عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    منتخب U20 يهزم ليبيا في تصفيات كأس إفريقيا    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    الوزير بنسعيد يترأس بتطوان لقاء تواصليا مع منتخبي الأصالة والمعاصرة    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء        التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نوستالجيا.. مسارب منطقة معتمة تسمى جرادة...
نشر في وجدة نيوز يوم 12 - 02 - 2008

تمتد بك الطريق منحدرا عميقا، صوب علامة الأربعين؛ حيث ترابط سيارة الأمن، وحاجز المرور الغير رسمي. انحسر دور الدرك، وامتد إلى ما بعد" الكارتيي أونز". لعوينات مدشر تابع للدرك. هي موئل المستشفى الإقليمي الذي لم يدشن بعد؛ يترقبون الطلعة البهية.. ولمسة ملكية تمحو الغبن المعشعش على الصدور. يلومون النائب الاتحادي القديم.. يلومون بعضهم.. ينقلبون على بعضهم..




ذ. جلول قاسمي.
كاتب روائي. عضو اتحاد كتاب المغرب فرع وجدة.


تسلمك الهنيهة رقما، تالفا؛ تمتصه الطرق المركونة بين حدود الوهم المنحل؛ هامشا مترعا بالخيبة.
سواد الحجر، والبشر، ولون العمر.. خريف البداية.
الأمكنة عينها.. ومرتع الصبا الكئيب تعمده أغنية قديمة من مواويل الشيخ المازوزي.. يبدو لك المازوزي رجلا حولته حركة الفتح الجديد كيسا مرذولا من شعر وبعر... يقول المازوزي في استحياء؛ متفكها: ذهب الذين يعاش في أكنافهم..." ولم يتمم الجملة البليغة..: وبقيت في خلف كجلد الأجرب.." تسأل نفسك، ونتف من خيالات تخرق المنطقة الملغومة من عقلك.. وعقابيل حسرة المازوزي.. لغم موقوت.. تفغم أنفك روائح تواريخ منسية، تضيع في الأبعاد..
يأتيك الاحتجاج مكشوفا عاريا من أبيك، ومشحونا بنبرة التسآل: لقد شكلتك صحبة" القرايين" كائنا من نار.. انظر إخوتك من حولك؛عزوة، وقوة، وحلف.. كحلف الناتو.. لا يخرقهم من بغى، ولا يهزمهم من نوى... منهم من عرف من أين تؤكل الأذن... ومنهم من عرف من أين يسلخ الجلد.. ومنهم خاصم ما من شأنه.. ومنهم من جلب الأورو من بلاد السبنيول.. ومنهم من اقتنى، وبنى، وكان قاب قوسين أو أدنى من الغنى.. ومنهم من سطا على مكمن الرضا.. فرضي عنه وارتضى ... فانغمروا في الحياة، وغمرتهم بفيوض النعمة.. وأنت كما أنت.. ولد ساخط.. لو عاش الحطيئة لأعارك برنسا من برانسه، وصرت له ظلا.."
قناعة أبي لا تتغير... كلمات أبي سوط يشدخ الجلد الذي يذويه زمن لا يد لنا في صنعه... قرارات تخرج عن طوعنا.. لم نصنع حاضرا؛ لأن غولا صغيرا كامنا فينا؛ يدفعنا دوما للتواري خلف التسويف، أو خلف انتظار ما تسفر عنه مكائد الوقت؛ ورجال الوقت.. مناطق معطوبة من مفكرتنا تتأبى على الحركة...
يوم عدت بعد إبلال مؤقت.. من نكسة قديمة.. مثل كائن محتقن.. محتقن مما تقتنصه الأذن عن بعد.. وما تراه العين بعد غيبة الولد المسيج بالغباء.. أجوس بقايا مدينة فحمية؛ كانت.. مثل طفل كبير، يزحف نحو الخمسين.
تتحول المدينة المنحرفة عن خط الجنوب.. امرأة تتزيا برقعا من نعاس.
هو الفجر.
و حفيف شجر غابة الصنوبر، وعرار سيدي محند أوصالح يرسل شميمه.. على بعد من عمر الضيعة.. التي تفصل آخر خيط من خيوط العتمة عن بزوغ الصباح. المدينة المنجمية المعتمة تستعد لاستقبال النهار.. لرؤية وجهها الجديد في مرآة التحول المباغث.. وقلت؛ مسائلا" ما لهذه الأرض السادر أهلها في غلواء السياسة" المقلوبة" لاتستفيق..".. تلك كانت عودتي الأولى بعد بضعة شهور على انغلاق المنجم..
وغبت.
وودعت المدينة التي رعت شطرا من شبابي.. وصلابة رأس ملغم.. بقايا موال صحراوي قديم.
أنقذف الآن مثل وهم يسوق راحلة" بهكنة" نحو مسقط الرأس .لست معصوب الذاكرة. لست سياسيا؛ أبرر سقطتي بسقطة أخرى. وألغو... أنا الآن عار؛ مثل ما رميت لعالم الخيبة أول مرة.
أرى الأشياء بعين رجل يلهث نحو الخمسين.
يأتيني صوت الشريف البراح، حارس المدينة المنجمية القديمة، مثل مارد سرمدي لا يحول. يحكي عن حكايات.." ..."و"..." بين حاشيتي غابة الصنوبر، تتراءى بضع سيارات.. سمار الليل، ويأتيك طيف العيد الميم، يكركر وسط سيارته الفياط، صحبة طائفة من صحبة بني يعلى الأشاوس؛ طلق السياسة، وعانق أم الحظوظ... تاريخ يمتد هبوطا نحو نقطة غائبة في المدى المجهول. غبش الفجر.. وخواء الأمكنة.. إيقاع هاديء.. لا ضجيج.. ولا ضوضاء. غابت أصوات الشاحنات التي تكتظ عن آخرها بعشرات المنجميين.. يرطنون لغاتهم في صمت من يخمنون نهاية ما؛ عودة سالمة.. أو رحلة أبدية تحت جحيم السقوط. تصطف الشاحنات وتتقاطع الرحلات الصغيرة.. منها ما يذهب شمالا، ومنها ما يذهب شرقا، ومنها ما يؤم نقطة وسطا بين الشرق والغرب.
بين أيديهم أكياس مخيطة، تشبه المخلاة..
زاد اليوم.
سيهبطون.. سيحفرون.. سيخرجون الذهب الأسود الذي يفك طلاسم اقتصاد يقوم على الحساب.. ولغات لا يفهم منها أمازيغيو الجنوب سوى معادلات مالية على رأس كل" كانزينا".. وسيعودون في اليوم الموالي لممارسة نفس الفعل. خرست الأصوات. هكذا دفعة واحدة. خرست الأصوات. وزمت الحقائب. و" مسح بالأركان من هو ماسح" كفت المدافع القديمة عن صد الغزاة. وعسكرت جنود الخواء. سطت على الأركان الأربعة من المكان الغارق في الفجر. عبروا كأطياف باهتة في محيط الوهم السرابي.. كأضغاث أحلام أغار عليها الصباح.. واقتلع من حاضرها جذوة الوهج المضيء. صوت الحاج أحمد بقلول يؤذن للفجر... يصل الصوت هشا.. ضعيفا صوت عمي أحمد بقلول. الرجل الصنهاجي ببساطته المعهودة، وجسده الضئيل، وخلقه الرفيع الذي يكاد يلامس حد البراءة الكاملة... استوطن المدينة قادما من نواحي تازة، لا لممارسة" الخابازا".. وبيع"الحرشة " أو كتابة التمائم و"الحروز" على عادة من ارتضوا القفز والغنى السريع.. بل ظل يراهن على الركون إلى زاوية المسجد الكبير لتحفيظ الكتاب المقدس.. وإمامة المئات من المصلين، مترفعا عن خلطة عجيبة، انبثقت من التمذهب بحركة الوهابية الجديدة، واتخاذ قدس الأقداس مطية للوصول إلى قبة البرلمان... لم يتنطع للسياسة، ولم يدع ولاية، ولم يستغل بطاقة النسب في قضاء مآربه الأخرى.. بقي كما هو، يأوي إلى جبل حيث المسكن البسيط الرحب بحب الناس والجيران... حيث يعصمه من الغوص في ما يشين خلق رجل بسيط.. كان أول صوت تتصبح على سماعه؛ بكرة وأنت تيمم قافلا نحو المدينة البعيدة.. بعد نهاية الأسبوع..
يمتد الطريق مثل أفعوان، يحسن رسم الدوائر والمنعرجات؛ حتما جرادة مدينة المنعرجات؛ أكثر من عشر كيلومترات من المنعرجات. من" الكروازما" إلى سيدي محند أوصالح.. يميل بك المركوب. يداك تتناوشان مقود السياقة.. بقي من الطريق أقله. بضعة أمتار تفصلك عن الأربعين. المدخل أخضر.. تكسرت خضرته إلى ما يشبه البهاق.. امتدت سموم المعمل الحراري إلى غابة لعوينات.. حرقت الشجيرات المتبقاة التي كانت ترابط مثل عساكر فتية، وأردتها على مرأى الأشهاد.. نسبة التلوث تزداد في ارتفاع.. الفحم المشغل طاقته على التدمير قوية.. والمعمل شاخ.. أصابه عسر الهضم.. يطرحون له فحم" الخاريج.". ويطرح لهم غازات على قد نياتهم.. يقولون:
"النية بالنية، والحاجة مقضية"..
تمتد بك الطريق منحدرا عميقا، صوب علامة الأربعين؛ حيث ترابط سيارة الأمن، وحاجز المرور الغير رسمي. انحسر دور الدرك، وامتد إلى ما بعد" الكارتيي أونز". لعوينات مدشر تابع للدرك. هي موئل المستشفى الإقليمي الذي لم يدشن بعد؛ يترقبون الطلعة البهية.. ولمسة ملكية تمحو الغبن المعشعش على الصدور. يلومون النائب الاتحادي القديم.. يلومون بعضهم.. ينقلبون على بعضهم.. يمتد اليمين في اليسار، واليسار في اليمين.. وتطفو سحن حزبية، لا لون لها.. تعم الفضائل، ويعم فيض الدقيق المدعم، والحملات المضادة، وتتراكم القنابل الموقوتة في زوايا المقاهي، وتسطو دعوات العجائز على نوادي القمار.. تتقاطع أمشاج أفكار؛ لقصور القديمة التي شادها الرؤساء المتعاقبون على منجم الفحم.. تتمطق فيها شجيرات بائسة، وزروع لا لون لها.. فوتت الشركة الدور، والبشر، والحجر؛ مع ما فوتت من ممتلكات الشركة إلى ذوي الفضل. بين مدخل جرادة من الجهة الأخرى، تقبع قرية حاسي بلال.. مكان بئيس.. يتوسطه مقهى للعب البوكير و"التحنزيز"، وتكدس"الجباصين". تنظر إليك العيون في فضول. تسمع صوت "الكورتيي": بلاصا لعيون.. بلاصا لعيون.." على يمين المسجد والسوق.. يقعي المركب الحراري العتيق.. وتصطف حارة عمال المركب.. دور نظيفة محاطة بغابة نضيدة.. تقودك الفكرة إلى" ديور النصارى".. تزدهي الصورة، وفصول الدرس ترسم الخطوط الثلاثة: الحي الأوروبي، وحي مركب الكهرباء.. ودوار بني يعلى؛ حيث سقطت جمجمتك الصلبة على حصير، في يوم أغبر، من شهر أغبر.. من سنة غبراء.. نتجاور في الفصل الواحد بالأجساد، بينما تفرقنا نوايا مدرسنا الفاشل. من "الكارتيي أونز" تهدر حفلة رأس السنة.. من السبعينات وما بعدها.. عادة اختطها المهندسون الأوروبيون الوافدون.. رأس السنة، عيد للنصارى، وكبار المفرنسين من أطر المنجم الثري.. تخلط المفاتيح، وتخلط الزوجات، وتخلط الحظوظ.. الأنوار المشرعة على العتمة، ترسم حظوظا.. وفي غمرة الحظ" أنت وزهرك" يصيح الشريف البراح.. مثل وهم قذفته تباشير النور الأولى.. يحمل قفاف ال" التقضية" تباعا، إلى الرؤوس.
وتسلم ساقيك لمدخل المدينة جهة الغرب.. تقطع الطوبية ثلاثة.. تخشى أن يعثر عليك من يتصيدون هناتك.. ويفشون سرك لأبيك.. حتما، ينتظرون هكذا سانحة
.. على طول الدرب، تتغنج امرأتان في أواسط الأربعينات.. تمضغان علكا، وتراودان غريبين عن نفسيهما.. يثيرها منظرك؛ ربما المحفظة الجلدية التي لا تغادر يدك.. ليس لك بد من مطاوعة المفلستين لتنجو بجلدك.. تسوف وتخرج من محفظتك "المكتوب".. فرخت جرادة سيلا من العواهر، ووسطاء الأعراض؛ وتناسلت العواهر.. وكثر الزناة.. وحصد الفدية من حراس الليل القدامى.. منهم من استطاب أكل طعام الفروج.. واستلذ.. تقاعد من تقاعد.. ومات من مات.. ومن بقي شكل الفكرة بطريقة أذكى.. استراتيجية تناسب تكوينه الجامعي. الأحياء موسومة بعلامات.. وأزقتها ضيقة، تتقابل دورها التي تغنج بائعات الهوى فيها.. مائة ريال؛ الثمن القديم.. ربما.. أنت وجيبك.. أنت وطبيعة المرغوب.. توزعت الطوبية إلى ثلاثة.. كل حي وساكنته من الوافدات.. يتملحس بعض الذين يحلو لهم أن يأكلوا من طعام الفروج.. تتحرك الدورية، ويتملحسون في زهو. بارت مواسم الطوبيات.. ما بقي منهن إلا القليل.. توزعن على دوار أولاد سيدي علي؛ خوفا من الضابط الذي يصنع مجدا" مهنيا" على حساب الدراويش، بينما تفوح منه عفونة العهارة في المدن الحداثية البعيدة. ويخفي وهمه الذي تحصيه مواخير المدن الكبرى، والنساء "المودرن". الكثيرات دخلن عمر الفاقة.. أو تحولن إلى مهن قريبة كالقوادة وممارسة السحر.. وغيرهن دخلن منطقة الحمق من الباب الواسع؛ لقد أدين ضريبة المهنة في المرحلة الأخيرة من العمر..
تخرج من الزقاق الذي يشبه" الزابوق" إلى فسحة المارشي.. ذكريات تعيد هيبة الحلقة، وتترصد شيوخ المدائح والمغازي. تثغو بين موسيقاها أصوات مخلوطة بالبزاق لشقمي والتهامي المهبول.. صخور ناتئة.. تنخس المخيلة.. تعيدك نحو نقطة غائبة في محيط الدائرة.. عمق الغياب.. زاوية في المدى الهلامي؛ اللا منظور. وجوه تذوب في ملح الذاكرة.. نسوة من سوس العالمة، وأحراش بني كيل، وسماحة ورززات.. رجال من صخور الرحامنة، وأولاد حدو، وخميس الزمامرة، ومنعطفات ركراكة لحرار.. أخلاط أقوام ذابوا في الزحام.. أمشاج صنعوا المكان.. وبنوا بسواعدهم مجد جرادة القديم.. فعاد كل من حيث جاء.. تبخر المجد، وذابت الأخلاط في محيطات أخر، وبقي المكان.. بلقعا صفصفا.. تنعب فيه أصوات ناشزة.. لا تحسن العزف.. إلا على وتر الضيعة والخذلان.
تفلت عقد المدينة الصغيرة.. وشاخ المنجم العجوز.. وتناسلت محله غيران لاستحلاب بقايا فحم من قيعان، لا تؤمن من يدخلها.. وتناقل القوم أخبارا عن أجساد قضت تحت الردم.. وأجساد غضة تذوي تحت السديم. تستعيد المدينة سديمها القديم. وعدا غير مؤجل... تعود أكوام العظام كما ارتسمت في عمر الطفولة الأولى... سواد البشر والحجر، ولون الخيبة، عمر آخر.. وعدا كاملا.. كما بدأ الهم يعود.. وعدا لا خلف فيه.. وعدا... ونحن صغار، كنا نرقب قوافل الموتى الذين قضوا تحت"الغار". في اليوم الواحد، كانت أحيانا تمر أمام بيتنا قافلة من الجثامين.. صور الموت تتعدد.. ونواتجه عشرات العوائل.. والأرامل.. وكان ما كان مما لست أذكره، ومما يذكره أبي وشيوخ بلدتي من المنجميين الكبار.. وتعود ريما إلى عادتها.. وتنفجر الضيعة من عمق الرهان. زمن الحداثة في جرادة يبدأ برسم الطريق الرئيس المحاذي للكوميسارية. ووضع لوحة المرور بأضوائها الثلاثة. الفضاء تتوسطه النافورة الكبيرة التي راهن المجلس البلدي على توشيح صدر المدينة بها. وزينها بالأضواء الزرقاء المشعة ليلا. نسخة من نافورة عاصمة المغرب الشرقي وجدة." دير مادار جارك" ويراها المنجميون القدامى، وثلة من الساخطين على وضع المدينة؛ صفرا كبيرا، يزين هامة التاريخ الحديث.. المحطة الطرقية، وبضع حوانيت.. في حين، تحولت مدن حديثة إلى الأحسن، في ظرف وجيز.. يوما قال لي شاب صحفي من الشمال:"هنيئا لكم، فقد حقق اليسار نصرا مؤزرا". ولعله كان يومىء إلى فوز المرشح البرلماني الأخير..أجابه زميل بسخرية.. إن الآلاف التي صوتت لصالحه، تسعون بالمائة منهم، صوتوا لدوام "العلف الجاف".. حكم القبيلة سيف قاطع يا صاحبي.. ونسبة المعممين الأميين الفقراء، لا تسأل، وأنصاف المتعلمين يتبنكون في المكاتب الفخمة. وسماسرة الانتخابات خيبوا" سعد" المثقف النزيه.. وهما تكبله المدينة التي تأسر القلب الكبير.. يقترح مثقف أصيل من رفاق الأمس المشاركة في تأسيس جريدة ثقافية تنهض من رحم الفحم.. تعارض الفكرة؛ طبعا.. لست من هنا سوى بهاته النوستالجيا البئيسة.. تغريك الفكرة وتمضي. وفي قرارة نفسك تزند الفكرة الماكرة التي انبعثت من زاوية المركز الثقافي؛ الذي أضحى بتبعيته لوزارة الثقافة، كائنا مهملا، يسعى لنهاية محققة. تخرج منفعلا وصاحبك القديم؛ صوب أقرب المقهى. عفوا ليس في المدينة العتيدة مقهى يليق بجلسة حوار ثقافية.. تعد المقاهي الست المشهورة، ولا مقهى يحبس الاحتقان الذي يشتعل في صدريكما على زمن الرداءة المستحكم.. تتراكم على الأحاديث محنة تسريح العمال.. الكلام كثير، وفي القلب غصص أخرى..
على الدور التي تتجاور مثل مداسات قديمة، تخترقها جداول الفحم المستعمل، وخيوط الغسيل.. أضحت الأحياء خاوية على عروشها.. يصطف نفر من الصبية، يهشون جروا، ويتقاذفون بعضهم ببقايا سقاط التين. أغلبهم هاجروا.. من بقي ينتظر دوره.. ينتظر تسوية مستعجلة لملفه المطلبي.. فاته ركب المغادرة الطوعية.. لافتة بطول الزقاق البئيس.. وكلمات محتجة.. ونسوة يتشحن أسمالا في عمر المنجم.. تصلك لكنة الصوت المنغوم بعبق الجنوب... في هذه المدينة الكالحة.. الناس يجرون بياض النهار، وسواد الليل لإسكات الغول الرابض في أمعاء أبنائهم وزوجاتهم؛ اللواتي هدهن العمل في غزل الصوف.. تبدو لك ديور النصارى التي تفصل الفيلاج عن دوار أولاد يوسف.. بقعة ناشزة وسط هذا الخراب.. شوارع نضيدة رغم الهمل الذي تعاورها جراء انسداد أفق المستقبل.. تلمح الباشا يقود سيارته الكاط كاط بسرعة جنونية، يسعى جاهد للحاق بسيارة أجرة. يحتج شرطي المرور على هذا التدخل السافر في شغل البوليس.. يمرق سائق الأجرة في أحياء فيلاج بوبريص.. يعود الباشا بخفي حنين.. يعلق الشاب الشرطي، ساخرا..: هذا الدعي.. حقا لا يعرف مسارب"الفيلاج.".
وحرر بالمحروسة وجدة في ساعته وتاريخه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.