يحاول الكثيرون إلقاء اللوم على نوع من الصحافة المستقلة، وتحميلها مسؤوليات كل ما يقع في المغرب الحاضر من تعثر في مسار الانتقال الديمقراطي، وفشل في التنمية وتراجع لمكانة وصورة المغرب في الخارج. ويرجعون تنامي موجة الاحتجاجات، وأخيرا حالة الانفلات الأمني، إلى هذا النوع من الصحافة عندما تفتح صفحاتها لأصحاب المطالب الاجتماعية أو حتى عندما تطالب بضرورة احترام كرامة المشتبه بهم حتى لو كانوا مجرمين عتاة، وصيانة حقوقهم حتى تضمن لهم محاكمة عادلة. لقد تحولت هذه الصحافة في عرف السلطة ومن يحذو حذوها إلى مشجب تعلق عليه كل النكسات والتراجعات والعثرات... وأصبحت مثل حلاق الحي في المثل الشعبي المأثور "طاحت الصمعة علقو الحجام"، أي كلما ارتكبت مصيبة فإن المتهم هو الحلاق والتهمة الجاهزة هي: الإعدام شنقا! ومع ذلك، تبقى هذه الصحافة والحرية التي اكتسبتها والجرأة التي بلغتها في طرق المواضيع التي كانت حتى الأمس القريب من المحظورات، وقوة النقد التي تتميز بها من أجمل الأشياء التي عرفها المغرب الحديث. فمن يريد إعدام هذه اللحظة الجميلة المسماة "صحافة مستقلة"؟ أعداء هذه الصحافة لا تخطئهم العين المجردة، فهم كل المتضررين من خطابها، موجودون في السلطة، وداخل الأحزاب وحتى في أوساط المجتمع. إنهم منظرو الاستبداد في دوائر القرار العليا، وسدنة الفساد داخل أجهزة الدولة وإداراتها، والسياسيون الانتهازيون داخل دكاكين أحزاب سياسية بلا هوية ولا قواعد حقيقية، والقوى المحافظة داخل المجتمع التي تقتات على الشعبوية والمنغلقة داخل شرنقة شوفينية الخصوصية المتزمتة. دون أن نستثني حتى الأعداء من داخل المهنة والمحسوبين عليها، أي أصحاب البيت الذين يريدون أن يدجنوها ويحولوها إلى أبواق للدعاية الرخيصة، أو أولئك الذين امتهنوها لتكون لهم مطية لبلوغ أهداف شخصية مادية أو معنوية، أو حتى أولئك الوافدين الجدد عليها ممن لا يحترمون أخلاقها ولا يلتزمون بنواميسها، ويقومون، بقصد أو عن جهل، بتشويه صورتها وتقديمها قربان لكل الطامعين بجز رأسها على مذابح مصالحهم باسم الدفاع عن الوطن أحيانا وباسم الدفاع عن شرف المهنة أحيان أخرى... غريب أن يركز النقاش طيلة السنوات العشر الأخيرة على هذا النوع الصحافة، حتى تحولت إلى "شاغلة الناس ومالئة دنياهم"، هكذا أصبح ينظر إليها، أو هكذا يريدون تحويل الأنظار عما يقع في أماكن العتمة والتركيز على الأصبع الذي يشير إلى منبع الدخان حتى لا يلتفت الناس إلى عموده المتعاظم الذي يخفي ورائه الحرائق التي تلتهم المال العام! ثمة أشياء كثيرة فاسدة في هذا الوطن كانت وماتزال تستحق منكم العناية والتركيز، بدلا من كل هذا الزمن الضائع الذي تقضونه في احتساب فواصل مقالات هذه الصحافة، وتعداد نقطها والوقوف عند علامات تعجبها واستفهاماتها، والبحث عما وراء نقط فراغ جملها غير المكتملة... ليست هذه الصحافة وحدها من تحتاج إلى الدروس في الأخلاق والمهنية والالتزام والتضحية والوطنية... التي تلقنوها لها بكل مناسبة وبلا مناسبة. انظروا لتروا كم أن الفراغ من حولكم عظيم، أحدثه تراجع أخلاق العمل السياسي عند الساسة الذين يغيرون مواقعهم وقناعاتهم، مثلما يغيرون جواربهم النتنة، وانتهازية المسؤولين الذين يدافعون عن كراسيهم وحساباتهم البنكية أكثر من دفاعهم عن مصالح الوطن والمواطن، وجشع أصحاب الأعمال المشغولين بتنمية أرصدتهم أكثر من انشغالهم بتنمية الوطن، والنزعة النفعية المتنامية التي زرعتموها داخل تربة مجتمع المصالح والامتيازات، والريع الذي تكافئون به كل ملتحق جديد بنادي انتهازيتكم المريضة... يمكنكم أن تعدموا هذه الصحافة بجرة قلم حتى قبل أن يجف حبره، أو بمكالمة هاتفية تحمل تعليمات نافذة، أو بأحكام صورية جاهزة، أو ببيان مقتضب منسوب إلى جهة غير معلومة حتى لا يترك أي أثر لأية متابعة قانونية... لكنكم لن تستطيعوا أن تكتموا توق الناس إلى معرفة أخبار فسادكم، أو أن تزينوا لهم صور انتهازيتكم، أو أن تخفوا عنهم جبنكم من الكلمات التي تؤرق سهاد ليلكم الطويل! لكن ثقوا قبل أن تنصبوا المشانق، وقبل أن نساق عند وحشة الغسق أمام فصيل إعدامكم الجاهز، أننا لسنا لا ملائكة ولا شياطين، نحن جزء من هذا الوطن أحببناه بخيره وشره، ورفضنا تواطؤ صمت مثقفيه وسكون أغلبيته الصامتة أمام كل هذا الخراب الذي ينخره من الداخل. وصيتنا بعد أن تعدمونا أن لا تنسوا أن تطفئوا الأنوار، وتضعوا المفاتيح تحت الأبواب الموصدة، وتعلقوا الأجراس للقادمين من بعدنا، لأن ليلكم الطويل لا محالة سينتهي، إذا هذا الشعب يوما أراد الحياة