توجه إلى المقهى كعادته صباح كل أحد ... شعوره بالقلق جراء كابوس الليلة الماضية، ما يزال مسيطرا عليه، ربما بشكل أعمق وأشد. تصبح أنفاسه لاهثة وضربات قلبه متسارعة، كلما داعبت خياله صور من هذا الكابوس ... رأى نفسه في الحلم يعدو في أزقة مظلمة بلا هدف، الأزقة تعج بعيون من مختلف الأحجام تنط فوق الإسفلت، وأثناء عدوه يفرقع ما كان منها تحت قدميه، فيسمع لها دوي وانفجار. يتطاير السائل الأسود اللزج، يلتصق بملابسه، يتناثر فوق رأسه، ويسيل فوق جبهته وعينيه. يطلق بين الفينة والأخرى موالا: يا ليلي، يا عيني ... لم يكن مستمتعا بطربه، بل غشيه الخوف والهلع، تثاقلت خطواته، ومن فرط التعب سقط ممددا فوق عيون تفرقعت هي الأخرى، بينما انقضت عليه المئات وهي تحدث ضجيجا مزعجا. فاستيقظ مذعورا يجول بعينيه في الظلام. يا ليلي، يا عيني ... دخل إلى المقهى، حياه روادها، لم ينتبه لأحد، خطواته متثاقلة كمن ينوء كاهله بحمل ثقيل، ذقنه معشوشب بشعيرات سوداء حادة مثل نظراته. لا مبالاته بنظافة جسده وهندامه دامت هذه المرة أكثر من أسبوع، بين الفينة والأخرى يدس أصابعه بين خصلات شعره المتشابكة ويغرس أظافره عميقا ويحك بقوة لدرجة يجد بعدها أثار الدم بين أظافره. سوى نظارتيه، وحك أسفل ظهره بقوة، فانسدل طرف قميصه خارج السروال. اختار طاولة في ركن منزو من المقهى، وكالمعتاد وضع النادل أمامه قهوة سوداء وكأس ماء، نظر إلى فنجان قهوته بإمعان وبعد لحظة صمت طلب كأس حليب. سوى نظارتيه مرة أخرى بسبابته وغرق في تأملاته. حرك رأسه يمينا وشمالا وتنهد عميقا بتأفف واضح. حمل فنجان قهوته وأفرغه كاملا في كأس الحليب، بدأ ينظر إلى تموجات اللون الأسود الذي اختلط بالأبيض ... تسارعت حركة السائلين، بدأ الأسود يتجمع بالتدريج وسط الكأس، صارعلى شكل كرة سوداء أحاط بها البياض الناصع، تسارعت الحركة كأنها زوبعة، سيطر عليه الهلع لدرجة جعلته غير قادر على تحويل نظره في اتجاه آخر، فجأة بدأت فوهة الكأس تمتد من الجانبين، اتخذت شكلا بيضاويا، وكأنها عين حيوان مخيف انتصبت على أطرافها رموش طويلة حادة كالنبال، ومن حيث لا يدري امتدت لتلتف حوالي رأسه ورفعته إلى أعلى وألقت به داخل الكأس. شعر بالاختناق وبدأ يخبط في سائر الاتجاهات بيديه ورجليه، تارة يسبح في صفاء البياض، وتارة أخرى يغرق في بركة من الظلام ... أدرك أنه هالك لا محالة، سرى التعب في جسده، وسرعان ما استسلم لقدره، ومن حيث لا يدري زال عنه الخوف والهلع، حاول فتح عينيه عله يدرك، ويعي ماذا يحصل، فسمع صوتا هادئا يقول له: لا تخش شيئا، هون عليك ... أنت الآن في حضرة العين السحرية، أريدك أن تقف على حقيقة ما يقلقك ،وتدرك ما يؤلمك ،ولعل ذلك يساعدك على التخلص من همك وأرقك. آفتك يا صديقي، هي عقلك ونظرك الذي يهتم بكل التفاصيل، تريد معرفة كل شيء وبذلك تحمل نفسك هماً فوق طاقتك. صحيح أن الإنسان صار يراكم المعارف بلا مقدار ،لكنه بالمقابل فقد حسه السليم ومهارة الحكم على الأشياء والسير على هدي القيم والمباديء، وقد شهد عصرنا تطوراً خيالياً لعلوم الطب،ومع ذلك نعاني من أخطرالأمراض وأشدها فتكاً، الأموال التي نربحها اليوم تقارب الخيال، ومع ذلك لم نعرف سبيل السعادة، وفقدنا القدرة على المرح والإبتسام.نستطيع سبر أغوار الفضاء لكننا ننسى طرق أبواب الأ هل والأصدقاء في الشارع المقابل. مدننا و طرقنا صارت أكثر اتساعاً والتهمت حقولنا وسواقينا، لكن العقول فقدت مساحات شاسعة من الصبر، والتسامح، . البعض يتضور جوعا، والبعض الآخر يلقي بكميات هائلة من الطعام إلى القمامة. لم يتكلم الإنسان عن التواصل بشكل أكبر من هذا العصر فأصبح عاجزا عن التواصل. صرنا مزهوين ومستمتعين بالدقة والعقلانية وتناسينا جمال الزهور،وطيب الكلام، والقدرة على المحبة. لقد فقد الإنسان قيمة العظمة، وفضل الضحالة. وما من سبيل لاستعادة ما يجب أن تكون عليه الحياة. فأجاب بنوع من الاستسلام: لا مراء في أن التشخيص سليم، ولو دققنا النظر في أمور أخرى، فالنتيجة مؤلمة بشكل أكبر ولاشك. نحن نعيش حالة سشيزوفرينيا مستعصية ،حالة قطيعة بين ما نقول ومانفعل. فالصعوبة لدينا ليست في قدرتنا على تشخيص المعضلات، بل في مدى قدرتنا على إيجاد الحلول، واستنهاض الإرادة للفعل ... يؤلمني أننا قادرون على النقد، وبالمقابل لا نبذل جهدا من أجل الإصلاح والعمل. ومن جديد أجابت العين السحرية: لقد أدركت مكمن المشكلة، وهذا هو الطريق لاستعادة ما يجب أن تكون عليه الحياة. فكر في الأمر ولنا لقاء آخر أرجو أن يكون في القريب العاجل. من جديد تحركت السوائل، شعر بدوخة خفيفة وهو يسبح، وبهدوء أخرجته رموش العين السحرية،وأجلسته برفق فوق مقعده. فنجان القهوة وكأس الحليب لم يبرحا مكانهما أمامه فوق الطاولة. فرك عينيه. وحك رأسه. لم يكن قد أدرك بعد إن كان يحلم أم يحلم بأنه كان يحلم. حسن لشهب. الرشيدية