حزب "الأحرار" يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    البطولة الاحترافية "إنوي" للقسم الأول (مؤجل الدورة 14).. الجيش الملكي يفوز على مضيفه المغرب التطواني (2-1)    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    إدارة الأمن تسلح عناصرها بالأمن الجهوي بالحسيمة بجهاز متطور لشل الحركة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    قيوح يعطي انطلاقة المركز "كازا هب"    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    مهرجان جازا بلانكا يعود من جديد إلى الدار البيضاء    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نوستالجيا.. مسارب منطقة معتمة تسمى جرادة...
نشر في وجدة نيوز يوم 12 - 02 - 2008

تمتد بك الطريق منحدرا عميقا، صوب علامة الأربعين؛ حيث ترابط سيارة الأمن، وحاجز المرور الغير رسمي. انحسر دور الدرك، وامتد إلى ما بعد" الكارتيي أونز". لعوينات مدشر تابع للدرك. هي موئل المستشفى الإقليمي الذي لم يدشن بعد؛ يترقبون الطلعة البهية.. ولمسة ملكية تمحو الغبن المعشعش على الصدور. يلومون النائب الاتحادي القديم.. يلومون بعضهم.. ينقلبون على بعضهم..




ذ. جلول قاسمي.
كاتب روائي. عضو اتحاد كتاب المغرب فرع وجدة.


تسلمك الهنيهة رقما، تالفا؛ تمتصه الطرق المركونة بين حدود الوهم المنحل؛ هامشا مترعا بالخيبة.
سواد الحجر، والبشر، ولون العمر.. خريف البداية.
الأمكنة عينها.. ومرتع الصبا الكئيب تعمده أغنية قديمة من مواويل الشيخ المازوزي.. يبدو لك المازوزي رجلا حولته حركة الفتح الجديد كيسا مرذولا من شعر وبعر... يقول المازوزي في استحياء؛ متفكها: ذهب الذين يعاش في أكنافهم..." ولم يتمم الجملة البليغة..: وبقيت في خلف كجلد الأجرب.." تسأل نفسك، ونتف من خيالات تخرق المنطقة الملغومة من عقلك.. وعقابيل حسرة المازوزي.. لغم موقوت.. تفغم أنفك روائح تواريخ منسية، تضيع في الأبعاد..
يأتيك الاحتجاج مكشوفا عاريا من أبيك، ومشحونا بنبرة التسآل: لقد شكلتك صحبة" القرايين" كائنا من نار.. انظر إخوتك من حولك؛عزوة، وقوة، وحلف.. كحلف الناتو.. لا يخرقهم من بغى، ولا يهزمهم من نوى... منهم من عرف من أين تؤكل الأذن... ومنهم من عرف من أين يسلخ الجلد.. ومنهم خاصم ما من شأنه.. ومنهم من جلب الأورو من بلاد السبنيول.. ومنهم من اقتنى، وبنى، وكان قاب قوسين أو أدنى من الغنى.. ومنهم من سطا على مكمن الرضا.. فرضي عنه وارتضى ... فانغمروا في الحياة، وغمرتهم بفيوض النعمة.. وأنت كما أنت.. ولد ساخط.. لو عاش الحطيئة لأعارك برنسا من برانسه، وصرت له ظلا.."
قناعة أبي لا تتغير... كلمات أبي سوط يشدخ الجلد الذي يذويه زمن لا يد لنا في صنعه... قرارات تخرج عن طوعنا.. لم نصنع حاضرا؛ لأن غولا صغيرا كامنا فينا؛ يدفعنا دوما للتواري خلف التسويف، أو خلف انتظار ما تسفر عنه مكائد الوقت؛ ورجال الوقت.. مناطق معطوبة من مفكرتنا تتأبى على الحركة...
يوم عدت بعد إبلال مؤقت.. من نكسة قديمة.. مثل كائن محتقن.. محتقن مما تقتنصه الأذن عن بعد.. وما تراه العين بعد غيبة الولد المسيج بالغباء.. أجوس بقايا مدينة فحمية؛ كانت.. مثل طفل كبير، يزحف نحو الخمسين.
تتحول المدينة المنحرفة عن خط الجنوب.. امرأة تتزيا برقعا من نعاس.
هو الفجر.
و حفيف شجر غابة الصنوبر، وعرار سيدي محند أوصالح يرسل شميمه.. على بعد من عمر الضيعة.. التي تفصل آخر خيط من خيوط العتمة عن بزوغ الصباح. المدينة المنجمية المعتمة تستعد لاستقبال النهار.. لرؤية وجهها الجديد في مرآة التحول المباغث.. وقلت؛ مسائلا" ما لهذه الأرض السادر أهلها في غلواء السياسة" المقلوبة" لاتستفيق..".. تلك كانت عودتي الأولى بعد بضعة شهور على انغلاق المنجم..
وغبت.
وودعت المدينة التي رعت شطرا من شبابي.. وصلابة رأس ملغم.. بقايا موال صحراوي قديم.
أنقذف الآن مثل وهم يسوق راحلة" بهكنة" نحو مسقط الرأس .لست معصوب الذاكرة. لست سياسيا؛ أبرر سقطتي بسقطة أخرى. وألغو... أنا الآن عار؛ مثل ما رميت لعالم الخيبة أول مرة.
أرى الأشياء بعين رجل يلهث نحو الخمسين.
يأتيني صوت الشريف البراح، حارس المدينة المنجمية القديمة، مثل مارد سرمدي لا يحول. يحكي عن حكايات.." ..."و"..." بين حاشيتي غابة الصنوبر، تتراءى بضع سيارات.. سمار الليل، ويأتيك طيف العيد الميم، يكركر وسط سيارته الفياط، صحبة طائفة من صحبة بني يعلى الأشاوس؛ طلق السياسة، وعانق أم الحظوظ... تاريخ يمتد هبوطا نحو نقطة غائبة في المدى المجهول. غبش الفجر.. وخواء الأمكنة.. إيقاع هاديء.. لا ضجيج.. ولا ضوضاء. غابت أصوات الشاحنات التي تكتظ عن آخرها بعشرات المنجميين.. يرطنون لغاتهم في صمت من يخمنون نهاية ما؛ عودة سالمة.. أو رحلة أبدية تحت جحيم السقوط. تصطف الشاحنات وتتقاطع الرحلات الصغيرة.. منها ما يذهب شمالا، ومنها ما يذهب شرقا، ومنها ما يؤم نقطة وسطا بين الشرق والغرب.
بين أيديهم أكياس مخيطة، تشبه المخلاة..
زاد اليوم.
سيهبطون.. سيحفرون.. سيخرجون الذهب الأسود الذي يفك طلاسم اقتصاد يقوم على الحساب.. ولغات لا يفهم منها أمازيغيو الجنوب سوى معادلات مالية على رأس كل" كانزينا".. وسيعودون في اليوم الموالي لممارسة نفس الفعل. خرست الأصوات. هكذا دفعة واحدة. خرست الأصوات. وزمت الحقائب. و" مسح بالأركان من هو ماسح" كفت المدافع القديمة عن صد الغزاة. وعسكرت جنود الخواء. سطت على الأركان الأربعة من المكان الغارق في الفجر. عبروا كأطياف باهتة في محيط الوهم السرابي.. كأضغاث أحلام أغار عليها الصباح.. واقتلع من حاضرها جذوة الوهج المضيء. صوت الحاج أحمد بقلول يؤذن للفجر... يصل الصوت هشا.. ضعيفا صوت عمي أحمد بقلول. الرجل الصنهاجي ببساطته المعهودة، وجسده الضئيل، وخلقه الرفيع الذي يكاد يلامس حد البراءة الكاملة... استوطن المدينة قادما من نواحي تازة، لا لممارسة" الخابازا".. وبيع"الحرشة " أو كتابة التمائم و"الحروز" على عادة من ارتضوا القفز والغنى السريع.. بل ظل يراهن على الركون إلى زاوية المسجد الكبير لتحفيظ الكتاب المقدس.. وإمامة المئات من المصلين، مترفعا عن خلطة عجيبة، انبثقت من التمذهب بحركة الوهابية الجديدة، واتخاذ قدس الأقداس مطية للوصول إلى قبة البرلمان... لم يتنطع للسياسة، ولم يدع ولاية، ولم يستغل بطاقة النسب في قضاء مآربه الأخرى.. بقي كما هو، يأوي إلى جبل حيث المسكن البسيط الرحب بحب الناس والجيران... حيث يعصمه من الغوص في ما يشين خلق رجل بسيط.. كان أول صوت تتصبح على سماعه؛ بكرة وأنت تيمم قافلا نحو المدينة البعيدة.. بعد نهاية الأسبوع..
يمتد الطريق مثل أفعوان، يحسن رسم الدوائر والمنعرجات؛ حتما جرادة مدينة المنعرجات؛ أكثر من عشر كيلومترات من المنعرجات. من" الكروازما" إلى سيدي محند أوصالح.. يميل بك المركوب. يداك تتناوشان مقود السياقة.. بقي من الطريق أقله. بضعة أمتار تفصلك عن الأربعين. المدخل أخضر.. تكسرت خضرته إلى ما يشبه البهاق.. امتدت سموم المعمل الحراري إلى غابة لعوينات.. حرقت الشجيرات المتبقاة التي كانت ترابط مثل عساكر فتية، وأردتها على مرأى الأشهاد.. نسبة التلوث تزداد في ارتفاع.. الفحم المشغل طاقته على التدمير قوية.. والمعمل شاخ.. أصابه عسر الهضم.. يطرحون له فحم" الخاريج.". ويطرح لهم غازات على قد نياتهم.. يقولون:
"النية بالنية، والحاجة مقضية"..
تمتد بك الطريق منحدرا عميقا، صوب علامة الأربعين؛ حيث ترابط سيارة الأمن، وحاجز المرور الغير رسمي. انحسر دور الدرك، وامتد إلى ما بعد" الكارتيي أونز". لعوينات مدشر تابع للدرك. هي موئل المستشفى الإقليمي الذي لم يدشن بعد؛ يترقبون الطلعة البهية.. ولمسة ملكية تمحو الغبن المعشعش على الصدور. يلومون النائب الاتحادي القديم.. يلومون بعضهم.. ينقلبون على بعضهم.. يمتد اليمين في اليسار، واليسار في اليمين.. وتطفو سحن حزبية، لا لون لها.. تعم الفضائل، ويعم فيض الدقيق المدعم، والحملات المضادة، وتتراكم القنابل الموقوتة في زوايا المقاهي، وتسطو دعوات العجائز على نوادي القمار.. تتقاطع أمشاج أفكار؛ لقصور القديمة التي شادها الرؤساء المتعاقبون على منجم الفحم.. تتمطق فيها شجيرات بائسة، وزروع لا لون لها.. فوتت الشركة الدور، والبشر، والحجر؛ مع ما فوتت من ممتلكات الشركة إلى ذوي الفضل. بين مدخل جرادة من الجهة الأخرى، تقبع قرية حاسي بلال.. مكان بئيس.. يتوسطه مقهى للعب البوكير و"التحنزيز"، وتكدس"الجباصين". تنظر إليك العيون في فضول. تسمع صوت "الكورتيي": بلاصا لعيون.. بلاصا لعيون.." على يمين المسجد والسوق.. يقعي المركب الحراري العتيق.. وتصطف حارة عمال المركب.. دور نظيفة محاطة بغابة نضيدة.. تقودك الفكرة إلى" ديور النصارى".. تزدهي الصورة، وفصول الدرس ترسم الخطوط الثلاثة: الحي الأوروبي، وحي مركب الكهرباء.. ودوار بني يعلى؛ حيث سقطت جمجمتك الصلبة على حصير، في يوم أغبر، من شهر أغبر.. من سنة غبراء.. نتجاور في الفصل الواحد بالأجساد، بينما تفرقنا نوايا مدرسنا الفاشل. من "الكارتيي أونز" تهدر حفلة رأس السنة.. من السبعينات وما بعدها.. عادة اختطها المهندسون الأوروبيون الوافدون.. رأس السنة، عيد للنصارى، وكبار المفرنسين من أطر المنجم الثري.. تخلط المفاتيح، وتخلط الزوجات، وتخلط الحظوظ.. الأنوار المشرعة على العتمة، ترسم حظوظا.. وفي غمرة الحظ" أنت وزهرك" يصيح الشريف البراح.. مثل وهم قذفته تباشير النور الأولى.. يحمل قفاف ال" التقضية" تباعا، إلى الرؤوس.
وتسلم ساقيك لمدخل المدينة جهة الغرب.. تقطع الطوبية ثلاثة.. تخشى أن يعثر عليك من يتصيدون هناتك.. ويفشون سرك لأبيك.. حتما، ينتظرون هكذا سانحة
.. على طول الدرب، تتغنج امرأتان في أواسط الأربعينات.. تمضغان علكا، وتراودان غريبين عن نفسيهما.. يثيرها منظرك؛ ربما المحفظة الجلدية التي لا تغادر يدك.. ليس لك بد من مطاوعة المفلستين لتنجو بجلدك.. تسوف وتخرج من محفظتك "المكتوب".. فرخت جرادة سيلا من العواهر، ووسطاء الأعراض؛ وتناسلت العواهر.. وكثر الزناة.. وحصد الفدية من حراس الليل القدامى.. منهم من استطاب أكل طعام الفروج.. واستلذ.. تقاعد من تقاعد.. ومات من مات.. ومن بقي شكل الفكرة بطريقة أذكى.. استراتيجية تناسب تكوينه الجامعي. الأحياء موسومة بعلامات.. وأزقتها ضيقة، تتقابل دورها التي تغنج بائعات الهوى فيها.. مائة ريال؛ الثمن القديم.. ربما.. أنت وجيبك.. أنت وطبيعة المرغوب.. توزعت الطوبية إلى ثلاثة.. كل حي وساكنته من الوافدات.. يتملحس بعض الذين يحلو لهم أن يأكلوا من طعام الفروج.. تتحرك الدورية، ويتملحسون في زهو. بارت مواسم الطوبيات.. ما بقي منهن إلا القليل.. توزعن على دوار أولاد سيدي علي؛ خوفا من الضابط الذي يصنع مجدا" مهنيا" على حساب الدراويش، بينما تفوح منه عفونة العهارة في المدن الحداثية البعيدة. ويخفي وهمه الذي تحصيه مواخير المدن الكبرى، والنساء "المودرن". الكثيرات دخلن عمر الفاقة.. أو تحولن إلى مهن قريبة كالقوادة وممارسة السحر.. وغيرهن دخلن منطقة الحمق من الباب الواسع؛ لقد أدين ضريبة المهنة في المرحلة الأخيرة من العمر..
تخرج من الزقاق الذي يشبه" الزابوق" إلى فسحة المارشي.. ذكريات تعيد هيبة الحلقة، وتترصد شيوخ المدائح والمغازي. تثغو بين موسيقاها أصوات مخلوطة بالبزاق لشقمي والتهامي المهبول.. صخور ناتئة.. تنخس المخيلة.. تعيدك نحو نقطة غائبة في محيط الدائرة.. عمق الغياب.. زاوية في المدى الهلامي؛ اللا منظور. وجوه تذوب في ملح الذاكرة.. نسوة من سوس العالمة، وأحراش بني كيل، وسماحة ورززات.. رجال من صخور الرحامنة، وأولاد حدو، وخميس الزمامرة، ومنعطفات ركراكة لحرار.. أخلاط أقوام ذابوا في الزحام.. أمشاج صنعوا المكان.. وبنوا بسواعدهم مجد جرادة القديم.. فعاد كل من حيث جاء.. تبخر المجد، وذابت الأخلاط في محيطات أخر، وبقي المكان.. بلقعا صفصفا.. تنعب فيه أصوات ناشزة.. لا تحسن العزف.. إلا على وتر الضيعة والخذلان.
تفلت عقد المدينة الصغيرة.. وشاخ المنجم العجوز.. وتناسلت محله غيران لاستحلاب بقايا فحم من قيعان، لا تؤمن من يدخلها.. وتناقل القوم أخبارا عن أجساد قضت تحت الردم.. وأجساد غضة تذوي تحت السديم. تستعيد المدينة سديمها القديم. وعدا غير مؤجل... تعود أكوام العظام كما ارتسمت في عمر الطفولة الأولى... سواد البشر والحجر، ولون الخيبة، عمر آخر.. وعدا كاملا.. كما بدأ الهم يعود.. وعدا لا خلف فيه.. وعدا... ونحن صغار، كنا نرقب قوافل الموتى الذين قضوا تحت"الغار". في اليوم الواحد، كانت أحيانا تمر أمام بيتنا قافلة من الجثامين.. صور الموت تتعدد.. ونواتجه عشرات العوائل.. والأرامل.. وكان ما كان مما لست أذكره، ومما يذكره أبي وشيوخ بلدتي من المنجميين الكبار.. وتعود ريما إلى عادتها.. وتنفجر الضيعة من عمق الرهان. زمن الحداثة في جرادة يبدأ برسم الطريق الرئيس المحاذي للكوميسارية. ووضع لوحة المرور بأضوائها الثلاثة. الفضاء تتوسطه النافورة الكبيرة التي راهن المجلس البلدي على توشيح صدر المدينة بها. وزينها بالأضواء الزرقاء المشعة ليلا. نسخة من نافورة عاصمة المغرب الشرقي وجدة." دير مادار جارك" ويراها المنجميون القدامى، وثلة من الساخطين على وضع المدينة؛ صفرا كبيرا، يزين هامة التاريخ الحديث.. المحطة الطرقية، وبضع حوانيت.. في حين، تحولت مدن حديثة إلى الأحسن، في ظرف وجيز.. يوما قال لي شاب صحفي من الشمال:"هنيئا لكم، فقد حقق اليسار نصرا مؤزرا". ولعله كان يومىء إلى فوز المرشح البرلماني الأخير..أجابه زميل بسخرية.. إن الآلاف التي صوتت لصالحه، تسعون بالمائة منهم، صوتوا لدوام "العلف الجاف".. حكم القبيلة سيف قاطع يا صاحبي.. ونسبة المعممين الأميين الفقراء، لا تسأل، وأنصاف المتعلمين يتبنكون في المكاتب الفخمة. وسماسرة الانتخابات خيبوا" سعد" المثقف النزيه.. وهما تكبله المدينة التي تأسر القلب الكبير.. يقترح مثقف أصيل من رفاق الأمس المشاركة في تأسيس جريدة ثقافية تنهض من رحم الفحم.. تعارض الفكرة؛ طبعا.. لست من هنا سوى بهاته النوستالجيا البئيسة.. تغريك الفكرة وتمضي. وفي قرارة نفسك تزند الفكرة الماكرة التي انبعثت من زاوية المركز الثقافي؛ الذي أضحى بتبعيته لوزارة الثقافة، كائنا مهملا، يسعى لنهاية محققة. تخرج منفعلا وصاحبك القديم؛ صوب أقرب المقهى. عفوا ليس في المدينة العتيدة مقهى يليق بجلسة حوار ثقافية.. تعد المقاهي الست المشهورة، ولا مقهى يحبس الاحتقان الذي يشتعل في صدريكما على زمن الرداءة المستحكم.. تتراكم على الأحاديث محنة تسريح العمال.. الكلام كثير، وفي القلب غصص أخرى..
على الدور التي تتجاور مثل مداسات قديمة، تخترقها جداول الفحم المستعمل، وخيوط الغسيل.. أضحت الأحياء خاوية على عروشها.. يصطف نفر من الصبية، يهشون جروا، ويتقاذفون بعضهم ببقايا سقاط التين. أغلبهم هاجروا.. من بقي ينتظر دوره.. ينتظر تسوية مستعجلة لملفه المطلبي.. فاته ركب المغادرة الطوعية.. لافتة بطول الزقاق البئيس.. وكلمات محتجة.. ونسوة يتشحن أسمالا في عمر المنجم.. تصلك لكنة الصوت المنغوم بعبق الجنوب... في هذه المدينة الكالحة.. الناس يجرون بياض النهار، وسواد الليل لإسكات الغول الرابض في أمعاء أبنائهم وزوجاتهم؛ اللواتي هدهن العمل في غزل الصوف.. تبدو لك ديور النصارى التي تفصل الفيلاج عن دوار أولاد يوسف.. بقعة ناشزة وسط هذا الخراب.. شوارع نضيدة رغم الهمل الذي تعاورها جراء انسداد أفق المستقبل.. تلمح الباشا يقود سيارته الكاط كاط بسرعة جنونية، يسعى جاهد للحاق بسيارة أجرة. يحتج شرطي المرور على هذا التدخل السافر في شغل البوليس.. يمرق سائق الأجرة في أحياء فيلاج بوبريص.. يعود الباشا بخفي حنين.. يعلق الشاب الشرطي، ساخرا..: هذا الدعي.. حقا لا يعرف مسارب"الفيلاج.".
وحرر بالمحروسة وجدة في ساعته وتاريخه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.