يصر كل المتحدثين عن فاس على ربطها بالتاريخ والعراقة والثقافة وما هو رمزي، وهي مسألة صحيحة إلا أن الحديث عن ذلك فقط يغيب وجها آخر مميزا للمدينة عبر تاريخها، حتى ولو كان ذلك لا يريح نبلاءها. إنه الوجه البئيس الذي يعني فئة من الناس قدر لهم أن يعيشوا في جحور كالفئران يحاول الجميع أن يغطي على مآسي المعدملين في فاس البالي وهو ما لم يتحقق لأن رائحة وضعهم البئيس تفوح خارج كل الأسوار، وهذا بالضبط هو حال بيوت وعائلات عديدة في فاس القديمة وبن دباب وبن زاكور وسيدي بوجيدة وهو الوضع الذي يمكن التمثيل له بأحوال سكان دار بناني بعين باب الفتوح الشهير. مؤسسة البسطاء «دار بناني» هو اسم العمارة رقم 06 بدرب الحاج الحسين بناني زنقة 13 بمنطقة العطارين بباب الفتوح، عمارة من طابقين بها 19 بيتا وكل بيت هو مسكن لفرد أو أسرة من مجموعة من الأفراد يتوحدون في الفقر ووضاعة العيش. فمنهم العزاب والمتزوجون والأرامل ويمتهن المحظوظون منهم أبأس المهن ومن تبقى لا مهنة لهم. فيهم «الحمالة» و«المتسولون» أو «المنتسبون إلى «تجارة جوج فرنك»، بعض البيوت يعيش فيها تسعة أفراد على الرغم من أن مساحتها لا تزيد عن مترين طولا ومثلها عرضا. مأوى هؤلاء البسطاء ليس فيه سوى مرحاض واحد في الطابق العلوي وآخر في الطابق السفلي، وهكذا على كل واحد أن ينتظر دوره لولوج دورة المياه، بعد أن يغادرها من سبقه والمشكل الكبير الذي يشتكي منه الناس هناك هو قطع الماء الصالح للشرب عن هذه البناية منذ ما يقارب عقدا من الزمان، ونفس الشيء بالنسبة إلى الكهرباء، وما يعقد الحياة في المكان هو الانفجار الدائم لقنوات الصرف الصحي، وهكذا يصير الولوج إلى السكن الخاص مشابها للدخول إلى جهنم كما قال أحد الساكنين. عبد الغني هو أحد سكان البناية يحكي بمرارة عن بؤس العيش فيها وعن تشابه للأوضاع التي تفرض على كل جيرانه التعايش مع حياة لا تحتمل داخل مدينة يتحدث الجميع عن إسهامها الكبير في صناعة لحظات الفرح الكبرى في حياة المغاربة والوطن المغربي. عبد الغني كان يشتغل سابقا في مجال التصوير الفوتوغرافي والآن نسي هذه الحرفة واختار أن يكون حمالا لحاجات الناس ليكسب قوت يومه، يقول عن حاله: «أنا شبه عاطل ومهنة حمال لا تساعدني على تحسين وضعي الاجتماعي وهذا ما يضطرني للإقامة في هذا البيت المتواضع. أعيش لوحدي هنا وقد اخترت هذا الوضع لأنه كيفما كان فهو أحسن من أن أعيش مع أسرتي. فأنا واحد من أسرة يزيد عددها على الثلاثين. أبي تزوج مجموعة من النساء ولك أن تتصور معنى أن تعيش مع جيش من الإخوة. ما أعيشه وكل جيراني في هذه الدار ليست له أية علاقة بالحياة وبالمدينة. إن العيش في الغابة أحسن بكثير مما نعيشه في هذه الجحور. إننا نختبئ هنا من البرد والحرارة فقط، جدران العمارة مهترئة بل إنها مهددة بالسقوط عاجلا أو آجلا وضعنا جد حزين، وهو بعيد كل البعد عن الحياة الإنسانية لكن ما يؤلمنا هو أنه لا أحد يهمه النظر إلى أحوالنا، وأكثر من هذا فالجهات المسؤولة تنظر إلينا كأننا «بوليزاريو». ما يكرره عبد الغني أكثر هو أنه ليست لهم مطالب محددة يرغبون في توجيهها إلى المسؤولين غير طلب واحد «هو أن يأتوا بطراكس ويردموا فوق رؤوسنا هذه البيوت، إنه الطلب الوحيد الذي بإمكانهم تحقيقه بسرعة أما بقية المطالب الإنسانية فيعرفوها منذ زمان ولم يفعلوا أي شيء لتحقيقها». مرارة إحساس عبد الغني لها نفس الطعم في أحاديث كل السكان لأن ما يعنيه أن تذهب إلى سيدي الهيري أو سيدي ميمون لجلب الماء الصالح للشرب، وأن تضيء بيتك بالشموع وسط مدينة فاس لسنوات من الألفية الثانية، وأن تعيش كل مواصفات البؤس في أيامك جميعها هو طوفان المرارة بل المرارة التي لا يمكن أن يتصورها إلا من عاش أوضاعا مشابهة في دار بناني أو في باقي البنايات المهمشة والبئيسة في هذه المناطق. مضاعفة محنة الناس ما يقلق كثيرا سكان دار بناني هو النظرة التي يكرسها المسؤولون في التعامل معهم، فالجميع يعتبرهم زائدين عن حافة المدينة ولا يهم كل ما يقع لهم، لهذا ترفض شكاويهم حتى وإن تعلق الأمر بما يحدد ما تبقى من حياة لديهم، بعد أن دمر التهميش الجزء الأهم منها، وإلى هذا تشير شهادة عزيز الذي يعد أقدم ساكن هناك والذي يقول: «أنا الساكن الأول في هذه الدار وأقطن بهذا البيت منذ 1975 وأعيش هنا مع زوجتين وأربعة أبناء. كنت أشتغل حارسا للأمن بمدرسة بمقابل زهيد والآن أنا بدون عمل. نعيش هنا كل المشاكل التي يمكن تصورها والكثير من الصراعات تبدأ بين منحرفين وأشخاص غرباء في أماكن بعيدة وتنتهي عندنا في هذه العمارة وحين نشتكي للأمن لا أحد يأتي لنجدتنا. وضعنا أبأس من وضع القرى المهمشة ومن الأحسن أن نحسب على هذه القرى وليس على عوالم المدينة، فما نعيشه بعمق فاس ليست له أية علاقة بحياة المدينة، بل أكثر من هذا ما نعيشه لا يليق بالإنسان». الممر إلى الدار مظلم كما فناؤها ووحدها البيوت مضاءة بشكل خفيف، ليس لأن أصحابها يبحثون عن لحظات رومانسية ما، بل لأن ذلك يدل على وضاعة عيشهم، الجميع بالدار غير راض عن وضعه والكل يحس بالغبن والكثير من الحكرة لكن الغالب الله كما قال أحد الساكنين بالدار. عمي علي من سكان دار بناني يعلق على وضع الجميع بالقول: «نحن وراء الشمس، وفي الوقت الذي يتم ربط القرى والبوادي البعيدة بالكهرباء وقنوات الماء الصالح للشرب يتم حرماننا من ذلك ونحن وسط فاس. وضعنا هنا كارثي وبئيس ومحط بكرامتنا، وأظن أن وضعنا هذا بنظر المسؤولين هو من دون أية قيمة وربما يسيء إلى صورة المدينة والمجتمع ولهذا نقترح عليهم أن يحيطونا بسور كالمصابين بالطاعون ويرمون لنا الخبز من فوق. لا أحد منا في هذه الدار يملك وجبات اليوم الواحد فبالأحرى توفير خبز الغد. أحيانا نذهب إلى المسؤولين بمقاطعة باب الفتوح لنطالب بإصلاح قنوات الصرف الصحي التي تحول بيوتنا إلى مزابل حقيقية ومستنقعات فيواجهوننا بالشتيمة والسب كأننا لسنا بمواطنين». الرفض الذي يواجه به هؤلاء والمعاملة السيئة التي يعاملون بها في أيام المحنة يناقضه الموقف منهم أيام الانتخابات، فالجميع يؤكد أن المرشحين يفكرون فيهم مرة واحدة هي أيام الانتخابات لأن صوتهم مهم أما كل ما تبقى فلا أحد يرغب في سماعه وهو ما يجعل محنتهم لها طابع الحكم الأبدي ومعاناتهم بلا حدود.