دانييل روندو/ ترجمة: عبد المنعم الشنتوف (*) يقترب هذا النص من الموت وأمكنته في مدينة طنجة. ويسعى الكاتب إلى استكشاف التعدد الذي وسم طنجة منذ تاريخ بعيد من خلال تبئير الرؤية على المقابر التي تشتمل عليها المدينة والتي تجلي تعدد الأديان والأعراق والثقافات التي احتضنتها. تكون الرحلة في عالم الأموات استكمالا للرحلة في الفضاء الفيزيقي والرمزي للمدينة؛ ذلك أن الاقتراب من تمثيل الموت في ثقافة معينة يؤشر على ارتفاع أو انحسار منسوب الحرية والتسامح في ثقافة ما. ويبدو جليا من خلال المتابعة الدقيقة لتفاصيل هذه الرحلة حرص الكاتب على التوصيف الدقيق لما يميز هاته المقابر على اختلاف فيما بينها والتدهور الذي طالها مع كرور السنين وانحسار رقعة التسامح. على امتداد هذه الرحلة الاستكشافية في مقابر اليهود والمسيحيين الكاثوليك والأنجليكان والمسلمين بالإضافة إلى مقبرة الكلاب التي اشتهرت بها المدينة، سوف يعثر القارئ على ما يمكن وصفه بأنه جدارية بانورامية تتخايل عليها ظلال العابرين في تاريخ قريب. يجدر بنا التذكير في هذا المعرض أن هذا الفصل متضمن في كتاب ‘طنجة ومغرب متعدد' الذي استهل به رحلته المثيرة في الحواضر الرئيسة للبحر الأبيض المتوسط. النص: إنه يوم الحظ السعيد للحيوانات المريضة في دار إيطاليا وهي قصر ضخم يقع في زنقة ذات انحدار قبالة عيادة شيدها طبيب طنجاوي عام 1904 تخليدا لذكرى زوجته دونا بنشيمول. يعتبر هذا القصر الذي أصبح ملكا للدولة الإيطالية عنوانا على النجاح التام فيما يخص أحجامه ومقاييسه. بيد أن الإخفاق يعتوره فيما يهم التفاصيل والتي تعتبر غالبا غير ذات قيمة. شيده السلطان عبد العزيز حين وصول الماريشال ليوطي. وكان قد حل بطنجة كي ينتظر أياما أفضل من تلك التي عاشها في فاس. كم يبدو مثيرا للفضول هذا الكم من البشر الذين صرفوا حياتهم وهم ينتظرون شيئا أو شخصا ما. وفرة من أشجار البرتقال والصنوبر ومتاهة من الساحات والقاعات الداخلية وكيلومترات من الأروقة والأجنحة ومدافئ باروكية وعقبان ذات ياقات في شكل بجع منحوتة من الرخام الرمادي. الجبس الأزرق النيلي الذي يشبه ما يمكن العثور عليه في المدينة العتيقة والسقوف المرصعة. غمغمة النوافير ونخلة. سوف يتردد مبدع هذا المنزل بالأمس ومئات العمال المشغولين بترميمه الآن دائما وباطراد بين شعوري العظمة والانحطاط. كنت أتملى من خلال نافذة في الطابق الأول جزءا مدمجا من حي للصفيح وكتلة من المنازل ذات واجهات متلاحمة؛ وهو ما يمثل بداية جنينية لحي لم يتح له أن يكتمل ويشبه كثيرا حي آرسنال في البندقية. دفعت بابا صغيرا في الطابق السفلي يفضي إلى زاوية فارغة. دخلت في غمرة الظل. نهضت امرأة متربعة فوق الأرضية بسرعة وجمعت سجادتها ثم غادرت الغرفة القهقرى. لقد أزعجتها وهي منهمكة في أداء صلاتها. كانت مارة والمؤذن يدعو إلى الصلاة، ولأنها تعرف البواب، فإنها دلفت إلى المكان لكي تؤدي صلاتها في مأمن عن العيون المتلصصة. عدت في المساء صحبة صديقين في ساعة البينغو. وكان من المستحيل بمكان العثور على موضع للسيارة. كانت السيارات تملأ المكان. توافدت نخبة المجتمع الطنجاوي بكثافة. جدير بالذكر أن أهل طنجة يعشقون ارتداء الثياب والخروج واللقاءات.، كما أنهم مهووسون بالكوكتيلات والحفلات. وهم لا يملون من اللقاءات الاجتماعية. يحدث في يوم ما أن يهجموا على مفوضية إسبانيا لكي يتملوا برؤية القنصل الجديد الذي جاء لتوه من نيويورك، وسوف يحتفلون في اليوم التالي في كاب سبارطيل، وهكذا دواليك على امتداد الأيام. تشبه حياتهم حلقة مفرغة. ساحة تحت الأقواس، والمساء الذي يقترب بهدوء. كان دافيد هربرت الذي يحيط عنقه بفراشة ضخمة يحرك جرس البينغو. يعتبر البينغو لعبة قمار ذات أصول أمريكية، ودافيد هربرت هو نجل اللورد هربرت الذي يعتبر بدوره الابن الأكبر للكونت الخامس عشر لبيمبروك والكونت الثاني عشر لمونتغومري. ولأنه ابن ثان، فإنه لم يرث أي لقب، وقد أطلقت عليه طنجة بحنو ومحبة لقب ‘الملكة غير المتوجة'. كان هذا الرجل صديقا لديانا كوبر والأخوات ميتفورد. كان يزرع حديقته ويهتم بها بحذق بالغ، وكان يملك ثلاث قطط هم: لورد إسكس ولورد دودلي وليدي جين كري. كان حكم اللقاءات الراقية، وقد تفضل بتقديم خدماته ودائما ببعض المرح والظرف في أمسية العمل الخيري هاته. وداخل قاعات مخصصة للدروس، جاءت طنجة بكاملها كي تحضر قرعة البينغو، وكان كل واحد يلعب أرقامه. وتدور العجلة. كانت الصرخات تتعالى باللغات الثلاث، وتعلو الضحكات و وتتبادل التهاني. كان المال المترتب عن هذا الحفل منذورا بكامله للجمعية الراعية للحيوانات.كان رجلا مقطب الوجه يسهر على الصندوق المخصص لذلك، وكان ضحية عبث ولهو الجالية البريطانية في طنجة. تناولنا حلوى بالشوكولاتة أعدتها الممرضات اللاتي يسهرن على تمريض هاته الحيوانات. كان الأمرمتعلقا بحلوى ذات شكل رخامي ورخو، وقد كتب الحلواني على إبداعه برنامج السهرة بحروف من الكاكاو: عاشت الحيوانات. وغرس في القشطة منحوتة شكلها بيده بين صفائح ذائبة من الشوكولاتة بالحليب تمثل كلبا من صنف الكانيش يرفع قائمته مبتسما. وفي الحانة، علمت بأن طنجة تتباهى بأنها تملك مقبرة للكلاب. وكان أن قررت زيارتها في ليلة الغد. كانت تقع بعيدا عن المدينة في مكان مليح وفاتن على بعد مئات من الأمتار من مضمار ليتريي للخيول على حافة واد هادئ كان أهل طنجة يطلقون عليه وادي اليهود. لوحة تحت الأشجار كتب عليها بالإنجليزية المستوصف الشعبي للحيوانات المريضة. نزل للراحة. حظيت القطط بشاهدة مغروسة في الأرض، أما تلك المخصصة للكلاب فمغروسة أفقيا. في الجانب الآخر من الوادي، كان جمع من الأطفال يلعبون الكرة بين شجر الصبار فوق ميدان منحدر. كان الفريق الأول في أعلى التلة فيما كان الفريق الثاني في الأسفل. لم تكن ثمة مساواة وعدل، لأن الفريق الأول كان مهيمنا بشكل لافت. هي ذي بشكل مجمل وكما اتفق بعض ما كتب على هاته الشواهد باللغتين الإسبانية والإنجليزية:ملاكي كيب، عزيزتي تينا، بيبو حبيبي المخلص والحنون الذي لن أنساه ما حييت، عزيزنا توتون، إلى صغيرتنا لايكا، ليندي، ويسكي، كاميليا، جيم رفيقي المخلص، واندا، طوطور، كلبنا العزيز، مينغ صديقنا الحبيب، كوكان آل برانس المعروف بكيكي. إلى الحبيب دومينو. أسماء القطط: باندي، مينوش، نيلسون، أوليس، لادرونا، مونطي، بيبيت، نيكيتا. وكان ذلك أكثر جفافا من حيث التعبير عن المشاعر. كانت هناك أيضا شاهدة باللغة العربية لم أتمكن من فك طلاسمها. لم تكن ثمة أكاليل ورود، وإنما شواهد من الحجر فوق عشب جاف وبقع من ظلال الأشجار. أحسستني أكثر قوة بتأثير هذه الزيارة فاندفعت في زيارة استكشافية لكل مقابر طنجة. كنت راغبا في زيارة طنجة الأخرى، تلك المتعلقة بالمختفين والغائبين. بدأت بالمقبرة الكاثوليكية الأقرب. استقبلني حارس يرتدي بذلة زرقاء وربطة عنق وكنزة بحرية ونظارتين سوداوتين. كانت يده اليسرى تفتقد ثلاثة أصابع. . أكد لي بأنه مسلم. كان ارتفاع القبور يعانق المظهر غير المنبسط لهضبة كبيرة والتي كانت تتسم بوفرة الحفر والأخاديد. المقبرة شبيهة بالمدينة؛ فهي نسخة خرساء وتجسيم مصغر لانحدار وتدهور. قبور فخمة بشرفات وعواميد وزخارف وزليج ورخام، وعلى حين غرة تباغت بقبور مبقورة وآثار عامرة بالشقوق وشبابيك صدئة ومغمورة بالعوسج. وصلبان مكسورة.لا وجود هنا لأحياء. يرقد الطنجاويون في هذا المكان دون تمييز بين الأعراق، وإن كانوا يشتركون في كاثوليكيتهم. الإيرانيون والبرتغاليون والفرنسيون والإسبان والأمريكيون والإنجليز. وكان ثمة أيضا مواطن جزائري. وقد أكد الحارس في خصوص هذا البائس التعس، ما رواه لي أحد الأصدقاء: بالنسبة لنا نحن المغاربة، فإن الجزائري هو الأكثر نصرانية من بين كل المسلمين. تعني مقبرة في اللغة العربية المكان المعار. لقد خصص الإسلام في بلاد المغرب دائما مترين لقبر النصراني. وتبدو الأمور على أية حال أكثر تعقيدا مما نرجوه ونأمله. معارة أي مقبرة أو المكان المعار يعني أيضا مكان العار. يوجد في حي مرشان شارع مستقيم محفوف بالمنازل ذات المعمار الألزاسي، وما يسمها أضلاع وعوارض وسقوف قرميدية ذات طابع مفرط في إنجليزيته، علاوة على منازل ضخمة على طريقة لويزيانا تقود إلى المقبرة الإسلامية.. قبور صامتة ولا وجود للأشجار وإنما حائط أبيض قصير. لم أدخل لأن عائلة كانت آخذة في دفن أحد أفرادها. تعتبرالمقبرة اليهودية العتيقة بدورها مقبرة بحرية. وتقع في مدخل المدينة العتيقة في ظلال الأسوار وتطل على بحيرة زرقاء وباهتة. الحوض الكبير للميناء. بوابة حديدية مغلقة بمزلاج وطريق صخري، منزل صغير وحبال من الغسيل. هتفت بي امرأة مغربية قائلة: هل أنت يهودي؟ سوف تكون كذبة جواز سفري إلى هذا العالم من الأضرحة وشجر الأوكاليبتوس والأرض الجرداء والفضلات وأكياس المقامة المرمية في حفر الميدان. كانت ثمة ندف من الصوف عالقة بالشوك والعوسج. راعي غنم يقود قطيعه كي يرعى بين شجر الطقسوس . كنا نصغي من خلل غمغمة المدينة وصراخ الباعة في السوق إلى صخب الأمواج. كانت المرأة في انتظاري، وقد أديت ثمن تأشيرة خروجي: خمسة دراهم. تقع المقبرة الأوربية القديمة في زنقة إيطاليا في الجانب الآخر من المدينة العتيقة. أسوار عالية وأبواب موصدة. طرقت الصفيح ثم لبثت أترقب. وفي النهاية، رأيت رجلا يعبر الزنقة ويدفع عربة وفي جيبه مفتاح. مر بجواري. مررنا في البداية بكوخ خشبي مغطى سقفه بغطاء منسوج بين قبرين. التفت إلي باسما: إنني أقيم هنا.. *هل أنت مسرور *بلى نسبيا. *هل الأمور على أحسن ما يرام؟ *الهدوء موجود ليلا *هل ثمة أشباح؟ *لا، لكن ثمة شبانا يأتون لتناول البيرة. سوف أطلعك على ذلك. شمر عن ساعديه وبدأ برفع حاجز كان عبارة عن براميل. دلفنا إلى غابة كثيفة الأحراش في قلب طنجة. كان لزاما قطع بعض الأغصان وتسلق بعض المواضع التي طالها الانجراف والانسلال على أربع وسط دهاليز من العشب الكثيف مسيجة بأعاصير من اللبلاب والقفز على ركام من الفضلات.. كنا ننقذف بغتة وسط ما يشبه الممشى الذي سير عليه من فترة قصيرة. وغالبا ودائما ما ينتهي برماد نار.. علب من البيرة وسياج حديدي قديم ومجلات بورنوغرافية على حواف القبور المبقورة. يبدو أن شباب المدينة يأتي لإحياء الحفلات الماجنة والصاخبة في هذا المحراب من الخضرة والأزبال. سألتا: هل يتعلق الأمر بأولاد وصبايا *لا، فقط أولاد.. صدرت عنه تنهيدة. إنهم يحدثون صخبا عظيما ويحولون بيني وبين النوم. لقد ألفى نفسه مضطرا لإحاطة كوخه بالمتاريس. كان يظن بأنني جئت للبحث عن سلف قديم.. كان ينزع اللبلاب المحيط بالقبور وشواهدها ويمسح الشواهد بكم معطفه ويطلعني على ما كتب عليها: الدكتور سينارو، خوان فالاريدا ضابط البحرية. شارل جيمي. هززت رأسي دلالة النفي، وسرعان ما عاودنا مسيرنا القهري. ترتبط كنيسة سان أندرو بأسقفية جبل طارق..لقد تكيف هذا الدير الأنغليكاني مع السياق الإسلامي؟ فجدرانه بيضاء وسقفه أخضر؛ بحيث يمكننا الاعتقاد إنه مسجد. وتحيط به مقبرة يعمها الهدوء. وبمجرد وصولي اقترب مني رجل يرتدي برنسا وهو يقول بالإنجليزية: هللو أنا مصطفى. سعيد بلقائك. حييته بدوري. أردف قائلا:إنه يوم لطيف، أليس كذلك؟ إنه هادئ ولبق واحتفائي ويرشح بمشاعر الصداقة. كان إنجليزيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. نفحته بعشرة دراهم. انحنى شاكرا وهو يقول: على الرحب والسعة. ثم أردف بعد هنيهة تفكير: يوم لطيف حقا. وكأن هذا اليوم المشمس الدافئ كان الأول طيلة هاته السنة. عثرت على والتر هاريس عند منعطف طريق،. كان هذا الرجل أسيرا عند الزعيم الجبلي الريسوني. صفيحة من السيراميك الأزرق ونصب صغير و قرميد أخضر وشاهدة كتب عليها ما يلي: والتر بورتن هاريس ولد في 29 أغسطس عام 1866 حل بطنجة عام 1886 وكان مراسلا لجريدة التايمز اللندنية. في المغرب وبلدان أخرى أحب الشعب المغربي وكان صديقا له.. بحثت دون جدوى عن قبر الزوجين الشابين اللذين استمعت بالأمس إلى حكايتهما. كان شابا يعزف الغيتار في بار دينز . احتضنته وشجعته ودعمته باربارا هوتون التي وقعت صريعة غرامه. انفلت من بين ذراعيها لينجز زواجا رائعا. اقترن بشابة ثرية كانت وريثة عائلة من المصرفيين، وكانا يتبادلان حبا مجنونا. وفي أحد أيام فصل الربيع،سافرا إلى الرباط على متن سيارة موديل ماسيراتي، غير أنهما لقيا مصرعهما عند منعرج حاد. كان يعتقد بأنه رأى النور في يوم سعد، لكن الحظ العاثر كان له بالمرصاد؟ بينغو. بينغو.