لاشك أن تعرف تاريخ مدارس مدينة طنجة، هو جزء من تعرف تاريخها الحافل بالأحداث. كما أن البحث في ذاكرة المدارس القديمة بالمدينة ، قد ينبش في المتخيل الجميل لعدد من أفراد الأسرة التعليمية بطنجة ولدى عدد من الأجيال التي تخرجت على أياديهم . هذا النبش الذي لاشك سيأخذنا إلى حقبة استعمارية تعود بنا إلى بدايات القرن الماضي ، حينما عرفت طنجة نظام حكم استثنائي جعل منها مدينة دولية ، استجلبت أكثر فأكثر هوس المعمرين الإسبان خاصة . فترة الاستعمار الإسباني بمدينة طنجة، والتي تعود لتوقيع عهد الحماية سنة1912م قد عرفت إنشاء عدد من المدارس النظامية العصرية المختلطة ، والتي ضمت أبناء المعمرين الفرنسيين والإسبان واليهود ، وبعض من أبناء أعيان مدينة طنجة . وهكذا يحكي لنا السيد محمد الوسيني "سائق شاحنة حاليا " ذكرياته مع اليوم الأول من افتتاح مدرسة محمد الخامس 1 أكتوبر 1950م (بحيث يتأخر موعد الدخول المدرسي في المدارس الغربية في تلك الفترة لإتاحة الفرصة لموسم جني الكروم) ، حيث اصطف تلامذة القسم الأول وهم سبعة إسبان، وإلى جانبهم عدد أكبر منه من الفرنسيين والفرنسيات، فيما حشر المغاربة من أبناء الميسورين أو الأعيان في مؤخرة الصف ، تمهيدا لجلوسهم اللاحق في الطاولات الخلفية لحجرات الدرس .ولم يستوعب محمد الوسيني الأجواء العنصرية السائدة آنذاك داخل المؤسسة ، ولم يدم مقامه بالمدرسة سوى بضعة أشهر قبل أن يعود أدراجه إلى مدشر بني وسين وليلتحق بالمسيد لحفظ القرآن . وتحكي لنا مسنة أخرى من أبناء مدينة طنجة، أنها تتذكر يومها الأول بمدرسة أم أيمن ، والفتيات يرتدين بذلة موحدة ، وأثناء مرورهن بالمدار الحالي لعين اقطيوط ،فإنهن لا يفوتن فرصة اللعب بكرسي دوار أقيمت على أنقاضه النافورة الحالية. وتتابع المسنة تذكر أيامها الجميلة بالمدرسة لتخبرنا أن الشجرة الواقعة بالمدار عمرها بعمر افتتاح المؤسسة ، وأن المسؤولين المحليين قد أحسنوا صنعا إذ حافظوا عليها طوال كل هذه السنين . وقد سعى المستعمر الإسباني في بنائه لعدد من المؤسسات التعليمة القديمة بطنجة إلى توظيف النمط المعماري الإبيري سعيا لفرض ثقافته الدخيلة على المجتمع ، ودفعا للوحشة التي قد تصيب المعمر خارج بلده ، وهكذا لا يشعر زائر شارع محمد الخامس بتطوان ، وشارع باستور "البولفار" بطنجة ، باختلاف شديد عن طبيعة المعمار الإسباني في تلك الفترة الاستعمارية ، وهو نفس الأمر الذي ينطبق على عدد من المؤسسات التعليمية بطنجة آنذاك مثل مدارس : ابن بطوطة ، أم أيمن ، الخليل الحصري ، محمد الخامس ، سيدي محمد بن عبد الله ... مع الاعتراف في ذات الوقت بأن أغلب هاته المؤسسات قد غيرت أسماءها التي سماها بها المستعمر ، لتحمل أسماء ذات دلالات تاريخية ووطنية ، وهكذا حملت المدرسة التي توسطت حي المصلى اسم بطل التحرير المغفور له محمد الخامس ، وحملت أخرى اسم علم من كبار أعلام مدينة طنجة هو المرحوم العلامة عبد الله كنون ، وحملت أخرى اسم المقاوم الشهيد الزرقطوني ... وإذا كانت مدارس طنجة قد عجزت عن تكريم أحد كبار أعلامها هو الراحل أحمد بوكماخ ، فإن المركب الثقافي لأسرة التعليم بطنجة قد أحسن صنعا حينما استدرك هاته الزلة ، وأطلق اسمه على إحدى القاعات الكبرى للمركب . في الجانب المقابل للمدارس النظامية، استترت في خفاء مدرسة كانت القلب النابض للحركة الوطنية بطنجة ، وتخرج منها عدد كبير من أعلام طنجة ورموز الحركية الوطنية بها ، تلك هي مدرسة مولاي المهدي ، الواقعة أمام فندق " المنزه " بشارع الحرية ، و لا يمكن للناظر للمكان العثور سوى على باب صغير لها واقع بين متجر لبيع اللعب وآخر لبيع الملابس، لكنك بمجرد ولوجك لهذا المدخل الصغير تندهش بمنظر مدرسة جميلة بطابقين ، بناؤها بالمعمار الإسباني ، ذي القاعات العالية والنوافذ الواسعة والسقوف المدورة . وإذا كان لمدرسة مولاي المهدي كل هذا الشأن في تاريخ الحركة الوطنية وسعيها المتوازن للمزج بين التعليم الديني والتعليم العصري ، فإن تاريخها ما لبث أن طاله النسيان والإهمال من لدن الساكنة الطنجاوية، خاصة بعد إغلاقها مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي . وأخيرا فإن تاريخ المدارس بطنجة لا يمكن أن يستثني إنشاء مدارس البعثات الأجنبية، ومن بينها المدرسة الابتدائية الفرنسية التي حملت في بدايتها اسم مدرسة الشاطئ ولاحقا مدرسة السواني قبل أن تحمل اسم أول مدرس بها تكريما له بعد وفاته وتخليدا لاسمه "أدريان بيرشي" ، فيما تعد ثانوية " رينولت" أقدم الثانويات الفرنسية بالمغرب والتي يعود تاريخ بنائها لسنة 1913م . وتحمل اسم شخصية جلبت مأساة الاستعمار إلى المغرب ، وقد عين سنة 1906م وزيرا مفوضا بمدينة طنجة، قبل أن تسند إليه بتاريخ 3 مارس 1912م مهمة التوقيع باسم الجمهورية الفرنسية على معاهدة الحماية مع المغرب . وقد شيد بناء هذه الثانوية على الطراز العربي المورسكي ، والذي يتميز بكثرة الأقواس والمشابك الخشبية ، والزجاج الملون والبلاط . و لا يمكن للمستقرئ لتاريخ المدارس بمدينة طنجة ، سوى أن يكتشف تاريخها الحديث الذي يعود أغلبه للحقبة الاستعمارية ، والذي حاول من خلاله المستعمرون فرض ثقافتهم ، وكسر السيطرة المطبقة التي عرفت بها المدارس القرآنية العديدة التي وجدت منذ القدم وسط المدينة وفي قبائل الجوار وخاصة منها قبائل أنجرة ، وبعيدا منها قبيلة "غمارة" التي اشتهرت بمدارسها العلمية ذائعة الصيت في المشرق والمغرب ، والتي تشرفت المدينة باحتضان شيوخها من أبناء العائلة الصديقية العالمة ، والتي أقامت لها زاوية وسط قصبة المدينة القديمة ، تخرج منها عدد من المريدين و الطلبة ، واحتضنت مكتبتها نفائس من الكتب.