قلَّ مَن لا يحفظ قوله تعالى ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[1 ، وكثُر مَن يغفل عن مراد الآية السادسة والخمسين من سورة الذاريات؛ فأن نعبد الله تعالى نقطة اشتراك توحدنا في التسمية، فنُصلي زرافات و فُرادى، و نصوم إمساكا عن شهوتي البطن و الفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، و نخرج مقادير الصدقة الواجبة حين تَوفُّر النصاب ودوران الحول، إبداء أو إخفاء، و نحج بيت الله الحرام بتحقق الاستطاعة المادية و المعنوية، ثم نختلف في المشرب الروحي و النحلة القلبية، اختلافا عظيما. إن ما ذكر من صنوف أعمال الجوارح التعبدية ليس إلا صورا، أرواحها أعمال القلوب، و ذروتها وجود سر الإخلاص فيها، وقد تجلى هذا المعنى في الحكمة العطائية العاشرة: «الأعمال صور قائمة، و أرواحها وجود سر الإخلاص فيها »2 أيْ إن روح الأعمال يُعبَّر عنها بحالة قلبية ذوقية إيمانية حيَّة، بما هي شعور و إحساس باطني بالغيب، تربط وجود الإنسان، مستغرقا في الزمان و المكان «بقوة خفية حكيمة مهيمنة عُليا تدبر كل شيء» 3 فتكون الأعمال شواهد على عين الدين و جوهره، و ليس العكس، فإذا عُدم الجوهر، صارت الصور فارغة من كل محتوى، فلم تفد كثرتها. وكبيان لهذه الحالة القلبية الذوقية يقول رسول الله r « ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلامَ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً»4 وللعلماء كلام في شرح الحديث الشريف، لا يسع المقام للاختلاف إليه، بيْد أن دلالة الحديث على تلكم الحالة القلبية الذوقية الشُّهودية، المتفاعلة مع المحيط الخارجي تأسيسا على القناعة و الرضا و التسليم، متجلية للناظر. ومقصودي، التنبيه إلى أهمية بناء خطاب حيٍّ حين تناول أعمال الجوارح والحث عليها والترغيب فيها، ببنائها على أصلها المكين، وهو الحس الإيماني القلبي الذوقي، أو العين الداخلية، التي يشهد بها الفعل الإلهي في كل شيء 5، فيُدرك عدلُه وحكمته ورحمته، في تدبيره عز وجل لهذا الكون. لأن حال تبلد هذا الإحساس وتعمى هذه العين، يصير الإنسان عاجزا عن إدراك ما يتجاوز صورته، فيعظم الظاهر تعظيما ينسيه باطنه، وكتعبير أدق عن المعنى، أقتبس عبارة لتوفيق الحكيم، تخيلها قول الشيطان لفُوسْت «إنك أيها الإنسان لا ترى إلا ما كان على صورتك»6. إننا نصوم، ونجتمع على فعل الصيام، كشعيرة تعبدية، حكمها الوجوب على كل مسلم عاقل بالغ أداء وقضاء7، نصوم صوما ظاهره التعبد لله عز وجل _و هو كذلك إن شاء الله _ نأتي به وفق الوضع الاصطلاحي الفقهي بإمساك مخصوص عن شيء مخصوص في زمن مخصوص من شخص مخصوص8 فيمسك المسلم9، عن المفطرات الثلاث طيلة بياض النهار، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وانطلاقا مما مهدت به، فإن هذا الوضع، غير كاف للتعبير عن المعنى العميق لعبادة الصيام، التي تروم صياغة تجديدية ذوقية للشخصية الوجودية للفرد المسلم، بتطوير حسه الذوقي الباطني بأسلوب تربوي. فالوضع الاصطلاحي السالف، يكرس سطحية فعل العبادة، ما يحذو بالعامة عن سوء فهم، ليمتحوا من غير المُهذب فيهم للانقلاب عن مقصود التعريف، لِنلمس خلال شهر القرآن، مظاهر الشغف بالأكل و الشرب، حد الإسراف حين الشراء، و الشره وقت الاستهلاك، و عدم الاستنكاف عن جعل مآل فضل الطعام، القمامات، بدل إقامة صلب الفقراء به، وذاك ما يضر باقتصاد الأسر ( التدبير المالي) و يسيء إلى سلامة أبدانهم، و يطفئ جذوة الإحساس الإنساني فيهم بعمق معنى التكافل الاجتماعي المقصود من الصيام من ضمن ما يقصد، الذي ليس مجرد تنازل عن مقدار مالي يُخرج من الحرز و يُدخل في ملك الآخر ؛ فحين ينطبع _ وقد انطبع من برمجيات التنشئة الأسرية و المجتمعية_ في لاوعي المسلم ،أن بياض النهار للإمساك عما أبيح من شهوتي البطن و الفرج _ دون أن يفطن إلى أنه يمتنع طوعا عن مباح صار محرما إلا لعذر_ فهو يكرس سواد الليل للإقبال عن هذه الشهوات حد الإفراط، و ما أقوله ليس رجما بالغيب، فالإحصائيات تثبت أن خلال شهر رمضان، يُصرف ستين إلى سبعين بالمئة من إنفاق الأسر المصرية إلى الطعام و الشراب، ويرتفع الاستهلاك لدى الأسر السعودية بمعدل يتردد من ثلاثين إلى مئة و خمسين بالمئة، و تقدم البنوك المغربية لمنتج قرض رمضان الذي رفع من حجم الديون الاستهلاكية عام 2014 م بمعدل خمسة بالمئة10 ؛إن الصائم يحذر في النهار عما يثير شهوة الجنس بداخله، ثم يوقظ هذه الشهوة ليلا حتى ترعن و تزبد، فحسب موقع (Alexa) التابع لأمازون قُدِّر عدد زيارات المغاربة للمواقع الإباحية يوميا في رمضان بمئتين و أربعين ألف زيارة، و ما استوعب الفاعل صورة الاعتكاف، إن بلغته، إذ الرسول الله r كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، و بهديه اقتدى الصحابة، لكن كان منهم من يخرج من المسجد و هو معتكف فيجامع امرأته ثم يعود، فنهي عن ذلك كما هو واضح في تفسير المفسرين لقوله تعالى ] ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد [. ولهذه الإشارة التربوية مقاما نعود إليه في مقال آخر إن شاء الله تعالى. إن الصائم يكون شديد الحذر في النهار من المفطرات بالمعنى الفقهي الجاف، و يستمر الجهاز الطرفي العميق من الإنسان في إدارة فعل الإنسان و ردود أفعاله، فيستمر قول الكذب و الزور و البهتان، و الغيبة و النميمة و القذف، و تنضح القلوب بالحقد و الحسد و البغض و الكبر و العجب و غيرها ناهيك عن الغش التجاري، ويُرَوَّع أهل السكينة من قبل ( المترمضنين) بالاعتداءات العنيفة ضربا و جرحا التي تبلغ حد إزهاق الأرواح ففي تقرير عربي أُثبت ارتفاع معدل حصاد الجرائم في رمضان مقارنة ببقية شهور السنة، مع التحفظ عن نوعية الجرائم، بنسبة ثلاثين بالمئة11 و هذا ما أكده تقرير وكالة جيهان للأنباء، إذ معدل الجريمة في رمضان يرتفع من ثلاث إلى سبع حالات12.... ونلمس انفصال روح الصيام عن ظاهره، أكثر حدة عند صائمٍ ظاهرا يشعر بقهر الصيام فيه لعادة ذميمة لا يجفل عنها في شهر يسعى للسمو به _ إن هو فقه وسعى_ بانتصاره على نقائصه، فيزداد رسوخ التدخين عند المدخن، وينمو الحرص على ملء المنشقات وإعداد (النًّفْحة)، ويزدان عند أهل الصيام الجاف الحرص على تنقية منافذ الدخان في (السَّبْسِي)، والسعي وراء أجود أنواع الحشيش ولفه في لفافات حين وقت الفراغ، وقت ما قبل الغروب. لقد عدَّ الحكماء (أهل الحكمة)، من رعونات النفس إحالة الأعمال على وجود الفراغ، نعم، فمن الحمق، ربط الإتيان بالأعمال الصالحة، بأوقات الفراغ، وأشد حمقا وخبالا أن تحال الأعمال التي لا تفيد أو المنهي عنها على وقت ما قبل الغروب، فتخصص للنوم، أو لفعل شيء مما سلف ذكره، أو غيره، مما يخدش بصفاء مرآة الحس الباطني. فإذا صام من يصوم ولم يلمس، استصحابا، وقع أثر إصلاح شدي على نفسه أو تعزيز صلاحه بتعميق ذوقيته، في شهود معاني الجلال والجمال والكمال، فليعلم أنه يصوم صياما ظاهرا، خبت جذوة روح صورته، فليس العيب في عبادة الصوم تشريعا وتكليفا ولن يكون، بل العيب في الصائم؛ لأن الصيام عبودية، تستلزم منا أن نزكي بشريتنا عن كل وصف مناقض لها، حتى نقترب من حضرة المولى عز وجل. و كل من يستسلم للأوصاف المنافية لعبودية الصيام و يتعايش معها، ثم يمتنع عن الأكل و الشرب و الجماع في بياض النهار، فقد انفصل عن الصيام الحي و من الدليل النقلي على ذلك قول رَسُولُ اللَّهِ r «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ13 « و من دقيق الكلام حول مقتضى الحديث قول ابن عربي أن مَن فعل ما ذُكر لا يُثاب على صِيامه، و قد انتبه ابن مودود الموصلي إلى أن تعريف فئة من الفقهاء للصيام يفتقر إلى العمق الباطني الذي أتحدث عنه ،فأتى بصياغة في تعريف الصيام أراها نواة التعريف و روحه، و هي قوله بصفة مخصوصة، و شرحها على أنها قصد التقرب، و التقرب من الله عز و جل هو الذي يعطي الحياة لفعل العبادة مهما كانت، قال تعالى ] كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب [14 أي اجتهد في القرب إلى الله بالصلاة على حد قول الطاهر بن عاشور، فيرتب التقرب على مراتب، قدر اجتهاد المرء تخلقا و تحقيقا له من فعل العبادة، الذي ينمي الوعي لدى السالك إلى الله عز و جل. فالحديث عن فعل عبادة الصيام حديث عن مؤداها و هو التقرب، و العبادة التي خلق الجن و الإنس من أجلها، كما هو منطوق الآية التي صدرت بها المقال تحتضن كل الصور الحية الإيجابية في الحياة، و الصورة الحية تعيش في اللحم و الدم و في القيم و المزايا، على حد تعبير العقَّاد، حتى ينطبع عليها الحي، و هكذا نريد أن ينطبع المسلم على صورة الصيام الحية الجامعة لنظمة من الصور، و تصير عظيمة الأثر في فيسيولوجية الإنسان و نفسيته، و قيمه و مزاياه، ليحقق قربه من الله، قال رسول الله r « من قام رمضان إيمانا و احتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه15 ...» فأن تقوم رمضان لا ينصرف معناه إلى محض الصلاة ليلا و إن كانت أسمى معاني العبودية إن قصد منها القرب، و إنما المقصود، من خلال مقترحنا، القيام بمعنى الأداء الأمثل للصور الحية المشكلة لصورة الصيام العظمى، و الصور الحية الإيجابية تمثلها الصفات الإنسانية، و لكن هذه الصفات وجب أن تستقر في وعاء الإنسانية أو يطمح المرء لما يعلو عليها برفق، من الصفات الإلهية _الرحمة، العفو، الشكر_ و الصفات الملائكية، ويحذر من الانحدار إلى ما دون الإنسانية من الصفات الشيطانية و البهيمية، و إن فَعل، و احتمال الفعل وارد و متردد من شخص لآخر، رمَّم ذلك بالتوبة القائمة على الاستغفار مصداقا لقوله تعالى ] والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون[16 إن الخطاب القرآني في الآية الكريمة من حيث النعوت تصف المتقين، من فعل الفاحشة و ظلم النفس و ترميم ذلك بالاستغفار المنبثق عن ذكر الله و عدم الإصرار، و القول بمعناه في تفسير الطبري لئلا يستهجن مني الكلام، و فعل الفاحشة أكانت بمعنى الزنا أو ما عظم قبحه من الذنوب، و ظلم النفس بأن يفعل بها غير الذي كان ينبغي أن يفعل بها، هو عين الانحدار إلى ما دون الإنسانية من الصفات الشيطانية و الدليل على الكلام واضح من قول الله تعالى ] الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا [ 17 وبناء على ذكر، يتحقق الصيام الحي، الذي لا نحصره في_ الفعلية الفقهية_ بل نتفقه فيه فقها روحيا ذوقيا شهوديا، ونعلم بحدوده التي تبصرنا بالسعي إلى الله عز وجل وذلك أمر تمامه. فالصيام الحي يرتبط بمفهوم الخير، الذي يعرفه العقاد بشكل بديع بقوله «القدرة على الحسن مع القدرة على القبح، وهو الاختيار المطلوب بعد التمييز بين القدرتين» وعنه أخي القارئ، لك أن تكون من أهل الخير، وتميز بين صيامين، صيام حي يرتقي بإنسانيتك، ويغدق على قلبك طلاوة المعراج الروحي، ويفتح بفؤادك آفاقا معرفية شاسعة، ويعزز مزاياك النبيلة، وصيام جاف منعدم الروح، يقف فاعله عند معاني العلاج البدني بالصيام هنيهة ثم ما يلبث حتى يفسد ذلك بأسوء داء حين يرخي الليل سدوله. وأنت قادر على الحسن (الصيام الحي) وقادر على القبح (مفسدات الصيام)، وميزت بين القدرتين من حيث الأثر، فاسلك لنفسك في هذا الشهر الفضيل سبيل الحياة. الهوامش: 1- الذاريات الآية 56 2- الحكم العطائية، لابن عطاء الله السكندري، ص 47 3- مصطفى محمود ، الإسلام ما هو ؟ ص 4 4- رواه الإمام مسلم في صحيحه و انفرد به عن البخاري، الحديث رقم 34. 5- العبارة بالخط البارز مقتبسة حرفيا من كلام الدكتور مصطفى محمود من الكتاب السابق ذكره. 6- عهد الشيطان، توفيق الحكيم ص 17 7- لمزيد توسع في المعنى الفقهي راجع الاختيار لتعليل المختار، ابن مودود الموصلي ج 1 بدءا من الصفحة 125 8- فقه الصيام ، محمد حسن هيتو ص 7 9- الشخص المخصوص إذا كان أثنى يشترط حينئذ الطهر من الحيض و النفاس كما هو مقرر في الفقه. 10- برنامج الاقتصاد و الناس، عنوان الحلقة : رمضان زيادة الاستهلاك و ارتفاع الأسعار، التي بثت بتاريخ 12.07.2014 11- جريدة مصرس الإلكترونية. 12- جريدة العرب عدد 9622 ص 12 13- صحيح البخاري حديث رقم 1804 14- العلق الآية 19 15- الدرامي الحديث رقم 1776 16- آل عمران الآية 135 17- البقرة الآية 268