استهلال! في لقاء سابق، في القاعة الهامشية لمندوبية الثقافة، وفي ضيافة نفس المضيّف، الراصد الوطني للنشر والقراءة، كانت المناسبة قصة وليس شعراً، تعرفت لأول مرة على عريسنا لهذه الأمسية، وهو يقرأ على مسامع الملأ الغفير إحدى بنات قصصه القصيرة، المتخففة من تفاصيل بعض النثر، المتدثرة بغشاوة شعرية لا تخطئها الأذن السمّيعة.. وكنت قد قلت مع بعضي: والله إن صاحبنا لشاعر. وتحفظت، يومها، على كلمة (ساحر) المؤكدة بلام التوكيد.. وأؤكد لكم، أيتها الصديقات أيها الأصدقاء، إنني لم أعد أذكر كيف تناهى إلى سمعي أن صديقنا الدكتور عبد النور مزين ينحدر من المدينة النوّارة، أخت غرناطة في العمارة والعبارة.. من عادتي، كلما أتيح لي أن أهدهد، بمتعة، كتاباً جديداً، أذهب عيناً إلى لوحة الغلاف، من حيث أدري أنني لست أدري.. غير أنه، والحال هذه، لم أتعدّ النظرة الأولى، التي هي لي أنا القارئ بغير قيد ولا شرط.. ثم صوبت، أعلى، محاولاً فك أزرار "وصايا البحر" التي جاءتنا في حلة طاعنة في الحمرة.. حمرة التوت والشفاه والشفق، ربما.. وصايا البحر ! الوصايا، سنحاول فتح قوارير أسرارها بكثير من الدهشة والمتعة، صراحة، فيما يأتي من سطور.. أما (البحر) بالنسبة لنا، نحن أهل طنجة، ولا فخر، لا تكتمل صورته في أذهاننا إلا إذا جاءنا، في الحلم وفي الشعر، مقترناً بالضلعين الآخرين: الحجر والخبر.. الشاعر عبد النور مزين، جاءنا، كما سلف التلميح، من الشاون، أو شفشاون، بتضعيف "شين الشعر".. وهي مدينة الجبل، بامتياز.. معلوم، من الشعر بالضرورة، أن لكل مدينة شاعرها المستبد المهيمن، الذي لا يمكن الانفكاك من سطوته إلا بالتمرد أو الهجرة.. ويبدو أن عبد النور مزين، لمّا بلغ سن الشعر، ترك المدينة، ليس وحيدة، تحرس الجبل.. الجبل. وشدّ الرحال إلى مدينة البحور الثلاثة.. البحور الثلاثة. هل استطاع مزين أن ينفلت من مخالب قصيدة الطبال؟ - الجواب: نعم، بكل تأكيد. - البرهان: وصايا البحر. في الوقت الذي صارت شحرورة الوادي بخبر سقوط الحجر في قطرة ماء قصيدة الشامخ عبد الكريم، كان عبد النور يتلو "وصايا البحر" في محفل النوارس، بلغة لا تصل إلى الأذن إلا همساً.. هكذا، تعلم صاحبنا الشعر، وكان ينبغي له، من وشوشات البحر.. واذكروا، معي، أن البحر، هو كذلك، من الأولياء الصالحين.. قصيدة بمِداد البحر! يدخل الشاعر عبد النور مزين باحة القصيدة من باب التيسير.. كلماته سهلة وبسيطة.. عباراته، لا تذهب بعيداً.. بعيدا.. في أحراش وفيافي اللغة.. تكاد لا تعثر على لفظة غريبة أو عبارة موحشة، في شعره.. بمقابل ذلك، فلغته عذبة.. شفيفة.. ومقزْبة، أحياناً.. لا يسرف في قد عبارته من صخر.. هي التي تأتيه مرفرفة مع النوارس، ونوارس البوغاز، أساساً.. لا يتكلف الصنعة والزخرف، ولا يحابي، بذلك، الطواويس، ويكتفي بجمال الماء الذي لا لون له.. القصيدة، عنده، لا تبدأ لكي تنتهي.. هي كالنسيم، كالموج، محكومة بالامتداد.. إلى ما لا نهاية. شعره يهجع في الذات. وما حضور البحر بقوة هنا، في تقدير شخصي، سوى لتدليل الحفر العميق في التجربة الذاتية.. عبره، ربما، تنقال العبارة الشعرية لتنسكب على الموضوع، فيما يشبه دورة المطر.. وعلى أي حال، فإن الغيث من المطر في شيء كثير.. في شعر عبد النور كثير من النجوى وبعض الشكوى، وفيه سعي إلى استحلاب ضروع الذات واستغوار الدواخل.. وكم مرة تكررت عبارة (يا حبيبي) في تفاعل مع وجيب الفؤاد وما يهجع به من عواطف.. نستحضر معه رومانسية جبران خليل جبران وجبرا إبراهيم جبرا وحنا مينا، أحياناً، ومحمد الصباغ، الراحل عنا مؤخراً.. عبد النور مزين، لم يهم في أي من بحور الخليل، وإنما هام في بحر الله الواسع، ينقل إلينا وصاياه البريئة من كل وزن وقيد وقافية متعسفة متربصة.. هذه الوصايا تحمل إيقاعها معها حيثما حلقت، ولا تحفل، كما سلفت الإشارة، بالتنميق والمظهر الخارجي، قوتها في عمقها الداخلي.. كما أن شعر صاحبنا، يجب قول هذا، ليس كله (بحر).. ففيه من خيوط (الخبر) الرفيعة ما يستوجب التوقف والتأمل في هذه التجربة القادمة على بساط الماء.. صحيح، أن شاعرنا لا يدبج شعارات لكي ترفع في مسيرات نهاية الأسبوع، ولكن شحنات عدم الرضا بادية في هذه الوصاية البحرية، على سبيل التلميح لا التصريح.. ختامه شعر! أن يكون في واقعنا المتردي، هذا، من لا يزال يكتب الشعر.. وأن يوجد، بيننا، من يقرأ الشعر ويعمل على نشره.. وأكثر من ذلك، أن يكون الشاعر طبيباً.. صدقوني، فإن الجسم الشعري معافى.. وسيكتب للقصيدة عمر جديد وأطول.. أطول من حبل الركاكة ولسان الواقع الفج.. وآخره شعر.. عمتم مساء.. وعمتم شعراً.