قبل أن تنشر الشمس أشعتها الاولى من رحم الفجر في أديم السماء، إعلانا بميلاد يوم جديد، حينئذ تكون "رحمة بنت مبارك" صفقت من خلفها باب بيتها القصديري الكائن بحي المصلى، تاركة أكثر من ثمانية من أبنائها غارقين في سبات عميق. رغم أنها بلغت من العمر عتيا، أكثر من مئة سنة ونيف، طوال هذا العمر الممتد من الزمن، لم تحذ المرأة العجوز عن خط سير حياتها قيد أنملة، بقيت وفية لموعدها اليومي مع الغابة، لم تتخلف يوما قط، ولو في المناسبات الدينية، تجدها صبيحة العيد تجر رجليها في طريقها لمنتزه الرميلات، كانت الغابة بالنسبة لها الرئة التي تتنفس منها عائلتها الصغيرة من يواظب على زيارة غابة الرميلات، سواء للتنزه أيام العطل أوعند نهاية الأسبوع، لابد في طريقه أن يتلقى أو يلقي بالسلام على "بنت مبارك" وإن لم يتلق بها فمن المستحيل ان تخطأ عيناه المرأة العجوز وهي تحتطب من الغابة، أو في طريق قفولها عائدة وعلى ظهرها رزما من الحطب يغطي جسدها النحيف، وكأن الحطب يمشي على رجليه. يصفها سي أحمد الذي كان يتردد على الغابة كل يوم لمزاولة رياضته المفضلة "الكراطي" قائلا: بنت مبارك امرأة من طراز خاص، امرأة مكافحة، أتذكرها وعلى ظهرها كومة من الحطب، جبال من الحطب، كنت أتعجب للطريقة التي تشد بها تلكم الكم الهائل من الحطب، سرها في طريقة شدها، أما كيف كانت تحمل فوق ظهرها ذاك الكم الهائل من الحطب فهو سر أخر. . يضيف سي أحمد قائلا بكل عفوية : كان أول ما يظهر لنا ونحن في الغابة ،ظهرها، أول ما يتراءى لنا وهي تمشي راكعة بخشوع، مسبحة، مستندة على عكازها، كومة الحطب التي تحملها على ظهرها، فجأة سكت مردفا: بنت مبارك قديسة ....قديسة الغابة. صارت غابة الرميلات مقرونة باسمها، بنت مبارك، حتى كادت تسمى الغابة بإسمها بنت مبارك، بل هناك من ينادي عليها بغابة بنت مبارك. ولكن من كان يتوقع أن تكون نهاية القديسة، مأساوية الى هذا الحد، أم هو القدر لا يحابي احدا كأسنان المشط، حتى بنت مبارك التي عشقت الغابة وجعلت منها مورد رزقها تسد به بطن أبنائها، ما كانت ليدور بخلدها يوما، أنها ستنتهي الى رماد كابي. حينما توغلت صباح يوم من أيام الله ببطن الغابة كعادتها، محتطبة من شجرة الصفصاف، شب حريق مهول بفعل فاعل، لم يمهل الحريق الذي انتشر بسرعة بسبب الرياح الوقت لبنت مبارك لتنجو بنفسها، لتتحول الى جثة متفحمة، بجوار ما احتطبته صبيحتها، ولتعرف بذلك بشهيدة الغابة .. رحمة بنت مبارك.