لم يسعف قرار مجلس الدولة (محكمة عليا)، أول أمس الجمعة، بتعليق حظر ارتداء لباس البحر الساتر "البوركيني" في منطقة مطلة على المتوسط، المجتمع الفرنسي، في حسم الجدل الذي تفجر في البلاد صيف العام الجاري، بل تحول إلى امتحان صعب يواجه مفاصل المفهوم السائد للعلمانية في فرنسا ويطرح تساؤلات حول الهوية الثقافية التي يسعى البلد الأوروبي لتعريف نفسه بها. في البداية رفضت إدارة مسبح شمالي مرسيليا طلبا تقدمت به جمعية محلية لإقامة نزهة في المسبح لنساء يرتدين "البوركيني"، الأمر الذي تطور لاحقا خلال الشهر الجاري إلى حظر، وصل إلى إجبار الشرطة امرأة على خلع اللباس على شاطئ بمدينة نيس، وهي الخطوة التي كانت بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، في القضية التي يبدو أنها ستكون جزءا من الحملات الانتخابية لرئاسيات 2017. ويغطي "البوركيني" كامل الجسم ما عدا الوجه واليدين والقدمين، والاسم مشتق من كلمتي "برقع" و"بكيني". وإلى جانب الانتقادات الواسعة التي طالت الحظر، ورأت عدم الحاجة إليه في أوساط مختلفة داخل المجتمع الفرنسي، عادت مساءلة مفهوم العلمانية الصارمة في فرنسا لتطفو إلى السطح مجددا، مع الأصوات التي بدأت تعلو حول عدم شمولية المبادئ التي أسست عليها البلاد وهي الحرية والعدالة والأخوة لقسم من المواطنين الفرنسيين. فرنسا التي تضم حوالي 6 ملايين مسلم وهو العدد الأكبر في أوروبا، متخبطة في كيفية تبرير حظر طال نساء يردن الجلوس أو السباحة في شواطئها بما يتناسب مع معتقداتهن، سواء للرأي العام الداخلي أو الخارجي. السؤال المطروح على العلمانية الفرنسية حاليا "ما الخطر الذي تشكله امرأة تجلس على الشاطئ أوتريد الاستجمام مع أطفالها في أيام الصيف الحارة مرتدية لباسا تختاره، على المرتكزات التي بنيت عليها الجمهورية؟". أيهما علماني المواطن أم الدولة؟ جدل "البوركيني" جعل النقاش حول إطار العلمانية والواجب أن يجري تحت مظلتها في مقدمة المواضيع القانونية التي باتت حديث الشارع في الدول التي تتبنى المفهوم، هل الدولة هي وحدها العلمانية أم الامر ينسحب على أدق التفاصيل المتعلقة بالمواطن. بالنسبة لنتالي غوليت، السيناتور عن منطقة أورن (شمال غرب)، والمعروفة بأبحاثها حول الإسلام والمسلمين، فإن "فرنسا الدولة هي العلمانية وليس المسبح أو المايو". أما الكاتبة إيمان عمراني فتعتبر في مقال بصحيفة الغارديان البريطانية أن "حظر البوركيني أظهر ازدواجية فرنسا في مفهومها حول العلمانية". مسؤولات بالجمعية النسائية بمرسيليا التي تعرضت للحظر، مؤخرا، قلن في تصريحات صحفية أن بلدية سارسيل القريبة من العاصمة باريس تخصص مسبحها للنساء اليهوديات المتدينات منذ 3 أعوام، ولم تظهر ردة فعل تجاه هذا الوضع، علما أنهن يدخلن بلباس محتشم خاص بهن. بدوره قال سيرجي سلامة مدير مركز "CREDOF" المتخصص بأبحاث الحقوق الأساسية، ومقره باريس، "لا يوجد في القوانين الفرنسية ما يدعم حظر البوركيني، والحرية الشخصية قاعدة أساسية في دولة القانون"، مشيرا إلى أن "القانون الصادر عام 2014 والخاص بحظر الرموز التي تشير إلى المعتقدات الدينية لا يطبق إلا في المدارس الحكومية". عجز حكومي في التعامل مع المشكلات التي يواجهها المسلمون سلط حظر "البوركيني" الضوء على الصعوبات التي تواجهها فرنسا العلمانية منذ فترة طويلة في دمج السكان المسلمين والتعامل مع المشكلات التي تواجههم. وبقيت الإدارة الفرنسية عاجزة عن التغلب على المشاكل الحقيقية لما يقارب من 6 ملايين مسلم، وعوضا عن ذلك راحت تبحث عن هياكل تقدم من خلالها وجهة نظرها في الحل، ومثال ذلك "مؤسسة الإسلام من أجل فرنسا"، التي من المقرر أن يرأسها وزير الداخلية السباق جان بيير شوفنمان. مواقف شوفنمان وقدرته على تقديم الحلول من خلال المؤسسة المذكورة بدت واضحة من خلال مناشدته المسلمين "الابتعاد عن الأنظار" في الفترة التي تفاقم فيها الجدل حول "البوركيني". وفي هذا الصدد، تروي إسراء تات، سيدة الأعمال المسلمة، جانبا من النظرة السلبية التي تعاني منه المحجبات في فرنسا، قائلة "كنت في مقابلة عمل بباريس، وقال لي الشخص الذي يقوم بالمقابلة مستهزئا: لم نكن نرى المحجبات في السابق إلا في الضواحي، لكننا نراهم حاليا في كل أماكن باريس". ازدياد الطلب على "البوركيني" بعد حظره يبدو أن رياح الحظر والجدل حول لباس البحر "الشرعي" أتت بما تشتهي سفن أهيدا زانيتي الأسترالية التي صممت "البوركيني"، إذ قالت إن مبيعاتها من التصميم زادت بشكل كبير. وأوضحت زانيتي (من أصول لبنانية) أنها كانت تتلقى بين 10 إلى 12 طلب يوميًا قبل الجدل، لكن العدد ارتفع إلى 60، ومن بين الذين اشتروا اللباس نساء غير مسلمات. ردود فعل مناهضة للحظر أعربت وزيرة الثقافة الفرنسية نجاة فالو بلقاسم، عن عدم رضاها بالقرار قائلة إنه "سيصعد من الخطابات العنصرية، ويزيد الطين بلة". الزعيم اليساري المتطرف جان لوك ميلينشون، انتقد القرار مشددًا على أن فرنسا لديها مشاكل أكثر أهمية وطارئة. وقال ميلينشون "إذا كان لا بد من الحظر، فيجب حظر الملابس والمجوهرات الخاصة بجميع الأديان، مثل الكيباه غطاء رأس مستدير يرتديه المتدينون من الرجال اليهود)". المرشح الرئاسي وزير الثقافة السابق بينويت هامون أعرب عن استيائه بالقول "متى ستنتهي ردة الفعل المريضة هذه تجاه المسلمين؟". أوروبيا، قال وزير الخارجية الإيطالي أنجلينو الفونسو، إنه من غير الممكن أن تشهد بلاده التي تحترم المعتقدات الدينية، حظرًا من هذا القبيل. أما رئيس بلدية لندن صادق خان فطالب ب"عدم التدخل فيما ترتديه النساء"