الموضولو رقم 3 كانت بداية مقامي بتييرا دي ألميريا في الموضولو رقم ثلاثة، كان عبارة عن بيت محكم الصنع من الزنك مساحته أربعة على مترين ونصف ، وعلى ستة أسرة بعضها على بعض وإلى جانبه دوش يدفأ بالكهرباء ومرحاض واحد وفرن للطبخ صالح للإستعمال إلتقطه أحد المجندين من إحدى المزابل الرائدة وكان نقطة قوته على باقي عناصر القبيلة، بحيث أن كل من يخل بنظامه الخاص يمنعه من استعماله إلى أن يستغفر ربه الذي بعثه إلى أرض المحلم، كان "عزابو" أقدمنا ، وكان يفاخرنا بأقدميته، وكان لايسمح لنا بمناقشته في المعلومات التي تخص إسبانيا ولايسمح لك أن تتكلم فيها حتى من باب المعرفة التاريخية، وكثيرا ما يتكلم عن فرانكو على أنه الملك السابق لإسبانيا، فكان تشريفه لفرانكو بهذا المقام يثير فينا السخرية ، لكننا لانتجرأ على الضحك الذي غالبا مايتفجر فينا فنضطر لنؤوله على أنه إعجاب منا لإحدى مقاماته العجيبة، كان يقرأ علينا بعضا من شعره وهي محاولات هستيرية صارخة لايربط بينها رابط إلا مايحاوله هو أن يشرحه لنا في هلوسته الخمرية، كانت تجتمع فيه جميع البليات المعروفة : مدخن للحشيش، يستعمل الكالة، يشرب الخمرة بجميع أنواعها وكان أيضا يدخن الكيف المغربي ، وأحيانا إذا توفرت، يستعملها جميعها، كان في الحقيقة لوحة سريالية بكل المقاييس، وكان ما يخيفنا فيه أنه يختزن في صندوق تحته بعض الأسلحة البيضاء، وفي سعراته الخصومية كان يخبرنا بأنه كان صديقا للغجر ويمتلك مسدسا مخبئا في مكان ما،ويهددنا بأنه سيشهره في وجهنا يوما ما كما فعل في حادثة المسجد: كانت مجموعة من المهاجرين الذين يحتلون قصرا مهجوراقبالتنا، قد أنشأوا بالإضافة إلى إصلاح بعض البيوتات المهدمة بيتا آخر يستعملونه كمسجد لهم يقيمون فه الصلاة، وحدث أن حل به ذات يوم عند قدومه من مورسيا عندما لم يستضفه أحد من سكان "القصر" وزيادة منه في الإحتياط ذهب إلى صديقه القديم ليستعين به في حالة ما إذا أجبره سكان "القصر" بالإفراغ من المسجد، إلا أن صديقه هذا لم يكن مهيئا لذلك مذ فقد صديقه الأول "الطويل" الذي اغتيل في عملية ابتزاز في إحدى الدوريات التي يقومان بها من طرف بعض المهاجرين، فمنح "لعزابو" بندقية صيد ليستعين بها على أعدائه، وتم له ذلك عندما جاءه أعيان القبيلة يأمرونه بالإفراغ، فما كان منه أن أشهرها في وجههم دون تمييز محدثا ضجة وصلت إلى جميع السكان المهاجرين إلا السلطات الأمنية، كان المضحك في الأمر أنه فيما كان يسدد البندقية إلى مهاجر هو في قامة الغوريلا، لم يصبه بأية واحدة من الرصاصات التي أطلقها عليه، إلا أن جرأته منحته لقب "عبابو" الكولونيل المغربي الذي حكم المغرب مدة الظهيرة لينهي حكمه الخفيف في مواجهة على الطريقة الأمريكية أمام جنرال آخر ليسقط جريحا بعد أن قتل غريمه ويأمر عقيده بأن ينهي حياته هو. فمنذ حادثة المسجد تحول عزابو إلى "الرفيق عبابو" وكان الجميع ينادونه بهذا الإسم حتى يومنا هذا. كان الموضولو رقم ثلاثة في الحقيقة ثمرة تتضحيات المهاجرين في أحداث إليخيدوالمعروفة وكان يشرف عليه الهلال الأحمر الإسباني ، الهيأة الوحيدة التي التي امتصت الإنفجار الإجتماعي وذلك في مساهمتها القيمة في إرسال المهاجرين "الثوريين" للعمل بمناطق الشمال، فيما بدأت الباطرونا المحلية تبحث عن عمال يقر فيهم الجميل الذي أغرقوا فيه عمال الضاحية الناكرين مما حدى بالحكومة اليمينية المتعاطفة مع السكان بالسفر إلى دول أمريكا اللاتنية لجلب العمال من "أبناء العمومة". فجأة استيقظ ضمير الحكومة اليمينية وتذكرت أمريكا اللاتينية التي أغرقتها بالتخلف والإستغلال أيام عهود الغزوات المجيدة عندما كانت الممالك تحكم المستعمرات بقانون النزوات، استيقظ حنين الحكومة فجأة فرأت أن تغرق أبناء عمومتها في جميل الشغل تحت سقف الحمامات التي تحميهم من لفحة الشمس. أما نحن الوافدون الجدد، فكانت مصيبتنا مزدوجة، فمن جهة مازال السكان مضربين عن تشغيلنا مما يعرضنا إلى المجاعة الحتمية لولا السرقات الظريفة التي كانت تسطو على الضيعات أثناء الليل ، سرقة المنتوجات المحلية كالطماطم والبتيخ والقرعة والدلاح وما إلى ذلك أما اللحوم فكنا نستوردها من بعض المراعي القريبة منا، أما البرجوازيون منا الذين أنعم الله عليهم برضى بارونات التجارة الدولية ،تصدير الحشيش المغربي، فكنا نتمتع ببعض كرمهم بعد كل عملية إنزال في إحدى مناطق الشاطئ فكانوا يأتون إلينا ليحتفلوا بالنجاح الباهر أو ليترقبو إحدى عمليات التصدير الليلية، وكان تواضعهم المنقطع النظير أنهم يقبلون استضافتنا لهم ولو في تلك المربعات الضيقة عملا بقول حاتم المغربي :"الضيف مايشرط أومول الدار مايفرط" كانو يشتركون معنا أيضا حتى في غطاء النوم، وأحيانا وتجاوزا لضيق الحال، وتخفيفا على راحتنا، كانوا يفضلون النوم في النهار ويذهبون إلى الموانئ الطبيعية في الليل. ومن جهة أخرى كنا بمثابة محطة استراحة للمسافرين من وإلى المغرب، كانت ساحة الموضولو تعج بالسيارات،القادمون من المغرب لاتحلوا لهم صلاة الجماعة إلا في الموضولو وفي الصباح يتممون رحلتهم إلى الشمال وكذلك كان القادمون إلى موسم العبور المغربي، أما المتصوفون منهم فكان يحلوا لهم أن يحتفلوا بقداس الخمر عندنا يستمتعون بأحاديث التراث العربي من زمن الخمريات في المشرق أو الأندلس التي كان يلقيها أحد المهاجرين الملاحدة، وإذا ما صادف أن يلتقي الفريقان، يلزم كل فريق حدوده يبدأالمسلمون بإعطاء دروس الإرشاد والتوعيظ التي تلقفوها في الشمال من وحي الإسلام الأروبي أما المتصوفة فيستوعظون بالأئمة الجدد وغالبا مانرى أن أحدهم قد استسلم للوعيد وبدأ صلاته الأولى في الصباح، لم أر في حياتي أجبن من المتصوفة المهاجرين وأتعسهم على الإطلاق، بسهولة فائقة يملأون جعبة المرشدين بالحسنات وينعون طقوس التصوف بسرعة فائقة. أما صاحب أدبيات الخمرة فيلوذ بالصمت إلى أن يذهب الجميع، ليبدأ طقوسه من جديد، وذات يوم أبتلي "عبابو" بالصلات ، وبعد يومين من العبادة والتقوى بدأ هو الآخر يرشد الآخرين فما كان من الملحد أن خر ضاحكا ، سأله عبابو عما يضحكه فرد عليه بأنه تذكر شيئا عن كيفية صلاة جدته الأمازيغية. وما علاقة ذلك بي تساءلت مع نفسي هل تقرأ آياتا من القرآن في صلاتك، فأنا أعرف أنك لاتحفظ حتى الفاتحة ولكن أكتفي بالآيات التي أعرف ليس كجدتي إذن التي كانت لاتحفظ ولو آية واحدة، وعندما سألتها بما تهمسه أثناء قيامها قالت بأن فقيه القبيلة قال لها بأن النية هي الأساس في كل عمل ،قال لها انظري إلى ذلك الجبل، إنه أكبر منا، فقالت، نعم، وقال، وذلك الآخر أكبر منه وذاك الآخر أكبر منهم جميعا إذن فالله أكبر من كل شيء فما عليك إذن إلا أن تفكري أثناء قيامك بهذه الطريقة وسيغفر لك ربك. ضحك عبابو مليا فقال : الفكرة ليست قبيحة، مع أني عندما أقوم بالصلاة أشعر بأني لست مقتنعا بعد، مازالت صورة "الجبلي" و"عبدو" المنافقان تختلج ذاكرتي ، هل تتذكر يوم تخاصما حول السجادة عندما تركها عبدو في الممر. الشيطان هداك، مازال تايدور ليك فالراس، رد علية الملحد. كان عبدو يصلي في الممر المؤدي إلى الضيعة عند المغرب ولما تم من صلاته ترك السجادة لألجبلي كي يصلي فيها إلا أن الجبلي لم يعجبه الأمر لأن الشيطان، حسب اعتقاده، سيجلس عليها عندما تترك مفروشة، فتخاصما الإثنان مدعيا كل منهما أنه هو الذي على حق، فامتحنا الإثتين إلى الرفيق الملحد الخبير بالتراث ليخبرهم بأن المفترض في الصلاة أنها تقام في الطهر وأن الشيطان لايقترب الطهارة بل يعاشر النجاسة فما كان من الاخوين في الله أن استكنا للحكم. كان عبابو يكرههما كثيرا لأنهما وشيا به عند مكتب الصليب الأحمر مشتكيين من صداعه أثناء السكر إلا ان الصليب الأحمر رد عليهما بأن الجعة غير محرمة في إسبانيا ، وما عليهما إلا أن يبحثا معه في صيغة التعايش السلمي. ومنذ ذلك اليوم بدأ يحمل لهما الأحقاد والكره إلى أن تفجر الوضع بينهم في الأسبوع الأول من رمضان عندما انقطعت عنا زيارات الكرم العابرة في الإتجاهين، ونفذت منا سلعة العشرة والمدد حيث امتنع الأخوين المحظوظين بالعمل بالمشاركة معهما في العشرة لأن الرفاق ومعهم عبابو أعلنوا ثورتهم عن الملة والدين واحتفظوا بوجبات الأكل في مواعدها العادية الشيء الذي لم يعجب المصليين واعتبروه مخلا بالإحترام الواجب في حق الشهر المبارك، فكانت اللعنة كبيرة على الرفاق العاطلين. كان عبو يختزن البيض في كيس معلق أمام جبهته لتبقى أمام عينيه دائما وباقي المواد في علبة تحت سريره، وكان، ذات يوم متكئا في سريره ولما ناداه مشغله ليعلمه بعمل الغد، قفز مسرعا إليه، ولما عاد إلى سريره وجده ملطخ بمح البيض، أشعره عبابو عندها بأن ذلك من علامة اللعنة الرمضانية ، فضحك الجميع منه. ومنذ ذلك اليوم بدأت اللعنات تتوافد علينا ، زارنا في اليوم الموالي أحمد الطويل قادما من مدينة مورسيا مصحوبا بأحد أصدقائه، كان جائعا ويريد تناول شيء بحث عن أي شيء يسد به رمقه فلم يجد شيئا، وتفاديا لألا يلمسا زاد الأخوين، أشرت إليه بأننا لانملك شيئا وبأننا نعيش على النباتات (الخضر التي نسرقها ليلا من الضيعات)، نظر إلي مستغربا، ثم أشار لصديقه قائلا: هيا نذهب إلى حالنا قبل ان يموت أحد هؤلائي جوعا فنتهم فيه، ثم فكر برهة متداركا الأمر فقال لصديقه بأمازيغيته البليغة: يالاه اذ ندبر إميدناذ مغا تشين (هيا نتدبر شيئا لهؤلائي الناس يأكلونه) خرجا في فسحتهما الغامضة إلى أحد الحقول القريبة، حيث كان أحد الرعاة يرعى قطيعه هناك فاقتنصا منه عنزة وذهبا بها إلى داخل الممرات الضيقة بين الحمامات البلاستيكة وذبحاها هناك وتركاها إلى أن حل الظلام ليأتيا بها ليلا ليحتفل الجميع بالفريسة. كان المهاجرون السابقون لنا أكثر جرأة في الإتيان بهذه الأعمال أما أنا فكانت أول غزوة شاركت فيها كانت جني بعط الطماطم من إحدى الضيعات لاستعمالها في الحريرة التي كنت أتقنها بامتياز، ولما كان اعبابو يفتح ثقبا في الجدار البلاستيكي ، كنت أنا مرعوبا بالخوف، ولما دخلنا من خلال الثقب كان همي الكبير أن تتم العملية بسرعة، لذلك كان كل ماكتسحته من الطماطم أخضرا لم ينضج بعد، وكنت خلال العملية لم اتنفس الصعداء حتى اقتربت من الموضولو مهرولا نحو حميمية الضيق، كان الفضاء ضيقا بامتياز بوابة الضيعة التي يقع الموضولو في ملكيتها، الجدار البلاستيكية التي تلفنا من كل جنب ظلالها الرطبة برطوبة الأسمدة المذابة في مياه السقي، بركتها المائية التي تسبح فيها الأواني البلاستيكية وقطط شاردة مصابة بعدوى التوالد التي تلقتها من الجنوب وكلبة عبابواللقيطة وحصار اسمنتي كنا نبنيه حولنا من رجال الحرس المدني الذي بدأ ينتصب في الممرات على ممتطيين فرسانهم احيانا وأحيانا في سيارات الدفع الرباعي ، كان الحديث الشائع بيننا هي الأخبار التي يحملها إلينا المهاجرون الشرعيون عن دوريات الشرطة في المدينة ونقط المراقبة المحتملة وكذا عدد الذين طردوا وكانت إشاعات في البعض منها يراد بها ترويضنا كالبهائم وإخضاعنا المطلق لسلطة المهاجرين القدامى وما أن تزورنا دورية من الحرس المدني بالموضولو حتى نبدأ نحن في تهييء نفسيتنا المهزوزة لكل الإحتمالات وتقبل الخصارات المادية التي دفعناها في كل الرحلة، بصدر رحب مستسلمين لقدر الحرس المدني، وكان ما أن ينطق أحدهم بأن العملية لاتتجاوز إحصاء روتينيا يقومون به، حتى نستعيد الأنفاس، وما أن تذهب الدورية حتى يستقيم الضيق في أفقك مرة أخرى: " الحكومة اليمينية تستصدر تشريعات جديدة حول المهاجرين السريين" كان العنوان العريض الذي تتناقله وسائل الإعلام إضافة إلى ردود الفعل المتناقضة من الأحزاب والجمعيات، كل حسب موقفه من الحكومة، منهم من يتكلم عن لادستورية التشريعات الجديدة، ومنهم من يهدد في الذهاب بعيدا حتى المحكمة الدستورية، أما نحن فكنا نتلقى أبجديات اللعبة الديموقراطية في بلاد الحرية ونأخذ من الجدل الدائر كل ما يناسب طموحنا العارم للعيش في جدار الغربة ، نكره اليمين الذي يكرهنا ونعشق اليسار الذي يشفع لوضعنا ،لم ندرك بعد أن الجدل المفتعل ليس إلا زوبعة رائعة تتقدم التشريع وان الأخذ بالامور جديا يأتي عندما يصوت البرلمان. كان لدينا جهاز للتلفاز إلتقطه أحد المهاجرين الشرعيين في منطقة الروكيطات، وجاء به إلى الموضولو مدعيا أنه اشتراه كي نشارك في أداء سعره التي تقيأه علينا والتي دفعناه كلنا إلا صديقنا الملحد،دفعناه كي نستمتع بطيف المذيعات الشقراوات التي تحبل بها القنوات، فوضعه الصديق في زاوية ما بالشكل الذي لايستطيع الملحد أن يستمتع بالرؤية إليه، ولم يكن هو الآخر مهتما ، كان يتجاهل وجوده إلى أن انتبه صاحب التلفاز بحنكته الإبتزازية إلى مكرالملحد الدفين، لأنه كان الوحيد منا الذي يتقن اللغة الإسبانية ولم يكن في حاجة إلى الصورة، لذلك أرغمناه على دفع حصته وإلا لن نشغله حتى يدفع أتاوته وكان منه أن استسلم لابتزازنا الجماعي لنعالج وضع التلفاز من حيث يستفيد منه الجميع وهكذ بدأنا نتلقى تلك الأبجديات الأولى للعبة سحرتنا في المغرب وأردنا أن نعايشها بأنفسنا . كان حديثنا اليومي متخما بالتسوية القانونية لوضعيتنا، وكنا نرى فيها المفتاح السحري لوداع طوعي لغابتنا البلاستيكية التي ينعدم فيها الأمن، كان الخوف يحدقك من كل جنب، من ضيوفنا الرحل الذين يأتون من الشمال او الجنوب من السرقات الصغيرة والكبيرة التي تؤمن الغذاء، ومن الاهالي من السكان الفاشيين أيضا لأننا كنا نسمع أخبارا لانتحارات مجانية هنا أوهناك من طرف المهاجرين، كانت تتم بنفس السيناريو تقريبا (فلان وجد منتحرا في مسبح الحمام)، كنا نستيقظ في الصباح، نذهب إلى الموقف ومنه إلى البحث المضني عن اصدقاء الإحسان للبحث عن سيجارة، وإذا كان لديك شيء من المال تذهب مباشرة لشراء السجائر على بعد ميل أو ميلين مبتدعا طرقا ملتوية لتفادي رجال الحرس المدني الذين تنبهوا للأمر هم الآخرين فأخذو يستعملون علينا المداهمة بالخيل بدل رباعيات الدفع ليتمكنوا من الدخول إلى الممرات الضيقة، وعندما نعود إلى الموضولو كان كل منا يحمل إلى الآخرين خرافاته الجديدة، كنا مازلنا لم نستوعب بعد الجدل الدائر حولنا، كنا نأخذ التصريحات الإجابية عن مسؤول في جمعية ما حول الظاهرة الجديدة التي نشكلها بمثابة الميثاق حول تسوية جديدة، وكنا نفرح لهذه التصريحات وننسج عليها تخيلاتنا الجديدة المبشرة لولادة جديدة، بينما هي لم تكن سوى وجهة نظر لأصحابها لاتسمن ولاتغني من جوع، كنا أيضا نتبادل المعلومات حول الضيعات التي لايحمل أصحابها ضغينة للمورو لنتسابق إليها في الصباح بحثا عن فرصة شغل وأحيانا كنا نزورهم في كل يوم بناء على الإحتمالات الممكنة التي بدأنا نستوعبها انطلاقا من المعلومات التي نجمعها حول بنية الشغل، بدأنا نعرف أطوار الموسم الواحد التي يتطلبها الشغل في الضيعات، أي أننا بدأنا نستوعب متى تتطلب الضيعة كثيرا من العمال ومتى تتطلب القليل منهم استنادا إلى مساحتها ونوع البضاعة المزروعة فيها وعدد العمال بها وكيف هو المشغل الذي يديرها، كانت هذه العناصر تمكننا من أن نخمن حول احتمالات الحصول على فرصة الشغل، فإذا كانت الضيعة مزروعة بالقرعة، كنا نعرف مسبقا أن الشغل فيها يتطلب نصف يوم من العمل يوميا،خصوصا إذا كانت مساحتها لاتتعدى هكتارا واحدا بينما نفس المساحة من الطماطم تتطلب على أقصى تقدير ثلاث عمال أو أربعة حسب كثافة المنتوج ويتوزع الشغل فيها بحسب كثافة نضج المنتوج وحسب الجو المناخي إذ أن الأيام التي تمطر تعتبر كارثة بالنسبة للمزارعين و هي الأيام التي يتلقى فيها يسوع سيلا من القذف والشتم رغم أن أكثر حافلات نقل منتوجاتهم تتصفحها صور مريم العذراء وابنها يسوع الذي تعلو هامته تاج من الشمس يشيع نوره إحالة إلى الهدى والإيمان. كان منا الذي لايبحث عن الشغل صباحا بمثابة نذير نحس للمجموعة وكان كل فراد من المجموعة إذا وجد شغلا عند احدهم يسأله عما إذا كان يحتاج عمالا آخرين ليجلبهم له من المجموعة وهو شكل من أشكال التضامن بين الأفراد للتعاون على التغلب على المصاريف اليومية وبهذه الطريقة كنا نستمد بقاءنا صامدين في صحراء البلاستيك، كنا صامدين أمام كل الهواجس التي كانت تحيط بنا والضغوطات والإكراهات التي كانت تمارس علينا سواء من المهاجرين القدامى أو الدوريات البوليسية أو الصراعات فيما بيننا أو حتى الصراعات النفسية التي يعيشها الفرد مع ذاته في علاقاته مع الآخرين أو مع وضعيته القانونية أو هواجسه المستقبلية حيث كلما طال بنا البقاء دون حلول بدأنا نختلق أشياء للإستجداء والتقرب إلى ما يريح النفس، لم نكن مستقرين على حالة واحدة، فكثير منا من انتقل من حالة المؤمن التقي إلى حالة الساخط المدمن على الخمر أو على التدخين، كان الملحد الذي قاوم ضغوط الأتقياء الرحل الذين كانوا يمضون استراحة المحارب عندنا في مواسم العبور قد بدأ هو الآخر يصطحب إناءه للوضوء للصلوات أما عبو الذي كان يفترش السجادة بعد رحيل الجبلي فقد كان يرسل معي نقودا معدودة خفية من الآخرين كلما ذهبت للتضبع لكي أشتري له زجاجات من الجعة ويأمرني أن أكتم الأمر على الآخرين، وأن أضعها في الثلاجة مدعيا أنها لي إلى أن انكشف أمره ذات يوم عندما كان منع عبابو من تناولها مدعيا أنها لي، وانه لاحق له في أخذها إلا باستئذاني عند عودتي وإلا سنخلق نوعا من الفوضى مفادها أن ذلك سيفتح الباب ، على مصراعيه للسرقات فيما بيننا أثناء الغياب، فما كان من عبابو أن أخذها رغما عنه مدعيا أني لاأتكلم في مثل هذه التفاهات، وعندما عدت أمرني عبو أن ألزم عبابو بشرائها مما وضعني في حيرة من أمري اضطررت معها إلى شرائها من جيبي الخاص حفاظا على ماء وجه عبو ليأتيني عبابو بها هو الآخر معلنا أنه يتفهم إحراجي وأنه يعرف أنها ليست لي وأنه تعمد فعل ذلك ليرى ردود فعله.لم يكن أي من المجموعة مستقرا في هواجسه، ولم يكن أي منا يتحمل الآخر إلا في حدود ما تلزمه العشرة المشتركة، كما أن المستويات الثقافية المتباينة بين أفراد المجموعة كانت تقحم كلا منا في عزلة ذاتية يفرضها على نفسه تحسبا للإسطدام وكان الواحد منا يمارس طقوسه بعيدا عن الآخرين إلا من كانت لديهم سلطة معنوية على الموضولو بفعل أقدميتهم، فهم كانوا يمارسونها علنا ودون إحراج..