هذه المقولة الشعبية تصف السحر الغريب والتناقض الرائع للمدينة الساحلية المغربية التي أُسست في القرن الخامس قبل الميلاد. يزورها الناس ليكتشفوا ما تخبئه من أسرار وأحلام، فيدركون أنّ طنجة هي التي اكتشفتهم وأسرت قلوبهم. ثقافات وحضارات عدّة شاركت في بناء شوارع المدينة وأحياءها، من القرطاجيين والأمازيغ والفينيقيين للرومان والعرب؛ ثمّ الإنجليز والإسبان وغيرهم من الأوروبيين حتى أواسط القرن العشرين، راسمة في طنجة وقلوب سكّانها خرائط لا تمحى لمن مرّوا بها وصاروا جزءاً من تاريخها. أسّس الفرنسيون حكومة وصاية في المغرب عام 1912م، متنازلين عن شمال و جنوب الصحراء الكبرى للقوى الإسبانيّة. في شهر كانون الثاني من نفس العام، رست سفينة فرنسية في مرفأ طنجة مصطحبة الرسّام الفرسي هنري ماتيس. نزل الفنّان في فندق ال “Hotel Villa de France” لكن الطقس القاسي آنذاك أحبطه، فعبّر عن استيائه برسالة إلى الكاتبة الأمريكية غيرترود شتاين (1874_1946)، كتب فيها: “هل سأرى يوماً مشمساً في المغرب؟” استُجيبت دعواته بسرعة، وتبددت الغيوم، وطلّت سماء زرقاء استفاضت طنجة بنور شمسها. ألهمت ألوان المدينة ماتيس حيث أصبح الأخضر والأزرق والأصفر والزهري علامة لوحاته الشهيرة. تركت طنجة وألوانها الغنيّة أثراً عميقاً على أعمال ماتيس، رغم قصر إقامته في المدينة. حاول ماتيس رسمها بطريقة مختلفة عن فنّانين فرنسيين مستشرقين تمركزت أعمالهم حول محوريّ المناظر الطبيعيّة والحريم. لم يكن ماتيس الفنان الوحيد الذي وقع تحت سحر هذه المدينة المغربيّة، فقد أتاح تاريخ طنجة الفريد من نوعه وتشابكها مع العالم الغربي فرصة لكي تصبح موقعاً وساحةً لصراعات فكريّة وهوياتية. يبقى تاريخ طنجة الأدبي من أكثر السرديات إثارة في عالمنا العربي إن لم يكن في العالم بأجمعه. في العام 1923، أُقرّت المدينة كمنطقة دولية محايدة ذات إقتصاد مفتوح وكانت محكومة بتراخٍ من قبل عدّة دول مستعمرة. جذب الاتفاق السياسي والإقتصادي الكثير من الجواسيس ولكن أيضاً الرسّامين والسياسين والشعراء والكتّاب الذين رسموا وشكّلوا و فصّلوا طنجة الشبه غوغائية على مقاساتهم. أصبحت المدينة تترقب تجارب وافديها الجدد وسكّانها الأصليين، متيحة لهم الفرصة لتحدّي أو إعادة رسم أفكارهم عن الهويّة والوطن و المنفى. لعلّ أشهر الفنّانين الذين اعتبروا طنجة مدينتهم هو الأمريكي بول بولز (1910_1999)، الذي استقر في المدينة عام 1947 وعمل ككاتب ومترجم ومؤلف موسيقي حتى مماته عام 1999. أثناء عمله كملحّن موسيقي للمدرسة الأمريكية في طنجة في العام 1951، تعرّف بولز على “مجموعة جاجوكة الغنائية” المنحدرة من بلدة جهجوكة في ريف المغرب، بقيادة الموسيقار بشير عطّار. سحرته أنغام الموسيقى الصوفية بعمق، فقرر السفر حول المغرب لتسجيل كافة أساليب وأنواع الموسيقى التراثية في البلاد. قامت العديد من اللقاءات الفنيّة والفكرية في شقة بولز، قرب مسجد محمد الخامس في طنجة، وساهمت في تشكيل الوسط الأدبي المشوّق للمدينة. وانعكس في فنّه أثر علاقته الوطيدة بالمغرب، وخاصة بطنجة. ولكن بحسب رأي البروفيسور المغربي خالد الأمين، شعر بولز بالعزلة في المدينة إذ رأى أضوائها السحرية تختفي ومعالمها تنمحي تحت التأثير المنتهك للحضارة الغربية. اعتبر الكثير من الكتٌاب والباحثين العرب علاقة بولز بطنجة استعمارية. فبحسب أمين، لم يكتب بولز من أجل سكّان المغرب بل محا أصواتهم و آرائهم من سطوره. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل استطاع بولز رسم صورة حقيقية عن المدينة وناسها أم هل كانت أفكارهه تعكس أوهامه المستشرقة؟ على كل حال، لا شك بأنّ بولز كان من أشهر مغتربي طنجة. إلى جانب عمله ككاتب وملحّن، ترجم بولز عدّة أعمال لأشهر كتّاب المغرب كالطاهر بن جلون ومحمد شكري. اختار بن جلون اللغة الفرنسية كلغته الأدبية ومن أشهر أعماله كتاب "طفل الرمال" (1985)، و"ليلة القدر" (1987) الذي ربح به جائزة غونكور الفرنسية عام 1987. إن كان الطاهر بن جلون يعتبر الوجه الأدبي المتطبّع بالغرب، فإن محمد شكري يقدم على أنه ابن طنجة. عاش شكري حياة استثنائية من الصغر إلى سن الرشد. فكبر في ريف المغرب في حالة فقر مدقع حيث كان والده يعنّفه و يسيء معاملته. انتقل شكري إلى طنجة، مدينة الأحلام والفرص الجديدة، وبدأ العمل كبائع في شوارعها، لكنّ الحياة الصعبة أجبرته على رؤية جانبٍ آخر للمدينة، مليء بالسكر والمخدرات والدعارة. قرر شكري الذهاب إلى المدرسة وهو في السن العشرين من عمره، حيث كان يقول بأنه كان أميّاً إلى وقتها، واستطاع تعلّم القراءة والكتابة خلال سنوات قليلة. في العام 1972، كتب شكري سيرته الذاتيّة في روايته "الخبر الحافي"، وقام بولز بترجمتها إلى اللغة الإنجليزيّة. بعكس بولز، ترتبط كتابات وفضائات نصوص شكري ارتباطاً وثيقاً بالمعيش اليومي. يتطرأ إلى جروح طنجة، يفتحها ويملّحها، ليحللّ نسيج المخيّلات التي تعتبرها مدينة ساحرة في الشرق. يسلّط الضوء على الفروقات الفادحة ما بين حياة المغتربين الأجانب الذين استفادوا من نظام الرأسمالية آنذاك، والطبقة العاملة من الشعب المغربي التي عاشت ظروفاً اقتصادية أليمة. بحسب الكاتبة والباحثة منى الشريف، استطاع شكري إعطاء الشعب المغربي صفة فاعلة تحرّرهم من قيود أدبيّة تخصّص لهم دور البؤساء الصامتين. تقول الشريف أنّ شكري أضاف بعداً مهمّاً إلى دور فتى الشارع واصفاً عالمه بلحظات من "الاستغلال الجنسي والعنف الجسدي ولحظات من الوحدة المتعمّقة وسط ثقافة مدنية غارقة في فضائي المال واللامبالاة". أعطى شكري هويّة أدبيّة لجزء منسي من المجتمع المغربي وأعطى طنجة صوتاً. قدّم الوسط الأدبي في طنجة خلال أعوام الخمسينات والستينات تجارب وأعمال ناقشت مواضيع تعتبر "تابو" في بلد إسلامي كالمغرب. كان هذا التناقض الفكري نادر الوجود آنذاك، وأصبحت فرصته اليوم أصعب. بدأت طنجة تتغير في السبعينات حيث بائت تجربة المنطقة الدولية واقتصادها المفتوح بالفشل. طنجة، المدينة التي استقبلت فنّانين من مختلف مناحي الحياة، رفعت رايتها البيضاء. تخضع طنجة اليوم للكثير من التغييرات المدنية والمعمارية. من المنتظر بناء مرفأ جديد فيها، بالإضافة إلى خطّ قطار سريع سيكون الأول من نوعه في قارّة إفريقيا. تتضمن المشاريع أيضاً تجديد وإعادة ترميم الجزء القديم من المدينة والأحياء المستعمرة. رغم كل هذه التغيرات، تبقى بعض المعالم القديمة التي ألهمت شكري وبولز وأصدقائهما صامدة، مترقبة كل متجوّل/ة طلبت نفسه/ها المغامرة. فهنا نرى مسافرة تتمشّى في شارع باستور، متأملة مبانيه فتأخذها إلى عصر كانت فيه طنجة تحت الاستعمار الفرنسي. تتعب قدميها من المشي، فتتوقّف لتناول القهوة في مقهى "Gran Cafe de Paris" متخيلة الكتّاب الكثر الذين جلسوا مكانها. تذهب في مشوار قصير، فتجد نفسها جالسة في "Cafe Hafa"، المقهى الذي ناهز عمره المئة عام، متأملة البحر وتاريخه المثير. كانت طنجة مدينة الحالمين، أوت الكثير من الأدباء والفنّانين وأعطتهم الفرصة للبحث عن معنى الوطن والمنفى والهويّة. *كاتبة لبنانية