جرت العادة و منذ سنوات مضت من عمر هذا العمود، الذي أطل به عليكم ، أن أتناول فيه بالواضح و المرموز- أي المشفر- أهم الأحداث التي تركت أثرا في نفسي، ما بين، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. و إني لشاكر لكل الرسائل والتعليقات التي أتوصل بها، والتي أعتبرها قياسا لمدى التتبع الذي تحظى به الأسطر التي أخطها هنا، والتي تتضمن برأيي و تحليلي المتواضعين، كل ما يجري ويدور من أمور تهم المجتمع المغربي عامة، و الطنجي خاصة، بحكم انتمائي إليه، ومتتبع لشأنه عن قرب. و بما أننا في شهر مارس، وما لمارس هذا من ذكريات، عن أحداث وقعت، كان لها وقع خاص على المسارين السياسي والاجتماعي، على الصعيدين المحلي و الوطني، فقد اخترت أن أتناول ما أتذكره عن مارس 2011، من مشاهد لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي، ولو طال الزمن. لم تكن ليلة الأحد، السادس من مارس سنة 201 بالنسبة لي كسابقاتها من الليالي، بل اختلفت عنها كل الاختلاف، حين قضيتها رفقة بعض الزملاء على رصيف ميناء طنجة المتوسط ، تحت رحمة طقس بارد و ممطر. كنا ننتظر وصول إحدى الباخرتين اللتين تقلان عددا غير هَيِّنٍ من الجالية المغربية المقيمة بليبيا، فارين من ويلات الحرب التي يشنها جنون القدافي وتباعه من المرتزقة، على شعب لا ذنب له سوى رغبته في التغيير، بما يفرضه العصر من تخلص من ظلم و جبروت الحاكم وحاشيته، والتحرر من قيود التحكم في الأرزاق والأعناق. كان جانب من الميناء قد تحول إلى خلية نحل تسابق الزمن، لإعداد ما يلزم الحدث الذي تجند له الكل، الرجال، النساء، الأمن الوطني، الدرك الملكي،الوقاية المدنية، متطوعو الهلال الأحمر...إلى جانب كبار المسؤولين الأمنيين والإداريينء. نصبت الخيام، وأعدت الموائد، وجهزت الحافلات التي ستنقل المنكوبين كل إلى وجهته. و بقدر ما كنا سعداء بسلامة وصولهم، بقدر ما أثر فينا مشهدهم وهم يهتفون بحياة المغرب وملكه، مرددين النشيد الوطني، وسط زغاريد النساء. كانت الصور محزنة بكل المقاييس، فلكل حكايته، لكن المآسي تتشابه، "لم يكن لنا بديل عن الفرار"- يقول احدهم –" لقد تركنا المتاع والمال والأحباب والأصدقاء"... شهادات صادمة لنساء تركن أزواجهن، وتلاميذ وطلبة غادروا مؤسساتهم، واختاروا دفئ الأقارب، وحضن البلد، الذي لم يكونوا ليغادروه لو توفرت لهم فيه لقمة العيش، وكفتهم آلام الغرفة، وأوجاع الفراق. وبالرغم من حفاوة وحرارة الترحاب، شعرنا بحزن يطقى أحساسيس العائدين، ولاحظنا حالات التوهان بارزة على محيا أرباب الأسر منهم، أمام مصير لا يعلمه إلا خالق ورازق العباد.لحظات صعبة قضيناها، لم نتحمل معها انتظار الباخرة الثانية، التي كنا على يقين أن من على متنها لا يختلف حالهم عن الذين سبقوهم، وعدنا أدراجنا إلى طنجة، التي كانت تعيش في تلك اللحظات حالة من الترقب، والتكهن، و التفكير، فيما قد تؤول إليه الأوضاع، بعد أن قررت بعض الجهات الخروج إلى الشارع مرة أخرى للاحتجاج و التظاهر. كان الاختيار هذه المرة أيضا منطقة بني مكادة، ولست أدري إن كان وراء هذا الاختيار تجنيب وسط المدبنة تكرار ما حدث يوم 20 فبراير، أو أن في الأمر غرضا آخر، فعندما نتحدث عن بني مكادة في يوم الأحد، فإننا نتحدث ربما عن أكبر تجمع للبشر في طنجة. فهو يوم التسوق، وبني مكادة سوق كبير ومعروف، ويقصده الناس من مختلف الأحياء الأخرى. نتحدث أيضا وهذا هو الأهم، عن معبر للآلاف نحو وسط المدينة. فالتوقيت الذي اختاره المتظاهرون كالرابعة بعد الزوال، فترة يصعب فيه اجتياز شوارع مولاي سليمان، و عائشة مسافر، و مولاي علي الشريف. الشوارع الثلاثة الرئيسية التي تلتقي في الحديقة المقابلة لسينما طارق، المكان المختار للوقفة، حيث تعرف في تلك الفترة تدفق سيلان من الرجال والنساء والأطفال، مما يصعب معه السيطرة على الأوضاع الأمنية، خصوصا إذا تحولت الوقفة إلى مسيرة، ووقع الاحتكاك برجال الأمن، وهو الأمر الذي تفاجأ الكل بعدم حدوثه، وهنا وجب التنويه بسكان بني مكادة وشبابها، لقد في ذلك اليوم كذبوا كل التوقعات، وأثبتوا أنهم في مستوى الاحتجاج السلمي، فلم يكن أحد يتوقع أن مظاهرة بني مكادة يمكن أن تمر دون أحداث شغب، وإتلاف للأملاك الخاصة والعامة. و لم يكن أحد يتخيل أن رجال الأمن و سياراتهم سيسلمون من حجارة أبناء المنطقة، لكن كل شيء مر بسلام، رغم بعض المناوشات التي لم تترك أثرا بليغا في نفوس الطرفين. و هكذا مر يوم الأحد سادس مارس، تاركا في ذاكرتي صورا لا أظن أن نسيانها أمر سهل، خصوصا و أن الحديث عن أسباب هذه الوقائع لا زال قائما، والأحداث التي نتجت عن ربيع عربي جاف لازالت تتعاقب، و الأحوال تسوء في بعض أقطارنا العربية، مع ما يصاحبها من خسائر في الأرواح، و تدمير للممتلكات، ألا لعنة الله على الفتنة و من أيقظها.