كما كان مقدرا وصلنا قرية فزوان على الساعة السابعة مساء ، كانت أول مرة تطأ قدماي جهة المغرب الشرقي ، ركنا السيارة قرب محل أواني الخزف ورحنا على مقهى مسيج بقصب الخيزران ، استوينا فوق كراسي خشبية حول طاولة مستطيلة بجوار نافذة عريضة تطل على أشجار البرتقال ، الطقس ربيعي جميل ، فضاء المقهى فسيح ، صوت شجي رقيق للشاب حسني يمر من فوق رؤوسنا يطرب سمعنا ، ينبعث من مكبرات صوت مثبتة على السقف . ترتاح البلدة بين أحضان هضاب وتلال شاسعة . أشجار البرتقال خالية من ثقل الثمرات ، خمنت أننا أتينا في نهاية موسم القطاف ، موسم برتقال منطقة بركان اللذيذ . الرياح تكاد تكون مضربة عن الهبوب ، الأوراق جامدة في مكانها ، الأشجار لا تتحرك . قررنا أن نستريح ونلتقط أنفاسنا بعد رحلة متعبة انطلقت من تازة . قرية فزوان ساحرة تغشاها الخضرة ، يستبد بها السكون والهدوء ، كان المقهى شبه خال من الرواد ، ربما لأن أجواء كورونا مازالت تخيم على البلدة ، الفيروس اللعين ما زال يتربص بالعالم ويقاوم كل محاولات اللقاح المضاد ، لم يختف بعد ولم يتم سحقه ، لقد فتك بأعداد لا يستهان بها من البشر ، لعله استطاب العيش بيننا ، رغم مجهودات منظمة الصحة العالمية إلا أن الفيروس القاتل ما لبث ينغص علينا حياتنا ، صار جزء من الهواء الذي نستنشقه ، قرر أن ينشط ويمكث أكثر ، نطارده لكنه صامد ، ما لم يتم القضاء عليه سيظل يفتك بنا ويقتلنا في صمت . مددت بصري نحو الهضاب البعيدة ، كانت لحظات الغروب ، أخذت الشمس تلملم أشعتها الحارقة ، بدأت تستعد للمغيب رويدا رويدا ، أرخت بخيوطها فوق السهول الخضراء وقد رسمت لوحة بهية بلون قرمزي مضيء . ما إن عدلنا جلستنا والتقطنا أنفاسنا حتى أقبل النادل بخطى حثيثة ، شاب أشقر طويل القامة ، ضخم الجثة ، على لسانه لكنة جزائرية ، حيانا بابتسامة وديعة . قلت له لهجتك ومظهرك يوحي وكأنك جزائري ، تذكرني بأصدقاء جزائريين رافقتهم خلال إقامتي الطويلة بلندن ، أطلق الشاب ضحكة صفراء لا تخلو من توتر ارتسم على قسمات وجهه الواجم ، لم يرق له كثيرا حديثي ، فرد علي بحنق شديد : لا يشرفني هذا التشبيه سيدي ، أنا فخور بمغربيتي وأكره الجزائر حتى الموت ، وأجدادي ينحدرون من هذه الأرض الطيبة ، أرض بني يزناسن . رده القوي أزعجني قليلا ، ليس هناك ما يبرر كلامه القاس هذا ، وأنا الذي عاشرت الجزائريين ووجدت معظمهم يعشقون المغرب ويحبون المغاربة ، كانوا يحترمونني ، لطفاء للغاية ، ولا تعتريهم أية عصبية . بدا الشاب صارما متجهما فيما يقول ، قلت في نفسي : لا ينقصني سوى سماع دروس في الجغرافيا وصراع الشعوب من نادل معتوه هذا المساء !. قلت له حسنا ، نحن جئنا لنشرب من مياه فزوان الطبيعية الساخنة ونكتشف أرض أجدادك من قبيلة بني يزناسن . تبسم الرجل وخاطبنا قائلا : مرحبا بكما ، هل ممكن أقدم لكما مشروبا ساخنا أو باردا ؟ طلبت عصير برتقال فيما اختارت سارة كأس شاي بعشبة لويزة . وبعد أن عاد النادل من حيث أتى رحت أنقل بصري إلى الشارع ، على طوله أشجار مورقة ظليلة وكراسي خشبية مبثوثة ينعم الزوار بالجلوس عليها بعد سفر مضني ، قبالتي رصيف عريض يحتشد فيه جمع غفير من المارة يهرولون تجاه السقاية . من الشرفة تلوح حامة فزوان ، شلة من زوار غادين ورائحين يحملون قارورات وقناني فارغة يموج بهم المكان ، يتجمعون حول الحامة كسرب من الطيور . يتسابقون ..يتزاحمون.. وكأنه وقع في ظنهم أن المياه المعدنية المتدفقة ستنحبس في أي لحظة ، لا أدري لماذا نحن العرب لا نستطيع أن نقف في طوابير منتظمة مثل باقي شعوب العالم ، أقصد شعوب أوروبا تحديدا ، لا صبر لنا على الانتظار ، دائما مستعجلون ، نسابق الزمن ، وكأن الشمس ستتوقف عن الدوران حول هذا الكون ، يا للعبث ! معظمنا يهدر زمنه متجمدا فوق كراسي عند أرصفة المقاهي يرقب مؤخرات نساء غاديات رائحات ، يلعب الورق أو " يقرقب الناب" في مواضيع تافهة . لا يستريح منهم الرصيف سوى عند مقابلة كلاسيكو ، فريق يشجع ريال مدريد وآخر يذود عن برشلونة بكل بلاهة . يصرخون .. يتنابزون..ويتقافزون كالمجانين من أماكنهم عند تسجيل الهدف . حينها يتسمرون على كراسي رديئة في ملهاة كروية يتابعونها على الشاشة بشغف إلى حد الجنون . ولما كل هذه العجلة ، ما دامت الحياة تسير بسرعة الحلزون في بلادنا ؟ ، ألا يردد المغاربة شعارهم الشهير "لي بغا يربح العام طويل"؟ . يا للهول ! تناقضاتنا عميقة ومهولة . نحن قوم تستهويه الفوضى ويستلذ الصخب والتدافع . قفز ذهني إلى مشهد شبيه حينما كنت شابا يافعا ، كنا نتجمع حول شبابيك تذاكر السينما والحافلات ، نتزاحم مثل ذباب مزعج . لا جديد ! ما زلنا في عداد الدول المتخلفة ، أصابني إحباط شديد ، لم يتغير شيئ منذ منتصف الثمانينيات . صديقي حمزة يقول ذلك راجع إلى قلة الوعي وفقر في الثقافة ، أنا أقول هذا غير صحيح ! عندما وطئت قدماي أرض القارة العجوز مع رهط من طلبة متعلمين صرنا نتدافع ونتقاتل حول شباك تذاكر القطار بالجزيرة الخضراء وكأننا قطيع من ضباع متصارعة ، أحسست وكأن شيطانا يسكننا ، ويحفزنا على سلوك هذا المنحى القاتم ، شيطان النرجسية البغيضة الذي يسكن دواخلنا ، الجميع يريد تحقيق مصلحته الذاتية ، "أنا" وليضرب الزلزال من بعدي . صرت موقنا أننا مجبولين على تخلف مطبق ومريع . منذ بضعة شهور وجدتني في طابور طويل أنتظر دوري لأداء فاتورة الطريق السيار عند مدخل طنجة ، وإذا بي أتفاجأ بسيارات فارهة من صنف مرسديس وفولسفاغن تندفع نحو الخط الأمامي بكل خسة وعنجهية ، يقفز السائقون من الصف دون خجل ، يتملصون من الطابور في مشهد أخرق ، عندما لمحت وجوههم داخل سياراتهم الفاخرة أصبت بالدهشة والغثيان ، معظمهم توحي سحناتهم بالأناقة والتحضر ، يرتدون بدلات فاخرة وهندام بديع ، لكنها مجرد مظاهر خداعة ، حقيقتهم أنهم أشخاص متخلفون بربطات عنق . يغطون عيونهم الزائغة بنظارات شمسية باهظة مكتوب عليها "ديور" و"فرساشي" التي لا تصنع الرقي والتمدن لدى الانسان . يبدو وكأنهم متعودون على خرق القانون وتجاوز النظام . تعد عين فزوان من بين عيون السياحة العلاجية ، الناس تحج إلى هنا من كل حدب وصوب سعيا لرحمة الله في شفائه . يقول أحد رجال القرية إن مياه فزوان تتميز بنفس خصائص ماء "إيفيان" الفرنسي ، إذ شاع أن مائها الطبيعي الساخن خال من الزئبق والنحاس والزنك ، ويشكل علاجا فعالا ضد أمراض الكلي والجهاز الهضمي ، لذلك أصبحت القرية قبلة للمواطنين من كل أرجاء البلد . تحولت الى منتجع للراحة والاستجمام أيضا ، حيث تستقطب آلاف من العائلات والزوار لشرب مائها الطبيعي الساخن والاستمتاع بجمال طبيعتها الفيحاء . حين فرغنا من المشروب وبعد انصرام نصف ساعة ، توجهنا نحو النادل لدفع الحساب ، وما إن هممنا بالانصراف حتى نادى علي الشاب مازحا : حذاري حذاري من الجزائريين ، لا تخالطهم في لندن ، شعرت ببعض الضيق من نصحه السخيف ، فاقتربت منه بعدما مسحته بنظرة هازئة وقلت له : – أستغرب من كلامك هذا وأنا الذي دخلت مقهاكم تحت إيقاع صوت الشاب حسني وخرجت بأغنية الفنان "سولكين" ! – هل تقصد أن المغني الذي يصدح صوته الآن في الفضاء جزائري الجنسية ؟ – نعم ، هو كذلك ، فنان مهاجر من الرعيل الجديد يقيم بفرنسا . – آه ، لم أكن أعلم ذلك ، كنت أظنه مغني فرنسي . – بل هو فنان جزائري متألق يغني بالفرنسية . – ولماذا تفتخر به وأنت لست جزائريا ؟ – لأنه غنى للحرية والحراك بالجزائر . – وما إسم الأغنية التي فتنتك إلى هذا الحد ؟ – ادخل لموقع يوتيوب واكتب "la liberte" ، ثم انقر على زر "ابحث" ؟ – عماذا سأبحث ؟ – عن شيء ثمين مفقود في وطننا العربي يسمى "الحرية" !