يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفسية ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال إليه. فإن عوّد الخير وعلّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب. وإن عوّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه والوالي له." وبالتالي يؤكد خبراء التربية أن القيم التي تغرس في السنين الأولى من عمر الطفل خاصة في الفترة ما بين 3-7 سنوات هي التي تكون شخصية الطفل فيما بعد، لذلك فيجب على الآباء والأمهات وضع خطة عملية مدروسة لهذه المرحلة العمرية خلال تربية الأبناء، حتى لا تمر هذه السنوات سدى. التربية الإيمانية للطفل من الموضوعات الهامة التي يجب أن يركز فيها الآباء والأمهات، فعقلية الطفل في هذه المرحلة المبكرة قادرة على استيعاب الأساسيات التي تركز على المفاهيم الإيجابية الجميلة التي تتعلق بالخالق عز وجل، فالطفل يتقنُ أولَ ما يتقن التعلقَ والحب، ولذلك فإن الحرص على غرس محبة الله في نفوس أطفالنا أساس لتوحيده سبحانه، فقد جبل الطفل على التعلق وحب من أحسن إليه. فإذا عرف الطفل أن خالقه هو الله، وأن رازقه هو الله، وأن الذي يطعمه ويسقيه هو الله ازداد حباً له. الله الخالق فمن مراحل مبكرة من عمر 3 سنوات، كلما يرى الطفل شيء بديع من خلق الله، نسأله كيف ترى هذا البحر، أو كيف ترى هذه الثلوج؟ رائعة الجمال ؟ خلقها الله عز وجل لنا، وهكذا نغرس فيه مفهوم بديع خلق الله ، خلق السماوات والأرض، خلق الإنسان والحيوان، كلما تستطيع أن تلفت انتباه الطفل حول هذه الأمور زادت قوة إيمانه. وفي مرحلة بعدها نسأله مما تكون الثلج؟ من الماء .. فتسأل الطفل هل أعطيك بعض الماء فتجعلها تتساقط ثلوجاً؟؟ فتقول له سبحان الله الخالق القادر على كل شيء، فتغرس فيه الإيمان بقدرة الله عز وجل. الطفل في هذه المراحل الأولية يرى كل ما هو جميل، لذلك من المهم جداّ التركيز على الترغيب، فتصف له الجنة، وكلما أحسن عملاً تخبره بما سيكون له في الجنة، ولا تتحدث أبداً عن النار في هذه المرحلة! كما أن التحدث يومياً مع الطفل عن النعم التي وهبها لنا الله عز وجل من الأمور التي تغرس في الطفل حب الله، ومن أبسط ما يكون أن تقول له عينك الجميلة التي تراني بها، وترى بها ألعابك، وترى بها القطط والعصافير التي تحبها خلقها لك الله تعالى، وبعد الخامسة من العمر قد تلعب معه لعبة أن تعصب له عينه فلا يرى شيء، وتطلب منه أن يتخيل أنه بلا عين كيف ستكون الحياة، وتتركه بعض الوقت يحاول الإمساك بها، وبعدها تقول له أن يحمد الله أن له عيناً، وتكرر الأمر أن تربط له يداه، أو قدمه ويتخيل أنه بدونهما، هذا يغرس في الطفل الرضا بأي ابتلاء بإذن الله تعالى. دعاء الضالة.. طفل تعلق بالله كانت هناك والدة كلما ضاعت لعبة طفلها، أو أي شيء من متعلقاته، تأخذه بين ذراعيها وتردد معه - رغم حروفه المتكسرة - دعاء الضالة، فما يلبث إلا أن يجد ما يريد، فتقول أنه تعلق بالله عز وجل، وتعلق في قلبه أن الله مستجيب الدعاء، فقد يردد دعاء الضالة أحياناً، فيجد ضالته بعد يوم أو اثنين، فهذا غرس به أن الله يستجيب الدعاء حتى ولو بعد حين، فأصبح الطفل لا ينام إلا بعد أن يدعو الله تعالى بكل ما يريد، وهكذا تعلم مناجاة الله عز وجل من الصغر. ومن هنا أيضاً تستطيع الأم إن أخطأ الطفل - طفل تعدى 7 سنوات - أن تطلب منه الجلوس في غرفة وحده، وأن يحصي الخطأ الذي قام به - مثلاً يقول يا ربي أنا صرخت في أمي، أو ضربت أخي، أو أخذت شيئاً ليس ملكي، أو كذبت، وتطلب منه أن يستغفر حتى يشعر أن الله تعالى قد رضي عنه، وهذه فرصة أن نغرس في الطفل أهمية الاستغفار بعد الخطأ، فيعتاد الطفل في كبره على التوبة باستمرار. كما أن رؤية الطفل للوالدين وهم يدعون الله عز وجل بخشوع مهم جداً، فمجرد رؤية طفل - في حدود 3 سنوات فيما فوق- لهذا المشهد يغرس فيه أن الله فارج الهم مستجيب الدعاء، بيده كل شيء، فلا مانع أن تطلبي من الطفل أن يرافقك في الصلاة والدعاء بصوت عالي، وبأدعية بسيطة يفهمها الطفل وأهمها" اللهم اغفر لنا، اللهم ارزقنا الجنة". ابني.. الله يراك ومن المهم في المراحل الأولى من عمر الطفل أيضاً أن يغرس فيه أن الله يراه، والله مطلع عليه، وأن يتم هذا بشكل ترغيبي لا ترهيبي، فعندما يقوم بفعل حسن نقول له أن الله رآك، وقد كتب لك بهذه حسنة، كأن نطلب من الطفل أن يجمع ملابسه الزائدة ليتصدق بها، ونأخذه ليعطيها بنفسه للفقير، ونقول له أن الله يراك وقد كتب لك بهذه حسنة، بل ولا مانع من تسجيل هذه الحسنات في ورقة كبيرة - بيضاء اللون - تعلق في غرفة الطفل، حتى يشعر الطفل بمراقبة نفسه، هذه المواقف الإيجابية تغرس في الطفل حب الله تعالى، والرغبة الدائمة في أعمال الخير، فقد كان لقمان الحكيم يعلم ابنه قائلاً: "يا بني إذا أردت أن تعصي الله فاطلب مكاناً لا يراك فيه". وفي كلامه إشارة إلى أن الله لا تخفى عنه خافية فلا تعصه، فغرس مراقبة الله في نفوس الأطفال يوقظ لديهم الخوف من الله فيبعدهم عن ارتكاب الذنوب والمعاصي، مما يؤدي إلى الحياء من الله عز وجل. ولا مانع أيضاً من تسجيل الأخطاء - في ورقة سوداء - مع عدم التركيز عليها، فعندما يكذب الطفل نرسم "وجه حزين" فيذكر الطفل أن الله لا يرضى عن الكذب، لكن دون معايرة الطفل بهذا الخطأ، أو معاودة لومه، ولا حتى ذكر أن الكاذب سيدخل النار! فذكر النار لا يأتي إلا بعد 7 سنوات، وهي بداية تعلم الطفل للصلاة، وحفظ القرآن، ووقتها يكون بتفسير القرآن المبسط للطفل، فيسقط تفاسير الآيات على واقع حياته اليومية وبما فيها وصف النار وأهوال يوم القيامة دون تخويفه أو تنفيره. الرضا والقناعة وبعد عمر السابعة نستطيع أن نتحدث مع الطفل بشكل مبسط عن مفهوم الابتلاء، ومفهوم عدم الكمال، وعلاقتهما بالرضا، قد يكون هذا من خلال حديث مفتوح بينها وبين الطفل إن هو اشتكى من مرض مثلاً، فقد تخبره أن الله يبتلي عباده ليرى من يصبر ويقول الحمد لله، وتردد مع الطفل الحمد لله. وقد يشكو طفل مثلاً أن ليس لديه دراجة مثل صديقه، فتتحدث معه أن الله أعطاه الصحة، وأعطاه أب وأم، فما المشكلة إن لم يكن يملك دراجة، فغيره لا يملك بيتاً، ولا أب وأم، فليحمد الله. ومن الجيد أن يطلع الطفل - ما بعد الخامسة من العمر - على ابتلاءات الأطفال غيره حتى تغرس فيه القناعة والرضا، كأن تقف أمام طفل من أطفال الشوارع، وتخبره أن هذا الطفل لا مسكن له، وليس لديه أب أو أم، وتعطيه نقوداً يتصدق بها، وتطلب منه أن يتخيل إن كان مثله، فيحمد الله تعالى، وفي نفس الوقت حتى لا يخاف الطفل تخبره أنها معه دائماً. وخلال هذا يغرس في الطفل أن يعمل للآخرة، فالصدقة هي ادخار للآخرة، والطفل سيفهم هذه القيم، فإن ضربه أحد الأولاد ثم عاود يطلب منه لعبة، أن رفض طفلك فتحدثي معه عن قيمة العفو، وأن هذا عمل للآخرة لطلب الجنة، كلما وجدتي طفلك متعلق بشيء من الدنيا لا تنزعجي، بل اتركيه فهو طفل، لكن فقط تحدثي معه عن الجنة، صفي له كل ما يريده في الجنة، احضري ورقة كبيرة علقيها على الحائط واطلبي منه أن يرسم ما يريده في الجنة، هذا سيساعدك بشكل كبير في مرحلة المراهقة بإذن الله تعالى، فالطفل الذي استوعب مسألة الإيمان ورسخ في قلبه توحيد الله وحبه في صغره لا يصعب إقناعه ببقية المسائل الإيمانيّة في الكبر، بل يجدها واضحة ويتبعها بكل جوارحه وكيانه.