في مقهى بورتو البرتغالي بحي كولبورن، سلمته النادلة الحسناء فنجان قهوة "كابوشينو". وقف برهة ساهما، بدا مصعوقا وكأنه سيجهش بالبكاء، كان يرتدي أسمالا رثة، تفوح منه رائحة نتنة تزكم الأنوف، ذلك أنه يعيش حياة التيه والتشرد، يتوسد الأرض ويلتحف سماء لندن، ولكم أن تتخيلوا شخصا ينام تحت جسور تغشاها رسومات غرافيتي، يحتضن كلبا من فصيلة بيتبول كمؤنسه الوحيد، ويقضي ليال باردة في ساحات مدينة طقسها قارس ومعتم على الدوام، ويلفها الضباب صيفا وشتاء. حينما انتقل إلى لندن سقط في ظلمات المخدرات وغياهب الضياع، لاحت في مخيلتي صورته حين كان طالبا مدللا أنيقا في ثانوية " تيجيريا" بالعرائش، أشفقت عليه وتألمت لحاله كثيرا، لقد أصابته لعنة الزمن، ابتلعته زوبعة بحر الإدمان، حتى صار يذرع الشوارع كرجل أبله، يمشي بين الناس من دون هدف ولا بوصلة. عرفته كزميل أيام الدراسة، وحينما هاجر إلى بريطانيا في منتصف الثمانينات، بدأ يشتغل نادلا في فندق هيلتون المصنف، تزوج فتاة مليحة وأنجب طفلتين جميلتين، لكن دارت به دورة زمن قاس وعنيف، لم يسعفه الحظ، كشر الزمن اللعين عن أنيابه الحادة، فقذف به للعيش في الشارع والطرقات. يا لسخرية القدر، شاب في مقتبل العمر، ينحدر من عائلة ميسورة، سره زمن الوطن وساءه زمن الاغتراب. (من سره زمن ساءته أزمان). راح يتأمل وجوه الرواد وكأنه يبحث عن شيء يفتقده، ما لبث أن تطلع ببصره نحو سقف المقهى مغمغما بشفتيه، خلته يبتهل إلى الله في سره. وما هي إلا لحظات حتى رمق طاولة فارغة، فسار نحوها في تثاقل، ليجلس وحيدا منزويا في ركن قصي يرتشف قهوته، وكأنه تعمد التواري عن الأنظار. اخترقت الطاولات ومشيت في ممر طويل لأصل إلى طاولته، استويت على كرسي فقابلته وجها لوجه، بدا وجهه متجهما وأكثر شحوبا. حدثته لكنه لم يعبأ بوجودي، ظل يحدق في الفراغ تارة، وفي فنجان قهوته تارة أخرى، ناديت عليه بإسمه، ما بك يا نور الدين؟، إلا أنه ظل مطرقا رأسه نحو الأرض، لم يرمش عينيه، ولم ينبس ببنت شفة. وحين هممت بالانصراف أمسك بذراعي بقوة. صاح قائلا: – اجلس معي يا صديقي، لا تتركني وحدي، أشعر بحزن عميق يلتهم قلبي، لا تذهب، لم أعد أقوى على الكلام، وصلني خبر صادم. مات والدي!