في سياق التحولات العميقة التي تعرفها مدينة طنجة منذ سنوات، برزت مظاهر متعددة للانقسام الخفي في نظرة فئات من السكان إلى المدينة وإلى بعضهم البعض. وإذا كان من السهل الوقوف عند بعض التعليقات المتعجرفة التي تصدر أحيانا عن أفراد ترعرعوا في المدينة تجاه الوافدين الجدد، فإن ما يستحق التوقف أيضا هو الخطاب الذي يتبناه بعض المقيمين القادمين من مناطق أخرى، ممن لا يترددون في تقديم طنجة كمدينة فوضوية ومتسيبة، دون أي إدراك لحجم التحولات التي عرفتها أو التراكمات التي تحملتها بصبر نادر. طنجة، بطبعها المنفتح، لم تكن يوما مدينة ترفض القادم إليها. استقبلت الناس من كل الجهات، ومنحت فرصا دون أن تطرح أسئلة حول الأصل أو الانتماء. لكن المفارقة أن بعض من استفادوا من هذا الكرم العمراني والاجتماعي، ما لبثوا أن تبنّوا خطابا فوقيا تجاه المدينة وأهلها، وكأنهم ينظرون إليها من موقع أعلى، لا كمكان احتضنهم وأعاد تشكيل مصائرهم. ينتقدون "الوضع"، ويحمّلون المسؤولية لجماعات بعينها، أو لثقافة محلية مفترضة، كما لو أن هذه المظاهر لم تكن نتاجا مباشرا لتوسع عمراني سريع لم تُواكبه سياسات حقيقية في التخطيط والدمج والتأهيل. من يشتكون من العشوائية، يتجاهلون أن كثيرا من هذه البنيات لم تكن لتوجد أصلا لولا الطلب المتزايد على السكن الناتج عن الهجرة الداخلية المتسارعة. ومن يشتكون من الضغط على المرافق، يتغافلون عن أن أغلب البنيات التحتية الحالية لم تُصمَّم لتحمل هذا الزخم البشري والاقتصادي. المقلق أكثر، هو أن لغة التهكم أو الاختزال أصبحت شائعة في تقييم طنجة: تارة مدينة بلا هوية، وتارة أخرى مدينة فاشلة في التدبير، وكأنها قطعة مهترئة يُلقي بها كل واحد بما لا يرضيه. والأسوأ أن هذه الأحكام تصدر أحيانا ممّن لم يُساهموا لا في بناء المدينة، ولا في الدفاع عنها، بل فقط في استغلال ممراتها المتاحة نحو تحسين أوضاعهم. صحيح أن طنجة تعاني من مشاكل حقيقية، لكن تبخيسها لم يكن يوما حلا. كما أن اختزالها في مشاهد العشوائية أو الفوضى هو ظلم مزدوج: لها، ولمن يعيش فيها ويؤمن بقدرتها على التجدّد. الحق في النقد مكفول، لكن حين يُصبح النقد غطاء لخطاب يُبطن نوعا من التعالي، فالمسألة تخرج عن سياقها. طنجة ليست في حاجة لمن يُحبّها بشروطه، ولا لمن يُربّيها على مزاجه. هي فقط مدينة تدفع ثمن انفتاحها، دون أن تشتكي. لكن من حقها أن تُسجّل، ولو بصمت، أن من عبَروا من خلالها إلى فضاء أرحب، هم أحيانا أول من عاد ليحاكمها... بلسان مرتفع، ونبرة جاحدة.