هوةُ كَاتب قَال القلمُ حانِقاً: دونَ أن يسْتَحيي مِن نَفسِه، يزعمُ أنهُ كاتِب.. يدخل إلى شقته متأخراً، يفك خيوط حذائه الموحل، ينزعه ويدس الجوربين فيه، ثم يرميه جانبا في شيءٍ من الإهمال. ينتظر أن يسمع غليان الإبريق، مستأنسا بقولة لأحد الكتاب أمثاله، ينفجر-إثرها- ضاحكا كالأخرق. يجلس على الكرسي الخشبي الرفيع، متناسياً أرجله الحديدية الصدئة. يمسكني كالسيجارة، بينما هي منتصبة بين شفتيه. إذ ذاك ظننت أنه سيدخنني و يكتب بها، بيد أنه يخنقني بأصابعه الثلاثة لأشم عفن يده الطائشة. يعصرني فأنزف مداداً، يحرث بي أديم الورقة الناعم، ألتقط أنفاسي المتلاحقة ومدادي على وشك أن ينقضي، فلم تبق منه إلا قطرة تغرغر في جوفي. تكتنفني رغبة جامحة في أن أكف عن الكتابة، سرعان ما أتراجع عن قراري مخافة أن تكون نهايتي سلة المهملات، فألوذ بالصمت و الصمود. يسمع الإبريق المنسي يطفح بالقهوة البلقاء، يلقي بي على الطاولة، ويسرع خطواته ليدرك ما يمكن إدراكه. قالت الورقة محتارة: ظل ردحا من الزمن و هو لا يبارح مقعده، يجلس منقبض الصدر وهو مخالف رجليه. يستسيغ كل كلمة يكتبها برشفة من الفنجان..كلمة..فرشفة..تهوي عليه الكلمات، فيهوي علي بها، بينما أنا لا أجد على من أهوي. من أين له بتلك الكلمات؟ يسكب علي عباراته الغزيرة حتى الغرق، يمسك قلمه ويطعنني به طعنات متوالية، يشوه قسماتي البيضاء بسطور متلاطمة، ما زال يرشف من الفنجان، نسيم محرق ذاك الذي ينبعث منه، وكأنه ثمة هناك سيجارة. يا ترى ما الذي ينفثه؟ بدأت ترتسم علامات الحيرة على محياه، يتنفس الصعداء و صدره مازال منقبضاً، يضع الفنجان اللافح علي و هو يتنهد، الفنجان الحار يكويني و يشويني، حتى أحسست أنني أذوب. دون أن ينظر إلي، يجرني من أسفل الفنجان، فتندلق القهوة دفعة واحدة علي. ما لم ينبس به أحد: قهوة البارحة على المقعد الخشبي، ربما اليوم يبلي حسنا، فهو بارد.. يتطلع إلى الورقة البيضاء أمامه في أسف، الصمت الساجي يرخي مسمعيه، ويشاطره شيئا من أحاسيس الصمم. يكسر رتابة الجو فيدق الأرض بطرف قدمه، يجعل القلم يدور بين أصبعيه، و يده الأخرى تكابد حمل خده. عيناه الجاحظتان تتيهان في أقحل صحاري الأرق. مازال ينتظر أن تجود له مخيلته بشيء ما..أي شيء..تارة يحك أرنبة أنفه، و تارة أخرى يمسك رأسه بكلتا يداه. يرجع بصره إلى الورقة في حنق، مازالت فارغة، و كأنه ينتظرها أن تمتلئ لوحدها. ولما بلغ اليأس أوجه، انزاح عن مقعده، ورمى بالكرسي جانبا، وانهمك يبحث له عن مضجع في هذه الفوضى. يرمي الكتب المكومة في شكل جبل جانبا، يستلقي، يسدل جفنيه متوقعا أن يغط في نوم عميق.. عميييق. * كاتب مغربي