في ربيع يفوح من نسائمه عبق الأندلس. وفي طنجة المعبر، حيث الثقافات تلتقي، وتقتفي الحضارات آثار التاريخ الضارب في العراقة، وخطى رجال عبروا بثقلهم من الداخل والخارج.هنا طرزوا الكلام، وهنا صدحوا بالقول، ومن هنا لونوا الحياة بألوان الفن والإبداع. عشقوا الأرض والناس، وأمتعوا ماازالوا إلى اليوم ما استلهموه منها بالأمس.جادت قرائحهم، وسال مداد أقلامهم، وخطت ريَشهم على القماش أغلى اللوحات، وعلى العود والقيثارة أروع الألحان. فكانت طنجة معشوقة الأدباء والشعراء والفنانين والزوار.هي طنجة يا سادة، اجتمع فيها ما تفرق في غيرها. ليست بعربية، ولا عبرية، ولا أمازيغية، ولا إفرنجية، ولا إسبانية…، هي كل أجناس الأرض مجتمعة، في معمارها، في نمط عيش أهلها، وفي تعابيرهم، وتقاسيم وجوههم، وفي ولعهم لكل فن راق ينبع من موقعها الجغرافي المطل على الأندلس، حاضرة الدنيا، ومجمع الأضداد. من هناك بدأت الحكاية، وهنا نفتح من جديد أبواب التلاقي، ونشيّد الجسور نحو العبور، ونحلق إلى ملتقانا من حيث تهب نسائم الأندلس. مهرجان ليس كالمهرجانات التي لاتتناسب وطابع المدينة العريق بتراثه. وموسم يختلف كثيرا عن كل المواسم التي يحاول أصحابها جاهدين تثبيتها على الأجندة الفنية والثقافية للمدينة، بل يشبه كثيرا بحجمه ورقيه ورونقة مهرجانات كبرى، أخذت أماكنها بخصوصياتها وتميزها، وسط زخم من الملتقيات الدولية التي يحج إليها الناس من كل فج عميق. وكثيرة هي المهرجانات التي تقام من أجل أن تقام فقط، وتُنسى بمضي الزمان، ومغادرة المكان. فيما الموعد مع الولع والولوعين لا يُفَوَّت.سألني مرة أحد الأصدقاء من أهل فاس عن سر هوس ابناء طنجة بالتراث الأندلسي فنا ومعمارا. وكنا حينها نستمتع معا بوصلة من طرب الآلة، تعزفها نخبة من رواد مقهى حنفطة، والحاضرون والحاضرات يرددون معهم أجمل وأحلى الانصرافات في تناغم مبهر، فأجبته كيف لا والمدينة تتلقى التحايا كل صباح من جبال وطأتها أقدام موسى وعبد الرحمان ويوسف وغيرهم، تنقلها إليها أمواج مضيق الفارس طارق أول العابرين نحو الفردوس.كيف لا وأهل المدينة شربوا من الحضارة الأندلسية أجمل ما فيها من فن ونغم، وفيها عاش أمهر العازفين، وأشهر المادحين. سل يا صديقي عن الوكيلي والتمسماني، وسل عن الزيتوني والخلوفي، وسل عن بوخبزة والعروسي، سيأتيك نبأ الراحلين والحاضرين، ويأتيك خبر الصاعدين من فتيات وفتيان المدينة، هم عشاق الآلة والقصيدة حد الجنون. وهم الحافظ لهذا لتراث الغني كما ونوعا، وهم الضامن لبقاء هذا الفن حيا بين الأجيال، رغم سطوة وتسلط بعض ممن أرادوا أن يلبسوا طنجة ثوبا لم ولن يناسبها، عبر تفاهة هي حتما زائلة ولو بعد حين. لطنجة رجال لم تكن تدري ما الحب لولاهمُ، رجال عاهدوها على الرقي، لم يغريهم جاز ولا بوب ولا روك.رجال شربوا من الأندلس ما استطاعوا فنا، وجادوا عليها بمثل ما جادت عليم برضاها. لم يملوا ولم يكلوا رغم تنكر الداعمين، وتجاهل المستشهرين. وأبناء يحنون إلى الزمن الجميل بأبيضه وأسوده، ويتطلعون إلى غد يعيد إلى مدينتهم ألوان مجدها.يحلمون بمهرجان أندلسي يكون بمثابة موسم سياحي قار، على غرار ما تحظى به فاس، والصويرة، وغيرهما، موسم يُسَوِّق ما للمدينة و يُسَوِّقُها، ويجمع عشاقها على إقاع أهلا وسهلا بالحبيب وفي العهد، بدفئ حراة شمس العشي، وليل يؤلفهم فيستحلفونه بالله أن لا ينقضي، ثم صبح يفرقهم ويرجونه أن يَتُب ولا يَعُدِ. فأهلا وسهلا بنسائم الأندلس في ربيع طنجة، يا زائر طنجة في الضُّحى والحبُّ قد سمحَ، عيناكَ أعلنتا أنّ ربيع طنجة قد صحا.