هب أنك غبت بعيدا عن طنجة، بديار الغرب، لمدة دامت ثلاثة عقود، وأنت من أبناءها: ميلادا، ونشأة، وذكريات، وحبا؛ تعرف أحياءها وأزقتها القديمة، تعرف عائلاتها العريقة وبيوتها الأنيقة، تعرف كل مناظرها الجميلة وضواحيها الخضراء، بغاباتها وبساتينها وحقولها ومنتجعاتها...ثم رجعت إليها في هذه الأيام، فحط بك الرحال في ضحى النهار ببعض أحياءها الشعبية المهمشة العشوائية مثل: بئر الشفا أو مغوغة أو مسنانة أو حومة الشوك، لحسبت نفسك أنك بتلك "مدن البادية" التي انبثقت عن سهول الغرب: كمشرع بلقصري أو سيدي سليمان أو سيدي قاسم... من شدة تشابه حركة الحياة وأنماطها ورسم معمارها وسلوك ساكنتها؛ فالفوضى والأوساخ وقلة الأمن ضاربة أطنابها في كل أركانها وأزقتها وأسواقها ومرافقها... فتعتريك الدهشة والشك، فتتساءل أين أنا؟ فتبحث عن وجوه تعرفها أو مَعلمة تستنير بها أو عنوان تقصده، فلا تعثر على شيء من ذلك، فتسأل الناس بأي مدينة أنا؟ فيقال لك: بطنجة، فتقول وأين القصبة وامراح وجنان قبطان ودار البارود والزيتونة والسقاية والسوق الداخل وحومة بني يدر والسوق دبارة؟ فتجد كثيرا من الناس لا يعرف هذه الأسماء، فيقول لك أحدهم، ممن يحسب أنه قد عرف شيئا: "إذا أردت أن تذهب إلى السوق دبارة خذلك تاكسي صغير" فتستيقن آنذاك أنك بعيد عن طنجة الأم، طنجة العروس، فتريد على التو التحقق من أمرك، فتمتطي تاكسيا فيأخذك إلى السوق دبارة، لتجد أن معالم هذه الساحة القديمة لم تتغير كثيرا،فتريد أن تبدأ تجوالك بأسواق المدينة، بداية من سوق السمك ففندق الشٌجرة ففندق الحمير فسوق سيدي بوعبيد ففندق الزرع، لترى بأم عينيك التردي الكبير الذي أصاب هذه المرافق الحيوية، التي كانت بالأمس القريب نموذجية، نظاما ونظافة وتكاملا. قد لا تستغرب، لأنك لا تجد فرقا كبيرا بين تلك الوجوه التي اعترضتك وأنت بتلك الأحياء الجديدة الشعبية، بسماتها ولهجاتها وسلوكها؛ فالباعة المتجولون في كل مكان، والسلع المهربة نفسها، وحجم المتسكعين والعاطلين والمتربصين لأغراض أخرى نفسه... فتنزل راجلا نحو باب الفحص لتبدأ في رحلة الصبا داخل أقواسها وأزقتها، لتسترجع ذكريات الماضي، وأنت تقطع كل المدينة القديمة لتذهب إلى جوزفات، حيث مدرستك وصداقات طفولتك ومغامراتها المختلفة. ثم تبدأ بالتوغل في عمق المدينة عبر عقبة فرنسيس، لتبحث عن معارفك من الناس، بداية من المحلات التجارية من بزارات وحوانيت ومقاهي، فلا تكاد تجد أحدا تعرفه حقا، لكن لسانهم هذه المرة أقرب من لسان أهل طنجة القديمة، وأغلب هؤلاء من الشباب، تظهر عليهم علامات الإدمان على المخدرات المختلفة، فتستمر بالتوغل نحو رحبة أحرضان من أجل نفس الغرض، لتلتقي أخيرا بأحد الوجوه القديمة، يشتغل بأحد البازارات، فيكون العناق الحار والتقبيل، فتتبادل معه الحديث والسؤال عن أسماء تعرفانها معا، فيقول لك هذه الأسماء عملة ناذرة إذ لا ترى أحدهم إلا في مأتم أو عرس، هذا إن كنت محظوظا، وإن شئت لُقياهم يمكنك الذهاب إلى مقهى حنفطة بمرشان، بعدها يخبرك بأن فلانا قد قضى نحبه وآخرين غادروا المدينة القديمة إلى أحياء أخرى جديدة، وبعضهم ضاع مع غزو المخدرات المستوردة القاتلة للعقل؛ فصدمك حينما أخبرك أن أحد أصدقائنا قد اختل عقله بسببها، فأصبح يتسول في الطرقات، وضيع بذلك عمله وزوجته وذريته، وأحزن أمه المسكينة ولوث عزتها وكرامة عائلتها المعروفة بالمدينة، فشعرت بحزن عميق ينتابك لوقع ما سمعت، إذ رجعت بك الذكريات إلى سنوات قد خلت، كنتما لا تفترقان في أيام دراستكما وعطلكما ومصايفكما مع باقي أصحاب الحي... فأوشك ذلك أن يثنيك عن متابعة جولتك هذه، لولا اشتياقك الشديد لمعرفة المزيد عن مدينتك وساكنتها، فاتجهت نحو دار البارود، قلب المدينة القديمة وأعرق أحياءها، الحي الذي ولدت به وترعرعت مع أبناءه، وأنت بساحتها المعروفة اتجهت إلى حانوت عبد الله السلاوي، الذي كان يبيع لكم الحلوى وكالنطي، وأنتم صغار، حينما كنتم تدرسون بالكتاب القرآني وتلعبون بقربه، فوجدت وجها من أبناء الحي القدامى فلم يعرفك عند الوهلة الأولى، فقلت له أنا بن فلان، ففرح بك فرحا شديدا وسألك عن حال العائلة، ثم سألته عن باقي عائلات الحي، فأكد لك مقولة صاحبك الأول، وأخبرك أن أغلب البيوتات اكتريت حجرة حجرة إلى من هاجر من البوادي أو من الداخلية بحثا عن عمل يضمن به رمق عيشه، أما البيوتات الكبرى المعروفة فقد بيعت للأجانب من اليهود والنصارى بأثمنة باهظة، وبيع معها تاريخها وذكرياتها، فأغاضك هذا الأمر؛ إذ كيف يعقل أن نبيع ماضينا بحُلوه ومُره وذكرياته وآثاره ومناظره ومعماره إلى الأجانب بثمن بخس، وكأن رموزنا وذكرياتنا وتقاليدنا لا معنى ولا وزن لها، لا في ذاكرتنا الجماعية و لا في ثقافتنا الأصلة، ثم نبهك إلى الوضع المزري الذي تعرفه المدينة القديمة: فالكمامات ترمى في كل مكان، والأوساخ حدث ولا حرج، ثم ذكرك بزمن كانت الأزقة تنظف ليلة كل يوم، وكيف كان الناس لا يجرؤون على رمي الأزبال بقرب الجيران، وكيف كان نظام جَمعها بأدوات عتيقة لكنه رتيب وبه إخلاص وجودة كبيران، وكيف كانت عناية الصرف الصحي مشددة شتاء وصيفا، حفاظا على صحة عموم المواطنين...فأطردت: هذا هو النظام المعمول به الآن بدول الغرب. ثم ودعته متحسرا غاضبا، لتتجه نحو بيت جدك رحمة الله عليه، مقر الميلاد والطفولة الأولى، فمررت بمستشفى البرج القديم، الذي يطل على المرسى القديم وسيدي بوقنادل، لتفاجئ بالكارثة، لقد أصبح خربا، ومدافعه الأثرية، التي كانت تحمي المدينة ضد الغزاة الأجانب فيما مضى، مهمولة، واشمكارة متجمعون قربها زمرا زمرا، يتعاطون ما يدمرون به شبابهم ويقضون به على حياتهم، دون أن ينتبهوا إلى جمال منظر هذا المكان ولا قيمته التاريخية، فخرجت منه ساخطا لاعنا على هذا الوضع المزري، صاعدا في زنقة الزيتونة، منتبها لكل بيت مررت به، لتتذكر من كان يقطن به واحدا واحدا، وأنت تستحضر أغنية نعمان الحلو" وش عقلت على ديك الداربالمدينة القديمة..." لتتذكر بدورك بساطة الحياة في هذه الأزقة الضيقة والبيوت الملتصقة، والأسر المتفقة على أخلاق مغدقة، احترام وغيرة وحماية وتآزر وإيثار وعفاف ورحمة وسكينة وسلم وأمن، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، وكأنهم أسرة واحدة، فسرك ما تذكرت، وانتابك شوق الرجوع إلى الماضي، وكأنه بكاء حقيقي على الأطلال، وكيف لا تبكي ولا تتحسر على هذا الواقع الجميل المفقود، الذي يضرب جذوره في عمق التاريخ، وهو جزء من شخصك وتربيتك وثقافتك كامن في ثنايا صفحاته لا يُنسى ولا يُنسف، وإن دمرت المدينة بكاملها بأيدي العابثين ولامبالاة المواطنين وجهل المالكين. ثم تابعت سيرك حتى وقفت أمام بيت عائلتك، متأملا ومتذكرا، عرضت خلالها شريط طفولتك كله، يوم كانت عائلتك الكبيرة تتعايش فيها كل الأجيال، بوقار وافتقار، ولا حسد ولا بغض ولا نفاق، الكبير يحمي الصغير ويرعاه، وهذا يخدم الكبير ويخطب وده وعطفه بلا دلل ولا تقديس، كل له قدره ومكانه، فلا تحقير ولا تضعيف، الفرح له طعم لذيذ والحزن يُنسى كومض البرق اللطيف...فانتبهت حينها واستيقظت من فرح قديم، لترجع على عجل إلى الواقع المرير، لتتابع مسيرة الحزن العميق على مدينتك بالصعود نحو القصبة، مرورا بأمراح، فهالك ما رأيت من دمار وإهمال وعبث لا يصدق وفراغ مهول لا يطاق، فقارنت كيف كانت العناية خلق الجميع والحماية للآثار وظيفة الوعي العميق، فكان للسياح مكان فسيح وإقبال لا يفتر طوال الفصول، ورواج في كل الحرف والفنون، وحرص على الجودة بلا حدود، فأين ذهب كل هذا الخير الممدود، أَرحل مع الأطهار الأبرار والجدود الكرام؟ لا تستعجل، ستعرف الجواب بعد حين، لتقف بنفسك على من اغتصب المدينة العروس في أزقتها بكل وضوح.