إن النقابات اليوم تعيش على إيقاع جمود باد، تخفيه بعض الشيء خرجاتها المناسباتية التي تكون في الغالب متصلة بمصالح تضمن لها استمرارها التنظيمي، فالمتتبع للمشهد السياسي بصفة عامة والعمل النقابي بصفة خاصة ببلادنا، يلاحظ أن النقابيين اليوم وهم في غمرة صراعاتهم الهامشية بالنسبة لمصلحة البلاد والعباد فهم لم يعط اهتماما كافيا لولوج عنصر جديد الساحة النقابية وتجاهلوه لفترة طويلة من الوقت، إنه المواطن...! المواطن الذي اكتوى ويكتوي بنار الواقع المعاش وبالوضع المتردي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتعليميا... فإحساس المواطن بالوضعية الهشة... دفع الدولة إلى الإنسياق وراء فكرة الإصلاح - بينما النقابات تغط في سباتها العميق - إصلاح عن طريق العنف...والعنف لم يكن أبدا في يوم من الأيام وسيلة أو غاية للإصلاح، يقول سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لم يكن في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه، ويعطي الله على الرفق ما لا يعطي على العنف وما يعطي على سواه) صدق رسول الله عليه وسلم الملاحظ أن كثرة الإعتقالات التي يقوم بها المخزن تدخل في إطار المراقبة الأمنية الإصلاجية... وهذا الوضع أدى إلى عزوف تام للشباب للإنخراط في العمل النقابي. فعلى ضوء هذه المقاربة الشمولية ذات العمق التحليلي والتوجه السوسيو- ثقافي الواضح لواقع البلاد فهل بمقدور أية نقابة تدعي أنها مستقلة جماهرية ديمقراطية أن تمتلك الجرأة للقيام بإضرابات عامة، مقارنة بمناضليها المحسوبين على رؤوس الأصابع بالعشرات أو بالمئات؟ 1- المخزن حي لا يموت: في الحقيقة إن العمل على هذه الواجهة ليس بالعمل الهين، وإنما هو عمل شاق إذا استحضرنا خصوصيات المرحلة التي تعيشها المركزيات النقابية أو قل الساحة السياسية بصفة عامة. والخطير في الأمر هو أننا نلاحظ أن المخزن أصبح طرفا سياسيا أجتماعيا، سعى وباختلاف الوسائل والإمكانات إلى تحييد دور العمل النقابي وتقزيمه من الفعل الإجتماعي، أما الرهان الحزبي تمثل في استتباع العمل النقابي وتوظيفه في كل صراع سياسي حزبي، سواء مع الذات أو مع الغير، أيا كان هذا الغير، وهذا ينطبق على كل المركزيات النقابية وبدون استثناء الدليل على ذلك أن كل صراع وانشقاق حزبي يتبعه أطماطيكيا صراع وانشقاق وتفريخ نقابي. وقد لوحظ هذا جليا في تجربة التناوب والتوافق، وما بعدها ظهر الرهان المشترك، بعد اتفاقية غشت 1996م لمنح الشرعية لفهوم السلم الاجتماعي وإدخال المركزيات النقابية في حوارات فارغة مع الحكومة وهي في غنا عنها، وفي اتفاقيات ينسخ بعضها البعض وفي صفقات مع الحكومات المتوالية، رغم أن السلم الإجتماعي لا يقوم إلا على حسن الإنتاج وعدالة التوزيع، فإن ما يشغل السلطة المخزنية هو تمكنها من إقناع المركزيات بتقزيم مطالبها إلى حدود الدنيا بواسطة جدلية التدجين والتهميش والحوار القائم على المغانم الشخصية أساسا، فأدخل هذه المركزيات إلى موت سريري. الغريب في الأمر أنه من لم يحصل على مغانم مرضية ما عليه إلا الإنشقاق والتفريخ تحت مبررات شتى... ليؤسس البديل التاريخي الحزبي أو النقابي، الذي لم يمر عليه مدة قصيرة حتى يتصارع وينشق ويفرخ وذلك تحت إمرة وبركة المخزن، فأمام هذا المشهد، يبقى العمل النقابي أو بالأحرى الثقافة النقابية السليمة محكومة بضرورة استباقها بعمل سياسي صحي. فالعمل النقابي المسمى بالمستقل، إما أن يكون خدعة مرحلية، ورائه أيادي خفية ما، تلعب بعواطف الناس إلى حين اللحظة المناسبة لتتكشف الأوراق. وإما أن تكون النقابة مستقلة فعلا على مستوى التأسيس والقوانين، فتدبير المخزن معها يتم على أساس من يقودها. الملاحظ أن مواقف المركزيات النقابية ورؤاها المجتمعية، هي تابعة لمواقف الأحزاب والقوى السياسية الموجودة في هذه النقابات والمدبرة لها وتصوراتها السياسية والإجتماعية والتي يمكن حصرها في ثلاثة اتجاهات معارضة: - الإتجاه المعارض للنظام السياسي والمطالب بالإصلاحات الدستورية، وهو اتجاه أحزاب اليسار. - الإتجاه المعارض للحكومة والعمل النيابي ومعارضة بعض مشاريع القوانين، والتدبير الحكومي وهذا اتجاه الأحزاب المتمثلة في البرلمان ( مجلس النواب والمستشارين) - الإتجاه المعارض للنسق برمته، والذي يرمي إلى العمل على بناء ميثاق مجتمعي حداثي جديد، قائم على استحقاقات لتخليق الحياة العامة والسعي ما أمكن على تغيير النسق بكامله في مختلف مجالاته، وهذا الإتجاه يمثله التيار الإسلامي الحقيقي. الملاحظ أن ما يعيشه العمل النقابي والسياسي في بلادنا دليل على التبعية والإمعة، والإعجاب الغير المشروط بأفكار الغرب والتزين بزيه البراق الخادع والنهل بلهف من ثقافته وقيمه، المخالفة لثقافتنا شكلا ومضمونا - حبذا لو استطعنا أن نأخذ اللب ونترك القشور- وهذا من أعطاب النقابيين حيث أصبحوا يغردون خارج الصرب لا يميزون بين الصالح والطالح ليس في محاولة لإعلان التميز ورفض ثقافة القطيع ومعاندة تيار النسق العام، ولكن في إطار نظرة طوباوية فارغة تهفو إلى تكريس التميز والإختلاف عن العامة، وعليه نجد قلة من النقابيين – الأحرار الفضلاء- يشتغلون على مشروع فكري ملتزم بعيد المدى، بحيث يضيق المشهد النقابي لأصحاب المقاربة الكسولة والتصور الآني الذي لا يخلو من انتهازية في الطرح والتحليل. 2- 2- العمل النقابي... أية آفاق؟ اما اليوم فإن العمل النقابي بصفة خاصة يعيش على ضفة أزمة عمل مباشرة. فتأثيرات الماضي البعيد وأفكاره، والشيوخ التي ألصقت بهم كراسيهم ومدهم يد التواصل مع المخزن الذي ربما قد خرجوا من رحمه في فترة زمنية ما، هذا الوضع دفع به لشراء صمتهم. رغم اختلاف مشاربهم وتلويناتهم الإيديولوجية. في حقيقة الأمر هذا مأشر واضح على نهاية هذا الأخطبوط وبداية عهد التحولات والإصلاحات. فكل المستضعفين في الأرض يتطلعون إلى بديل يحقق لهم العدل والمساوات، بدل الرأسمالية المتوحشة التي أصبحت تمسك بخيوط كثيرة، تهدد الإنسانية و لا تدير للأخلاق اهتماما، وكيف لا والمخزن أحكم قبضته الحديدية على مختلف التضاريس الاجتماعية، فالدولة المخزنية العميقة – وبكل ما تملك من قوة - تصبو دائما إلى إدخال النقابات تحت معطفها التوجيهي الناعم، مما يدخل المركزيات العقم النقابي. فالفعل النقابي اليوم يجب أن يحرر الإنسانية من الإستكبار العالمي والطبقية، وبناء مجتمع العمران الأخوي وإقامة العدل والإنصاف والحرية والكرامة الإجتماعية. لقد حان الوقت ...بل آن الأوان لنضع النقط على الحروف أو بمعنى آخر لنضع يدا في يد لإقامة جبهة نقابية موحدة تدوب فيها خلافات جميع الأطياف والتنظيمات ويرفع فيها مطلب التغيير. لأنه من علامات النضج والرشد النقابي أن يستبعد العقلاء - خاصة عند المحطات الحساسة- كل الخلافات والتوترات أو عندما يكون الخصم واحد. وذلك لبناء ديمقراطية حقيقية تعبر عن فكر ناضج وراشد. لكن يجب أن نعلم أيضا أن غياب الديمقراطية الحقيقية الداخلية وضعف آليات الإستقطاب ومحدودية التدخل النقابي وارتباطه في الغالب بمحطات نضالية موسمية كلها عوامل تجعل المواطن عازفا عن الإنخراط ورافضا لفكرة الإنضواء في أي تنظيم نقابي. لقد حان الوقت...لخلق تحالف نقابي لأنه هو خيار المرحلة الإستراتيجي الذي يحقق إقلاعا ديمقراطيا بل إقلاعا مؤسساتيا الذي سيدير الشأن العام بكل شفافية، متحديا كل الرهانات والإكراهات السياسية، حتى تصبح الدولة كافلة للرعاية الاجتماعية لما للكلمة من معنى... كنموذج الدول الإسكندنافية مثلا، قد يعتبر البعض هذا الطرح حلما، لكن أنا أعتبره نقلة نوعية وإصلاحا جوهريا لتخليق الحياة العامة. وأخيرا، يتبين مما سبق أن النقابات في حاجة إلى ثورة داخلية إصلاحية تنظيمية بمعنى آخر ثورة حقيقية على الأسالب العتيقة في الممارسات اللاديمقراطية، ثورة - منبثقة من إرادة المناضلين الحقيقيين - يرتب من خلالها البيت الداخلي للنقابات وتشبيبها ودمقرطتها وبناء جبهة قوية ومتينة تجمع كل الفصائل...لبناء مشروع متين إنطلاقا من أرضية يحكمها ميثاق أخلاقي توقع عليه جميع الأطراف والإبتعاد عن المراهقة النقابية التي ليس لها رأي ينضبط إلى المسار النقابي الديمقراطي الحقيقي.