عاشت جهة الشمال على وقع فورة ثقافية طيلة العام، عمت مختلف مدن المنطقة، من طنجة إلى تطوانوأصيلةووزان، وهي المنطقة التي أصبحت بوتقة انصهرت فيها مختلف التعبيرات الثقافية، لتعلن عن ميلاد حقبة جديدة. فمن الحفاظ على التقاليد العريقة التي ترسم فرادة جهة الشمال، إلى إحياء التراث الثقافي، مرورا بالاحتفاء بمختلف الفنون (السينما، المسرح، الموسيقى، الرسم ..)، تناسلت تظاهرات متنوعة شكلت منارة ثقافية بالمنطقة. فهذه الفورة والوفرة في الأنشطة التي طبعت جهة الشمال أثارت اهتمام الإعلام والجمهور على السواء. بكبرى حواضر الجهة، مدينة البوغاز، يتبوأ مهرجان "طنجاز" مقدمة أبرز التظاهرات الموسيقية بفضل سهراته بقصر المؤسسات الإيطالية، حيث اشتمل برنامج دورته الثامنة عشرة على حوالي 50 سهرة جمعت بين رواد موسيقى الجاز والمواهب الشابة، وهو ما استقطب حوالي 4 آلاف زائر أجنبي، بالإضافة إلى آلاف المشاهدين المغاربة. كما أن مهرجان "ثويزة"، الذي يحتفي بالثقافة الأمازيغية كان من بين أهم المواعيد التي تحتفي بالتنوع الحضاري للمملكة المغربية، إذ بالإضافة إلى سهراته الفنية التي يحييها فنانون من مختلف المشارب، تميزت الدورة السابقة بملتقيات فكرية احتفت بعدد من الأسماء الكبيرة، من قبيل نوال السعداوي وخوان غويتيصولو ومحمد شكري. بالإضافة إلى الموسيقى، تمكن الفن السابع من حجز مكانته اللائقة ضمن مواعيد الأجندة الثقافية لجهة الشمال، حيث عاشت مدينة طنجة على مدى أسبوع على أضواء المهرجان الوطني للفيلم، الذي قدمت خلاله آخر الانتاجات الوطنية بحضور ثلة من مهنيي السينما برحاب القاعة التاريخية "روكسي"، التي غصت جنباتها بالجمهور. في الشأن السينمائي دائما، سلطت الدورة الثالثة والعشرون للمهرجان المتوسطي للسينما الأضواء على مدينة تطوان، بفضل نجاحها الكبير وتوافد أزيد من 10 آلاف مشاهد طيلة أيام العرض. وهذا ليس كل شيء، فطموح هذا المهرجان كبير، إذ يسعى لإحداث معهد للسينما بمنطقة الشمال بهدف ضمان مزيد من الإشعاع السينمائي، خاصة في ظل مشاركة العديد من مدارس ومعاهد السينما من مختلف مناطق حوض المتوسط. واحتفاء بمساهمة المرأة في هذه النهضة الثقافية، لم يخلف مهرجان أصوات نسائية الموعد وواصل السير على درب التزامه بإبراز المواهب النسائية الراقية، التي تستلهم إبداعاتها من ثقافات مهد الحضارات، البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب التراث العربي والإفريقي. ففي دورته الماضية، كرس المهرجان الصيت الذي بناه بروية وأناة على مدى عقد من الزمن، باعتباره منصة للتعبير الفني لكل النساء أمام جمهور تطواني ذواق ومنفتح. وكعادتها، شكلت مدينة تطوان حضنا لمجموعة من التعبيرات الفنية الواعدة، من قبيل ملتقى القصص المصورة، واللقاءات الشعرية، والمعارض التشكيلية، وحفلات التوقيع على المؤلفات والدواوين الشعرية. كما أن أب الفنون، المسرح، اختار هذا العام أن يحط رحاله ويعقد عرسه السنوي بشمال المملكة، التي استضافت المهرجان الوطني للمسرح بمدن تطوان ومرتيل والمضيق والفنيدق، مع لحظة قوية تمثلت في تكريم كل من القديرة ثريا جبران والكبير عبد الكريم برشيد، عرفانا بمساهمة هذين الرائدين في الفعل المسرحي بالمغرب. أصيلة، "مدينة الفنون" التي تؤثث الساحل الأطلسي وتجسد هذه النهضة الثقافية بشمال المملكة، دأب عدد من المثقفين والمفكرين من مختلف المشارب على الالتقاء سنويا للتفكير في عدد من القضايا، بينما يبدع الرسامون في تحويل أسوار المدينةالبيضاء إلى جداريات رائعة الزخرفة. ففي دورته الثامنة والثلاثين، توافد مشاركون من المغرب الكبير والعالم العربي وأوروبا والولايات المتحدة وإفريقيا على فعاليات الموسم الدولي لأصيلة، كما أفسح الملتقى المجال إلى سبعة تشكيليات لعرض إبداعاتهن بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية. هذه المدينة الجميلة ذات الروحانية الطاغية، كانت أيضا محفلا للملتقى الوطني لفن المديح والسماع، الذي احتفل في دورته لعام 2017 بالتراث الموسيقي الحساني الصحراوي، فيما تميزت سهرته الافتتاحية بتقديم مواويل عربية أندلسية بصوت عبد الرحيم الصويري الذي أسر الحضور كعادته. إلى ذلك، ينضاف موسم الولي الصالح مولاي عبد الله الشريف بوزان الذي نظم تحت شعار "ذكر وفكر"، والذي تميز بانعقاد مؤتمر حول "فكر التسامح الديني بالمغرب"،بمشاركة متميزة لمستشار جلالة الملك السيد أندري أزولاي. بالموازاة مع هذا الموسم،وفي تقارب روحي وديني مثالي، حج المئات من اليهود إلى جماعة أسجن بإقليم وزان للاحتفال ب "هيلولة" رابي عمران بن ديوان، وهو موعد سنوي يلتقي خلاله معتنقو هذه الديانة التوحيدية مع إخوانهم المسلمين في جو من التعايش العريق الذي عز نظيره، والذي ما فتئ يتقوى على مر السنين بفضل الاحترام المتبادل والتسامح. أما بالعرائش، فقد شكل موسم مولاي عبد الله بن مشيش، الأب الروحي للعديد من الطرق الصوفية بالعالم، مناسبة لتوافد عشرات الآلاف من مريدي مختلف الطرق على جبل العلم للنهل من المعين الفكري والحكمة الروحية لهذا الولي الصوفي. كما ساهمت مدينة شفشاون، بأزقتها المتعرجة التي تخترق سلسلة جبال الريف، في تكريس هذه النهضة الثقافية بجهة الشمال، التي تشكل ملتقى لروافد ثقافية مختلفة. فمهرجان "أليغريا" بميوله الواضحة إلى الاحتفاء بالموسيقى اللاتينية والإيبيرية يعد لحظة فارقة في السنة الثقافية، لكونه يعمل على ترسيخ طابع المدينة المتسم بالانفتاح وغنى الموروث المحلي بتأثيراته العربية والإسبانية. مختلف المهرجانات واللقاءات، التي يعد بعضها من بين الأرقى والأبرز على مستوى العالم، مهدت الطريق أمام تظاهرات ثقافية واعدة ما زالت تتلمس خطى النجاح، من قبيل مهرجان نكور للمسرح المتوسطي بالحسيمة، أو "ليالي الصوت" بطنجة.
وإذا كان المشهد الثقافي بجهة الشمال قد خرج فائزا على مستوى الكم خلال العام الذي شارف على الانتهاء، فإن الرهان الحقيقي يتمثل في مدى عمق وجودة هذه الملتقيات الثقافية، وهي مناسبة للتأمل في الشأن الثقافي من أجل تطويره وضمان إشعاعه على كافة تراب الجهة. فالتلاحم الاجتماعي والتنمية البشرية والانتعاش الاقتصادي ستكون دون شك من القطاعات التي ستجني ثمار أية نهضة ثقافية أفقية.