسل فضلاته ، هذا في الوقت الذي يفضل فيه بعض ،إن لم نقل اغلب أفراد الجيل الجديد ،المستجيبين لآخر صرخات الموضة ،المنكشفين تحت ومض آخر برق في سمائها ،النضال في سراويلهم ،لكن هذه المرة إلى أسفل ،حتى حل علينا حين من الدهر، أصبحنا فيه نرى بأم أعيننا مطلع الفج العميق لمؤخراتهم ،فان كان أسلافنا قد طرحوا إشكال التقدم و الرقي ،كإشكال لازالت خيرة نخبتنا المفكرة تحاول الإجابة عنه ،فان هؤلاء قد اختاروا معالجة هذا الإشكال بطريقتهم الخاصة ،بحيت قلبوه من إشكال الرقي في مدارج التطور ،إلى إشكال إنزال (ليس الإنزال بمعناه التعبوي )،بل إنزال السراويل رويدا رويدا و شيئا فشيئا عن مخارج ( عفوا مدارج )التقهقر ،حتى انك تخال الواحد منهم مصابا بالإسهال ،ذاهبا على عجل إلى المرحاض ،لا متسكعا على راحته في الشارع فان كان المناضل المعتقل في زمن ولى أول ما يتفضل بسؤال رفاقه في المعتقل عنه ، عند الزج به فيه هو " القرعة "،وجلا من الجلوس عليها ،وكشف مواطن الحياء من جسده ، فان الأشاوس من شبابنا يكشفون عنها طواعية ،ربما رغبة منهم فيما يقوم مقام القرعة ،و ما هذا إلا ظن و العياذ بالله و إن بعض الظن إثم ،انه آخر ما خلفه على الأجساد الشابة الهوس و الجنون ،إلى الحد الذي يجعل الرائي منا تذهب به كل مذهب الظنون ،و لله في خلقه شؤون. ألا يجب بعد هذا على أهل المدينة ، خاصة أولئك الذين يملئون أرجاء الشوارع بدوراتهم المتاهية عند الأماسي ،والذين يطول جلوسهم حد عودلة كراسي المقاهي من تلصصهم على عورات القاصي و الداني ،ونميمتهم كتنفيس عن ميلهم السادي ،الا يجب على هؤلاء أن يصطفوا عند كل مساء رافعين أنظارهم ،التي لم يسددوها من قبل إلا لاكتناز أرداف النساء ،مترقبين طلائع النغاف مرحبين مرددين:"هاهو جاي بجنحاتو تايشالي أللا (السلطة)،يا المدينة ، يا المدينة نغافك ولا في النضال عروس ،دار لي ما قدو عليه صحاب الكسكس (الأكلة طبعا) "و للنغاف جدارة ذلك على الأقل لأنه أفصح عما هم له ضامرون ،وبمعاناته يتأوهون ، مسددا صقه لما هم له متجنبون حتى بنظرات العيون. و لنا أن نتساءل لماذا تأتينا الرسائل من طائر حامل لهذا اللون ،أليس لونا يشهد على جدلية الموت و الحياة في ثقافتنا ؛لون نتزين به آناء الفرح و نتشح به أطراف الحزن ، نلبسه مواليدنا و عرائسنا و نكفن به موتانا،يلبسه الفقهاء محبو الولائم و يحمله ،علامة دالة على الرغبة في العمل، من هم في المختبرات أو المستشفيات ،كما يزين البرلمان عند افتتاح الدورات ، وعند تقديم الولاءات و فروض الطاعات ،وان كان الأبيض بصريا-على الأقل –هو الحاوي لكل ألوان قرص نيوتن،فمعنى ذلك انه القدرة على حمل كل الألوان ،وذاك هو حال السلطة ،بل و حال قيمة الحربائية التي أصبحت طافية على السطح الاجتماعي وموشية للمشهد السياسي ،ولعل ذاك هو السر في اتشاح النغاف بالبياض فالكاشف لابد أن يحمل شيئا من خصائص المكشوف وقديما قال الشاعر : وداويني بالتي كانت هي الداء .