شهدت السنين العشر الماضية تحريك العديد من الملفات الكبرى المرتبطة بالفساد المالي وتابع الرأي العام المغربي عبر الصحافة الوطنية فصولا مثيرة من الفضائح المالية المتوالية التي بلغ بعضها ساحات القضاء وحوكم فيها مسؤولين كبار, فمن قضية القرض العقاري والسياحي، إلى ملف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، مرورا بملفات القرض ألفلاحي، البنك الشعبي، الخطوط الجوية الملكية، الخ.... تناسلت خيوط الفساد المالي بالمغرب وتوالت فضائح نهب المال العام على مستوى الكثير من المؤسسات العمومية الكبرى. وجاء الكشف عن الوضعيات المالية المختلة لهذه المؤسسات لينضاف الى اختلالات بنيوية صارخة ظلت وما تزال تعاني منها مالية الإدارات العمومية والجماعات المحلية على مدى عقود طويلة منذ الاستقلال, كما أن الإعلان عن بعض مظاهر الفساد والاختلاسات في مثل هذه الظروف المتسمة في عموميتها بالتعقيد والتأزم على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والمطبوعة باكراهات المنافسة الدولية وآثار العولمة, وفي لحظات تاريخية تتميز عادة بإثارة النقاش حول القضايا الكبرى للمجتمع ألا وهي لحظة الانتخابات التشريعية الاستثنائية25 نونبر 2011 هذا الإعلان و إن كان يعبر من حيث المبدأ عن اعتراف رسمي بمسؤولية الدولة وحكوماتها المتعاقبة عما يجري من تقصير وغض للطرف عن هذه الأوضاع المختلة, فانه يعبر في ذات الوقت عن شجاعة سياسية نادرة للإرادة الداخلية في سياق تميز على الخصوص بانفتاح ملموس ومبادرات جريئة مدعومة برغبة محتشمة في تخليق الحياة العامة,وإعمال مبدأ المحاسبة والمساءلة تكريسا لدولة الحق والقانون والحريات التي تسعى المملكة الى ترسيخها. ولعل هذه الرغبة في تطهير المؤسسات العمومية والإدارات والجماعات المحلية هي نتيجة الاحتجاجات الشعبية التي تعرفها البلاد نظرا لسوء التسيير العشوائي والممارسات السلبية التي حولتها على مدار عقود طويلة الى مراتع للاغتناء السريع والكسب اللامشروع على حساب المصلحة العامة, تتجاوب في جانب كبير منها مع ما وصل إليه المجتمع المدني بمختلف مكوناته من وعي بضرورة محاسبة المسؤولين عن إهدار المال العام. فالمواطنين ما فتئوا جميعا ينددون بظواهر الاختلاس وسوء التدبير ويرفعون شعار الإصلاح الجذري وتغيير الأوضاع تماشيا مع مطلب التغيير الذي ارتقى في السنوات الأخيرة الى مستوى المطلب العام. وإذا كان النقاش حول مظاهر الفساد المالي داخل هياكل الدولة ومؤسساتها قد فتح بالمملكة منذ الثمانينات, فان تقارير التفتيش المالي وما خلصت إليه لجان تقصي الحقائق البرلمانية مؤخرا من نتائج تضمنت خسائر مالية واختلاسات قدرت بملايير الدراهم, قد أضاف نكهة خاصة لهذه النقاشات ودفع بهذا الموضوع الحساس الى واجهة الأحداث الوطنية الكبرى في ظرف هام وصفه البعض ب« ربيع الشفافية المغربي» ومؤخرا «بالربيع العربي» كما يسميه البعض الآخر. ورغم تعدد أصناف المراقبات: إدارية، قضائية، وسياسية، التي يتوفر عليها المغرب في مجال المراقبة المالية وإمكانيات التدخل الواسعة المتاحة لها في كل ما يتعلق بتدبير الأموال العمومية وتنظيم أوجه الإنفاق العام,فان جملة من الوثائق والعوامل المعاكسة أفضت الى تحجيم فعلي لدورها على المستوى العملي وأدت الى قصور كبير في الأداء الرقابي لأجهزة الرقابة المالية نتجت عنه نتائج وخيمة واختلالات صارخة عمت كل المستويات العمومية والمحلية, الإدارات ,الجماعات والمؤسسات العمومية, بفعل ظواهر التبذير وسوء التدبير والإهدار الممنهج للمال العام انعكست آثارها على مالية البلاد وإمكاناتها التنموية ووضعها الاقتصادي برمته كنتائج مباشرة لغياب المراقبة او محدودية فعاليتها. ولعل خلاصة تقرير المجلس الاعلى للحسابات الأخير يؤكد في هذا السياق على حقيقة أساسية هي استمرارية وجود خلل ما في التجربة المغربية خاصة في جانبها المالي، ثم إن نظام المراقبة المالية بالمغرب ما يزال يشكو من عدة ثغرات وعوائق تؤثر على أدائه وفعاليته في حماية وتدبير المال العام، رغم وجود ترسانة من القوانين والمسؤوليات التأديبية والجنائية والمدنية التي يخضع لها القائمين على صرف أموال الدولة من : الآمر بالصرف والمحاسب العمومي والمراقب المالي. وإذا كانت الرقابة المالية تستهدف ضمانة سلامة التصرفات المالية والكشف الكامل عن الانحرافات ومدى مطابقة التصرفات المالية مع القوانين والقواعد النافذة,فانه لا يمكن للأجهزة المنتخبة ان تستأثر بهذا الاختصاص بالنظر الى طغيان الاعتبار السياسي على تدخلاتها الى أجهزة رقابة عليا متخصصة في المجال المالي ومستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لها سلطات قوية وفعلية. لكن في النهاية كل إخلال بالواجبات الأخلاقية والوظيفية المفروضة على الموظف او العامل في المرفق العام او المحلي تشكل مخالفة تأديبية تعرضه للجزاء التأديبي, من خلال تحريك مسطرة التأديب المالي هذه الأخيرة تعرف انعدام التطبيق نظرا لخلل في إصدار الأحكام المتعلقة بهذا المجال, والاكتفاء بإصدار قرارات فقط، لأسباب تعود لبنية المحاكم المتواجدة بالمملكة بفضل التأويل الخاطئ للقوانين الصادرة بهذا الخصوص من جهة ومن جهة أخرى تداخل القوانين فيما بينها، كما هو الحال مع مؤسسة القرض الفلاحي والسياحي بالمغرب على سبيل المثال وليس الحصر والتي عرفت اختلالات جمة في حق شخصيات معرفة بالبلاد و المتهمة بتبديد أموال عمومية والاستفادة من عقارات في ملك السياش, حسب تقرير المجلس الاعلى للحسابات لسنة 2009 الذي خص هذا الأخير بتقرير من 44 صفحة, ورغم صدور التقرير واثبات المنسوب إليهم في حق المتهمين من قبل المجلس الأعلى للحسابات كمحكمة مالية, إلا انه سيتم النظر في تهمهم من قبل المحكمة الابتدائية قسم الجنايات, مما يوضح بنية الخلل الكامن في منظومة المحاكم بالمغرب والتي تؤدي بالضرورة الى انعدام أحكام صادرة عن المحاكم المالية بالمغرب والتي تصدر عن المحاكم الإدارية, أي معظم قرارات المخالفات المالية تصدر عن المحاكم الإدارية بدل المالية وحتى إن تم الإقرار بها داخل تقرير المجلس الأعلى للحسابات, فإنها لا تحمل الطابع العقابي بل طابع السرد فقط والتنبيه إلى تلك المخالفات. مما جعل المتتبعين للشأن العام المحلي يتساءلون عن ماهية وصفة الحكومة الجديدة أي حكومة العدالة والتنمية , للحد من الفساد ونهب المال العام؟ حيث ألحى المراقبين الى اعتماد مقاربة تشاركية لمعالجة قضايا الفساد المالي بالمغرب وتعزيز الحكامة الجيدة وتقوية تنافسية الاقتصاد وأكد المشاركون في الندوة التي نظمتها الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب فرع مراكش حول مكافحة الفساد بالمغرب,بان التعاطي مع قضايا الفساد المالي يتطلب الدقة وتوخي الحيطة والحذر والتحلي بالمهنية والثقة في الإصلاح وعدم الإفراط في التهويل ,لان من شان ذلك الزيادة في الإحباط والتيئيس لدى الناس الى جانب تعزيز آليات الرقابة على المال العام لمواجهة المفسدين وضمان المصالح العامة. فالدعوة الى محاربة الفساد هي مطلب الجميع, وجاءت الحكومة الجديدة لتحيي أمال فئة من المغاربة الذين يتوقون الى الحد من الفساد ونهب المال العام بدون حسيب او رقيب. كما دعى المراقبون الحكومة الى ترجمة الإرادة السياسية على ارض الواقع من خلال وضع ترسانة قانونية للمنظومة المالية ومراقبتها وإصلاح القضاء,ولعل المناداة بإصلاح هذا الأخير راجع الى ما سبق ذكره من خلل في الاختصاص بين المحاكم وابرز مثال على ذلك حالة أو قضية شخصية نافذة بالبلاد,الذي وجب تحويل حكمه الى المحكمة المالية كونه آمرا بالصرف متهم بتبديد أموال عمومية في إطار عمله بالمكتب الوطني للمطارات كذلك كما هو الحال مع شخصيات نافذة أخرى بالمملكة, كما لا ننسى التقرير الأسود حول ملفات في وزارة الطاقة والمعادن. لذا يعد حماية المال العام من المستلزمات الأساسية لبناء المجتمعات الحديثة فمهما توفرت الموارد المادية والمالية للمجتمع فإنها تبقى عديمة الجدوى، بدون مراقبة صارمة وضمانات قانونية وإجرائية لحمايتها، فهناك إجماع على أن أي نظام لا تتوفر فيه رقابة مالية صحيحة ومنظمة، يعد نظاما ناقصا ومبتورا، يفتقر إلى المقومات المتكاملة. فالشفافية بصفة عامة، والشفافية المالية بصفة خاصة هي في واقع الأمر تتضمن الكشف في الوقت المناسب عن المعلومات الملائمة والكافية, إذ أن الإدارة المتمتعة بحسن التدبير والتسيير تعتمد وتتبنى معايير تتسم بشفافية عالية الأمر الذي يمكن المتعاملين معها من تقييم وتثمين أدائها العملي وتدبيرها المالي, وللإحاطة بمفهوم الشفافية المالية لا يخلو من صعوبة معرفية بالنظر الى تداخل هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى من قبل «الرقابة» «التدقيق» «الافتحاص» وهي مفاهيم تشكل جوهر الحديث عن الشفافية المالية وكنهها إذ في ظل غيابها لا يمكن الحديث عن شفافية مالية أساسها المساءلة والمحاسبة, وقد وجدت الرغبة الأكيدة لدى المشرع في الأخذ بالشفافية المالية و ترجمتها في صدور قانون المحاكم المالية 99-62، وهي ليست محاكم بالمفهوم المصطلح عليه و لا تدخل ضمن منظومة التنظيم القضائي للمملكة, لان الغاية من تأسيس هذه المحاكم كما ورد عليه النص في الفصلين 69-97 من الدستور القديم ,هو ممارسة الرقابة العليا على تنفيذ قوانين المالية ولا يكتسب المجلس الأعلى للحسابات و لا المجالس الجهوية للحسابات صفة المحاكم المالية, إلا عندما تنظر في قضايا المخالفات التي يرتكبوها المسؤولون او الموظفون او الأعوان بأحد الأجهزة الخاضعة لرقابتها. من خلال هذا المنطلق هل يمكن الحديث عن رقابة قضائية فعالة ذات جدوى على مستوى التأديب المالي للمحاكم المالية؟ مما يقود بالتساؤل عن تاريخ هذه الرقابة وإطارها القانوني؟ وما هي الأجهزة والأشخاص الخاضعة لهذا التاديب والمخالفات المحركة لمسطرة التأديب المالي؟ كيف يتم تحريك دعوى التاديب المالي وما هي إجراءاتها الأولية والتحقيق فيها؟و ما هي حقوق المتابع داخلها؟ ثم إلى أي حد يمكن القول أن المحاكم المالية قادرة على إصدار قرارات وتحويلها إلى أحكام كآثار لهذه المسطرة? ومحو الضبابية والتعتيم وإخفاء هذه الأحكام وتنفيذها ضد أصحابها وبأسمائهم دون أي تحفظ !!عوض المحاكم الإدارية التي تصدر القرارات وتنفذها المحاكم الابتدائية؟ كيف يتم الاستئناف والطعن ومراجعة الحكم والطعن بالنقض لهذه الأحكام؟هل يمكن الحديث عن تقوية دور المحاكم المالية أم يكتفي المشرع من خلال القوانين بجعلها محدودة الفعالية تتميز بضعف الموارد البشرية والمالية وبالتالي ضعف مردودية هكذا محاكم بالمملكة وبالتالي ارتفاع معدل الاختلاس داخل الوطن؟ ومن قضايا هذه السنين التي تطفو على السطح هي مكافحة الفساد بكل أنواعه و من بينه الفساد المالي